1 صراع الدين والسياسة في نماذج إيران، العراق والسعودية
عباس بوصفوان
الاخبار اللبنانية
يمكن النظر إلى منطقة الخليج على أنها محطة استثنائية لدراسة تأثيرات الدين على السياسة والعكس، في ظل محاولات لا تنقطع لاستتباع الآخر. ويتحدث هذا المقال/ الورقة عن تجللين لجدلية هذه العلاقة.
التجلي الأول: العلاقة بين المعتقد الديني والأمور السياسية الدنيوية، في الأنظمة الحاكمة على ضفتي الخليج، وتحديداً في تجارب إيران، العراق، والسعودية.
التجلي الثاني: الصراع بين الديني والسياسي كما يتبين في أطروحات الحركيين الإسلاميين في بعض دول مجلس التعاون الخليجي التي شهدت احتجاجات أو مطالبات شعبية منادية بالتغيير، في أولى مقاطع ما سمي بـ«الربيع العربي». على صعيد أنظمة الحكم، سنتحدث عن ثلاثة تمظهرات تعبّر عن العلاقة الفارقة بين الديني والسياسي السعودية والعراق وإيران:
إيران: ولاية الفقيه المقننة
في إيران، نموذج إسلامي، وفق المبنى الشيعي الاثنا عشري، مثبت دستورياً، ينتهج ثنائية ولاية الفقيه والمؤسسات الدستورية المنتخبة. ويلعب رجال الدين دوراً استثنائياً في رسم السياسات وتسيير كافة شؤون الحياة العامة.
ويتمتع المرشد – الذي يتوجب أن يكون آية الله وخبيراً في شؤون الدين والدنيا – بصلاحيات واسعة، يستمدها من الدستور الذي أقره الشعب في استفتاء حر، في مارس/ آذار ١٩٧٩، ثمّ على تعديلات الدستور في عام ١٩٨٩، والتي وسّعت صلاحيات الولي الفقيه.
وتمكّن النموذج الإيراني من بناء أمثولة تمزج بين الفرضيات/ النظريات الإسلامية من جهة، والنموذج الغربي في بناء المؤسسات الدستورية من جهة أخرى.
وينتج ذلك تسيّد خريجي الحوزات وآيات الله على مساحات واسعة من أطر الحياة، لكن المنتخبين من هؤلاء المعممين عبر صناديق الاقتراع، وليس المعينين.
وتعلي الصيغة الإيرانية من شأن الحضور الشعبي في المشهد السياسي. فقد بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة – التي فاز بها الرئيس حسن روحاني – نحو ٧٣ في المئة.
وهناك جدل مشروع فيما إذا كان هذا المثال يجسّد تعبيراً كاملاً عن النموذج الديمقراطي الغربي أم لا؟ والجواب سريعاً بالنفي.
وفي ظني، فإن متانة النموذج الإيراني تكمن في كونها إبرازاً خاصاً لمركزية الدين والفقيه في الذهنية الإسلامية الشيعية، وفي الوقت عينه، تجلياً للوعي الإيراني الملحوظ بأن فرض النموذج الإسلامي بالقوة على المواطنين أمر يتناقض والإسلام، وروح العصر أيضاً. ومن هنا تنبثق المؤسسات الدستورية – الملتزمة بتطبيق النص الديني – عبر صناديق الاقتراع. وتتصارع القوى المختلفة سلمياً ودورياً لنيل ثقة الشعب.
وفي ظنّي أيضاً، فإن فرضية تبلور قالب إيراني أكثر انفتاحاً قد تمت إعاقتها بسبب المحاولات الغربية لإجهاض التجربة الجمهورية الإسلامية.
الإسلام السياسي يواجه تحديات استثنائية سواء كان في المعارضة أو السلطة
بيد أن الحرب الغربية والعربية ضد نظام طهران أدت في المقابل إلى تقوية الجذور الشعبية للحكم الذي جاهد للجمع بين المفاهيم الدينية ونتاجات الحضارة الإنسانية في إدارة شؤون الدولة.
لقد بات الحكم بثنائية الجمهورية والإسلامية واقفاً على رجليه، بسبب الالتفاف الشعبي أساساً. كما تمكّن النظام الإيراني – في حالات عدة – من تحويل الكثير من تحدياته السياسية والعسكرية والاقتصادية إلى فرص.
ولما كان الهجوم الغربي قادراً في معظم الحالات على زيادة اللحمة الإيرانية، فإنه لا يصح تغافل افتراض الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في أن انفتاح واشنطن على طهران ـ إثر الاتفاقية النووية – قد مهد الطريق لاختراق أميركي للمجتمع الإيراني.
ولعله من مصلحة إيران أن الرئيس الحالي دونالد ترامب، في مسعاه الدؤوب لإشعال العالم والإقليم ضد طهران، فإنه يقضي تماماً على فرضية أوباما تلك، مؤقتاً على الأقل.
وبسلوكه المعادي، يلفت ترامب الإيرانيين من جديد للنوايا الأميركية غير البريئة تجاه نموذج الاستقلال والتنمية الإيراني.
والتنمية هذه مفتاح آخر يدركها الإسلاميون الحاكمون في طهران، ويستوعبون أنهم بحاجة إلى بذل مزيد من الجهد لملاحقة عالم يتغيّر باطراد. فالإسلام دين ودنيا أيضاً، خصوصاً مع تطلّع قطاعات لا يستهان بها في طهران وضواحيها إلى النماذج العربية الخليجية المجاورة التي ترتفع فيها ناطحات السحاب بعد أن كانت صحراء قاحلة مع بزوغ الثورة الإيرانية في عام ١٩٧٩.
لكن ربما على الإيرانيين التبصر في عينة الاستقلال المفقودة خليجياً، والهوية المهددة في هذه البلدان. ورغم وجود الكثير مما يحتاج إلى إنماء في منظومة اتخاذ القرار في طهران، فإن تسمية الحكم الإيراني بالإسلامي والجمهوري تفصح عن توافق مطلوب ومقبول وذكي وقابل للتطور، بما يقي إيران من صراع غير منضبط بين مبادئ الدين الراسخة والمقدسة، واستراتيجيات السياسة وتكتيكاتها المتسمة بالتبدل.
ويبدو أن التصويت الشعبي قادر حتى الآن على أن يكون المرتكز الأهم لتجربة إيران، وهو ما يستدعي على الدوام توسعته وتنميته وتقنينه.
العراق: ولاية الفقيه غير المكتوبة
في العراق، يقع مركز الحوزة التقليدية الشيعية. ويتمتع المرجع الديني الأعلى عادة بتأثير واسع النطاق في مسار التطورات العراقية. ولا يغيّر في ذلك أن «صلاحيات» المرجع غير مكتوبة دستورياً، ولا مقننة في تشريعات البرلمان. فهذه «الصلاحيات» محل التقدير والاعتبار من قبل الكافة، ومن قبل الأطراف المحلية والإقليمية والمؤسسات الدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأميركية التي افترضت خطأ أن غزوها للعراق سيمكنها من وضع حوزة النجف في جيبها.
ويزيد من مكانة المرجع الأعلى وجود مقره في الدولة التي تضم مرقد الإمامين علي وابنه الحسين، ومراقد أخرى لأئمة أهل البيت (عليهم السلام).
ولا شك أن متبنيات آية الله السيد علي السيستاني كانت ولا زالت حاسمة في المسار الذي سلكه العراق. سواء لجهة عدم مواجهة الاحتلال الأميركي بالسلاح، أو لصوب كتابة الدستور بأيد عراقية، أو لناحية تشكيل جبهة مقاومة مضادة لـ«داعش» تحت مسمى الحشد الشعبي، أو حتى لجهة الإطاحة برئيس الوزراء السابق نوري المالكي واختيار حيدر العبادي بدلاً منه. في كل ذلك، بصمات آية الله السيستاني كانت حاضرة.
ويلعب الظرف السياسي الاستثنائي للعراق، والمكانة التي تحظى بها حوزة النجف، وشخصية السيد السيستاني، وطبيعة فهمه لدور المرجعية والعراق، إضافة إلى تعقيدات الإقليم والتشابكات الدولية تأثيرات متباينة في الخلاصات التي تنتهي إليها قرارات وتوجيهات السيد السيستاني وفتاويه.
إن النقد التقليدي الذي نسمعه في بعض أرجاء حوزة النجف والموجه للنموذج الإيراني بشأن تدخل الفقيه في السياسة، لا يغيّر من حرص السيد السيستاني على الإدلاء برأيه على الدوام في المشهد المتحرك، بل والتدخل بفتواه إذا رأى أن الحاجة تقتضي ذلك.
ويحرص الساسة العراقيون الشيعة والسنة والأكراد على لقاء السيد «القائد» إذاً في هذه الحالة، كما يُسمى المرشد الإيراني. وربما ليس سراً القول، إن خطب الجمعة لممثل السيد السيستاني تناقش في مجلس الوزراء العراقي.
وفي ظني، لا يحتاج نموذج ولاية الفقيه على الطريقة العراقية إلى تقنين، فذلك يرهق المرجع والدولة. وعلى الأرجح، فإنه كلما ترسخت مؤسسات الدولة، وتبلور واقع متين لتشكيل الحكومة والإطاحة بها سلمياً ودورياً عبر الانتخابات، كانت الحاجة أقل إلى تدخل المرجع. ولذا، علينا توقع أن يدوم إلى سنوات تدخّل مرجعية النجف في الشأن السياسي العراقي.
السعودية: تحالف «العلمانيين» والدينيين
تُسمي السعودية النصوص التي تنظم سلطات الحكم «النظام الأساسي للحكم». لا تسميه دستوراً، فدستورها – كما تقول – «كتاب الله تعالى وسنة رسوله».
ويمنح وجود مدينتي مكة المكرمة والمدينة المنورة مكانة دينية خاصة للسعودية في ذهنية الرأي العام الإسلامي. ويحمل الملك السعودي لقب «خادم الحرمين الشريفين»، وتدعي العائلة الحاكمة أنها تحكم باسم كتاب الله. وتتحالف مع نموذج إسلامي محافظ، أسسه الشيخ محمد بن عبد الوهاب. لكن نظامها الأساسي ينص على أن «نظام الحكم في المملكة العربية السعودية، ملكي. ويكون الحكم في أبناء الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود»، ويصعب نسبة تلك الأمثولة للإسلام، فالقرآن الكريم والسنة الشريفة لا تحيلان الحكم إلى ملك عضوض.
من هنا، يدور الحديث عن حكام آل سعود العلمانيين الذي يتحالفون مع الدينيين المحافظين.
وطالما برز النقاش إزاء قدرة آل سعود على تسيير مشايخ الدين. لكن ذلك لم يكن بالمجان، فمقابل ترك ميدان السياسية لملوك آل سعود، فقد بنى مشايخ نجد بأموال النفط والغطاء الرسمي للدولة، نفوذاً وهابياً/ سعودياً هائلاً، وأطراً يصعب الفكاك منها، في داخل السعودية، لكن أكثر في خارجها.
الكثير من الظواهر «الداعشية» تراها سائدة في السعودية، في مؤسساتها وقوانينها ومحاكمها ومناهجها التعليمية وتطبيقات الحدود. وربما يعكس التعاطي مع المرأة، والقوانين واللوائح والممارسات المتصلة بالمواطنات السعوديات والنساء المقيمات في المملكة، أبرز أوجه ملامح النفوذ الوهابي في السعودية. ولذا، فإن حجم المقاومة لقيادة المرأة للسيارة – مثلاً – كبير للغاية، وربما يكون ذلك آخر حصن للوهابيين المتعصبين. بيد أن المسيرة لم تكن هيّنة كي يفرض آل سعود إيقاعهم على مشايخ نجد، الذين يرضعون من أفكار محمد بن عبد الوهاب التكفيرية والمتزمتة.
وقد حدث أكثر من صدام بين المؤسسة الدينية الوهابية والمؤسسة السياسية السعودية، لعل أشهرها وأكثرها حدة موقعة السبلة في ١٩٢٩، حين أراد ابن سعود الالتزام بالحدود مع العراق والأردن والكويت التي رسمها الانجليز، وتجميد الغزوات الداخلية بعد أن استتب له الأمر على مساحات شاسعة من شبه الجزيرة العربية، فيما أراد المسلحون الوهابيون – الذين كانوا يسمون الإخوان – المضي في الغزوات خارجياً وداخلياً، بتبريرات دينية وأخرى ذات صلة بطبيعة السلوك البدوي ـ حينها ـ حيث الغزو أداة للنهب والنهب المضاد. والحادثة البارزة التالية في الصدام بين آل سعود والوهابيين تتمثل في احتلال جهيمان العتيبي الحرم المكي في عام ١٩٧٩. وقد تحالفت الوهابية السعودية طوال عقد الثمانينيات من القرن الماضي مع الولايات المتحدة، وأنتجت تنظيم القاعدة، التي اصطدمت بالثنائي السعودي والأميركي، على خلفية افتاء مشايخ نجد بجواز التواجد العسكري الغربي على «أرض الحرمين»، والاستعانة بهم لتحرير دولة الكويت من غزو صدام حسين.
ومنذ حرب أفغانستان، بات النموذج السلفي الوهابي المسيّس عابراً للقارات، منتجاً لنسخ من الوهابيات، لا تكاد تسحق واحدة إلا وانبلجت أخرى… وعلينا توقع نسخة أخرى جديدة بعد اندحار «داعش».
وطالما حرص آل سعود على الحد من نفوذ المؤسسة الدينية. ولعل أبرز ملامح ذلك، إقصاء الدينيين من إدارة الجهاز الإعلامي الضخم، إلا باستثناءات لا تغيّر من حقيقة تحكم ما يسمى في السعودية بالليبراليين – وما هم كذلك – على جهاز الإعلام المتضخم والنافذ. وعادة ما يدير غير المتدينين قنوات «إن بي سي» العملاقة بالمقاييس العربية وشبكات الصحف والمواقع الإلكترونية ومراكز الدراسات والتأثير الممولة سعودياً، وهذا لا يمنع وجود مساحة للدينيين في بعض القنوات، لكن مساحتهم الرئيسية في المساجد التي تنتشر في كل زاوية في السعودية، والإعلام غير الديني يستثمر لمواجهة المساجد المتشددة. وفي ظني، إن السماح لصوت عاقل ومعتدل مثل الشيخ حسن فرحان المالكي يأتي أيضاً ضمن المحاولات الرسمية للحد من تغلغل الوهابيين.
ومع ذلك، وفي المعركة ضد قطر مثلاً، يتقن آل سعود استعمال مشايخ نجد والنخبة النجدية غير المتدينة في مجال الإعلام والفكر للنيل من الدوحة.
الإسلاميون أظهروا براعة في المناورة السياسية لا تقل عن مناورة الحكومات
وبالمناسبة، فإن أحد أسباب الغضب السعودي من الدوحة، هو المحاولات القطرية الدؤوبة للاستحواذ على الوهابية والتمدد في أوساط النخبة النجدية. وخير دليل على ذلك مثالين معروفين: ١. انتساب عائلة آل ثاني لابن عبد الوهاب، ٢. بناء قطر أكبر جامع في الدوحة باسم مسجد الإمام محمد بن عبد الوهاب، افتتح في ٢٠١١. فالدوحة لم تستتبع الإخوان فقط، فتأثيراتها على الوهابيين ليست قليلة.
وإذا كانت شرعية السعودية تقوم على حد السيف والبعد الديني الوهابي فإن شرعية الحكم في البحرين تقوم كلياً على حد السيف. ورغم المحاولات بوضع كلمة أمير المؤمنين في دستور مملكة البحرين لعام ٢٠٠٢، فإن ذلك لم يكن مستساغاً، فلم يستند الحكم تاريخياً على تبريرات دينية، كما لا يتم تداول مصطلح ولي الأمر إلا استثناء.
لقد أمّن التحالف بين آل سعود «العلمانيين» والإسلاميين الوهابيين قدراً من الاستقرار في طبقة الحكم في نجد. وانفصال عرى هذا التحالف قد يضعضع الطبقة الحاكمة ويشتت جمهورها النجدي. على أن الغائب الأكبر في التجربة السعودية هو دور المواطن في اتخاذ القرار، وهو أمر يتنافى والدين وقيم السياسة الحديثة.
جدلية الدين والسياسة في حركات الربيع العربي
في ٢٠١١، ساهمت الفصائل الإسلامية في قيادة التحركات السياسية في البحرين، والإمارات، وشرق السعودية، والكويت. لكن الملفت أن معظم هذه الحركات نادى بالتحول نحو الديمقراطية وإصلاح شؤون الحكم، ولم يتبن الدعوة لقيام حكم إسلامي وتطبيق الحدود. فمثلاً في البحرين، فإن الدعوات التي قادها الإسلام السياسي الشيعي تحدثت إما عن تأسيس نظام جمهوري ديمقراطي، أو ملكية دستورية تنشئ حكومة وبرلمان منتخبين، ولم يتبنّ أي من هذه الأحزاب الدعوات لتأسيس نموذج إسلامي. وحتى إبان انخراط جمعية الوفاق الشيعية المعارضة في البرلمان بين ٢٠٠٦ – ٢٠١١، لم تكن الأجندة الدينية التقليدية حاضرة، إلا استثناء. وربما ترك موضوع محاربة ما يسمى بالفساد الأخلاقي للقوى السلفية والإخوانية، التي رفعت مرات هذه الشعار، لكن على الأرجح كتكتيك. فقد تكثفت أولوية الإسلاميين الشيعة حول توسيع صلاحيات المؤسسات المنتخبة، فيما تركزت أولوية الإسلام السني على إهدار هذه الصلاحيات المحدودة أصلاً وتضييقها، على اعتبار أن قيام نظام ديمقراطي في البحرين قد يصب لصالح الأغلبية الشيعية.
حتى في حالة الراحل الشيخ نمر النمر، الذي لا يحسب على تيار الإسلام المعتدل، فإن خطابه تركز على إصلاح النظام السياسي والمساواة والعدالة في السعودية.
صحيح أنه أطلق دعوات سياسية يصفها البعض بالراديكالية، مثل الدعوة لسقوط حكم آل سعود وآل خليفة، وهي دعوات غير معتادة في المنطقة، لكن ليس من بين مطالبه الدعوة لقيام حكم إسلامي شيعي في شرق السعودية.
في الإمارات، قدم الإخوان المسلمون، في بداية الربيع العربي (مارس ٢٠١١) عريضة تطالب بمنح «المجلس الوطني الاتحادي الصلاحيات التشريعية والرقابية الكاملة… وانتخاب جميع أعضائه من قبل كافة المواطنين كما هو مطبق في الدول الديمقراطية حول العالم». ولم يكن ضمن الطلبات أي إشارة للخروقات التي تسجل في دولة الإمارات ضد المظاهر والممارسات والقوانين التي توصف بأنها غير إسلامية. في الكويت أيضاً، ورغم الحريات الأوسع والحضور اللافت للجسم السلفي والإخواني في تحركات ٢٠١١، فإن المطالبات الرئيسية تركزت حول تشكيل حكومة شعبية، بقيادة رئيس وزراء من عامة الشعب، بدلاً من أبناء عائلة الصباح الحاكمة، وليس إقامة حكومة إسلامية. ويتهم البعض الحركات الإسلامية المعتدلة بتبني خطاب علماني، حين تفرّغ خطابها السياسي أو تنأى به عن أي مضمون ذي خصوصية إسلامية.
لكن هذه الحركات تقول إن استحضار الديمقراطية والدولة المدنية والانتخابات من صلب الدين الإسلامي. ويزيدون – فوق ذلك – أن المناداة بتطبيق صارم للدين يتناقض وروح الشريعة. وعلى الأرجح، فإن الحكومات الخليجية والحركات الإسلامية تواجه الإشكالية نفسها بشأن حدود العلاقة الملتبسة بين السياسي والديني. فالإسلاميون – سنة وشيعة – في البحرين والكويت وفي العراق أيضاً يستخدمون النص الديني في الترويج الانتخابي، وكذا تفعل الحكومات حين تقمع معارضيها أو حين تصبغ على الحاكم لقب ولي الأمر واجب الطاعة. وليس بعيداً عن الصواب القول إن كلّاً من العديد من الحكومات والتيارات الإسلامية تقدم المصالح، ثم تبحث عن تخريجة دينية لها، إن اقتضى الأمر.
وتلك ليست الإشكالية الوحيدة التي تجابه الإسلاميين، فمع إخفاق الإخوان المسلمين في مصر وحزب الدعوة في العراق، في تقديم نماذج حاكمة نزيهة وفاعلة ومستقرة، فإن شكوكاً تتزايد إزاء قدرة الإسلاميين المعتدلين في الخليج على القيام بأعباء المعارضة، كما أعباء الحكم.
بيد أن هذا المنظور الناقد لأداء الإسلاميين قد يتجاهل العنف الحكومي الذي يواجه الإسلاميين المعارضين كما في وضع البحرين، أو التحدي السعودي الإماراتي وتغول المؤسسة العسكرية كما يتبدى في حالة مصر إبان حكمها من قبل رئيس إخواني (محمد مرسي)، أو آثار انحلال الدولة العراقية التي أفرزت تجربة معقدة واكبت قيادة حزب الدعوة للحكومة في عراق ما بعد ٢٠٠٣.
في كل التجارب المذكورة (العراق، البحرين، الكويت، مصر)، هل الأداء كان يمكن أن يكون أفضل إذا ما توافرت ظروف أفضل؟ ربما، لكن حتى في هذه الحالة قد يأتي الجواب سلبياً من السودان حيث يقود الإسلام المعتدل منذ عام ١٩٨٩ جمهورية السودان إلى مزيد من التفسخ والضعف، وهذا لا يمنع عمر البشير من إطلاق نداء الله أكبر حين ينفصل جنوب السودان أو يسقط مئات الآلاف في دارفور في حرب أهلية أكلت الأخضر واليابس.
مع ذلك، من المؤكد أن الإسلام السياسي يواجه تحديات استثنائية سواء كان في المعارضة أو السلطة، وليس الصراع بين الديني والسياسي إلا إحداها.
خاتمة
تعج المنطقة الخليجية بنماذج تفتح الجدل على مصاريعه إزاء خلافية السياسي والديني. وتتمظهر في إيران والعراق والسعودية عينات لتأثيرات وصراعات المصالح والمبادئ والغايات في إدارة المؤسسات الحاكمة ومجابهة تحديات الواقع والتعامل مع الخصوم.
وتواجه هذه الأنظمة تحديات مختلفة إزاء فك الاشتباك بين المقدس والدنيوي. ويبدو دور المواطن ومدى فعاليته في توجيه دفة القرار وتوزيع الثروة حاسماً في ترشيد الصراع بين ما هو من صلب النص وبين اختيارات البشر، في ظل تفسيرات متضاربة لكل من النص الديني والمصالح السياسية.
وعلى الأرجح فإن النظام السعودي، مقارنة بنظامي إيران والعراق، أكثر عرضة للتصدع مع تغييب أي دور للمواطنين في اتخاذ القرار. فبينما تشهد إيران والعراق جدلاً صحياً – يحتاج إلى إنماء – بشأن فعالية الدولة ومؤسساتها الدستورية وتجري فيهما انتخابات دورية، تغيب هذه الممارسات كلياً عن الداخل السعودي.
وعلى صعيد الحركات الإسلامية، فإنها سجلت إخفاقات في تجاربها البرلمانية، تشريعياً ورقابياً، وعلى صعيد المشاركة في الحكومة، وحتى على صعيد المعارضة الميدانية والسياسية، كما في حالة الكويت ومصر والأردن مثلاً.
ويضع ذلك أطروحات الإسلاميين أمام تحدي الصدقية ونجاعة القدرة على مواجهة أسئلة الواقع الملحة. مع ذلك، يبقى الإسلاميون الرقم الصعب في المعادلة، والبديل للقفز على الكرسي أو تصدر واجهة المشهد السياسي إذا ما سنحت الفرصة، لكن نجاحهم في ظل التعقيدات الراهنة والاستهداف الغربي لهم وبطء استجابة الحركيين للمتغيرات، يضع أسئلة جوهرية حول فرص نجاحهم في أي تجربة مقبلة.
إن الشرط لنضج الإسلاميين هو التجربة. ومن دون شك، فإن انعدام الممارسة الحزبية والبرلمانية في معظم دول مجلس التعاون الخليجي لا يتيح للإسلاميين كما لغيرهم أية فرصة لصقل مهاراتهم السياسية واختبار رهاناتهم الأيديولوجية.
لكن لا بد من الإقرار بأن الإسلاميين أظهروا براعة في المناورة السياسية لا تقل عن مناورة الحكومات أحياناً، مما يجدد الجدل حول مدى ارتكاز براغماتيتهم على مقولات النص أو تبدلات الواقع.
إنه في الحقيقة جدل صحي لا ينتهي، ولعل في الارتكاز على البعد الأخلاقي في التعاطي السياسي مدخل مهم للتقليل من الآثار السلبية للممارسات المصلحية التي تغيّب المبادئ والغايات النبيلة للدين والقيم الرسالية والإنسانية.
إن تخليق السياسة (أي جعلها ذات أبعاد أخلاقية ومراعية للفضيلة وحقوق الإنسان والمستضعفين)، وعدم الانجراف في النمط السياسي المكيافيلي، وتفادي تطبيقات «الغاية تبرر الوسيلة»، مدخل يستحق التبصر في المحاولة الدؤوبة لفك الاشتباك بين الديني والسياسي، فكلاهما يسعى لتحقيق مصالح المواطنين.
2 اولى بيانات المقاومة وبوش يعترف
وليد الزبيدي
الوطن العمانية
إعترف الجيش الأميركي بمقتل ثلاثة من عناصره في بغداد ومحيطها، بتاريخ (18- حزيران/يونيو- 2003) فقد سقط قتيلا (Robert l.frantz)، وعمره 19 سنه من تكساس. كان يخدم ضمن فوج المشاة 36،الفرقة المدرعة الأولى، وتقول وكالة اسيو شيتدبرس، إنه قتل خلال نوبة حراسة، وإن مسلحين ألقوا قنبلة يدوية من فوق حائط ما أدى انفجارها إلى مقتله في الحال.
في نفس اليوم (18/حزيران/2003) سقط قتيل اخر من الجيش الأميركي في بغداد، ولم تعلن القوات الأميركيه عن مقتله في بياناتها لذلك اليوم، هو (Michael R.deuel ) وعمره 21 سنة، وكان يخدم في الكتيبة الثانية، فوج المشاة 325، الفرقة المجوقلة 82 من سكان ولاية كارولانيا، وسقط قتيلا بطلق ناري بينما كان في نوبة حراسة حسب الواشنطن بوست الأميركية.
جنوب بغداد، وتحديدا في منطقة الاسكندرية، هاجم المقاومون العراقيون القوات الأميركية، واعترف الجيش الأميركي بمقتل احد جنوده هو (aul t.nakamara P) ويبلغ من العمر 21 سنة، من سكان كاليفورنيا، واعترف الجيش الأميركي بمقتله اثناء معركة مع المسلحين وحصلت يوم (19/حزيران_ يونيو/2003).
وهاجم المقاومون العراقيون السيارة التي كان يستقلها بأسلحة (ار.بي.جي) ما أدى إلى مقتله وجرح اخرين.
لم يكن صدى هجمات المقاومة العراقية المبكرة محصورا داخل وحدات الجيش الأميركي والبريطاني فقط، فقد انشغل البنتاغون بذلك، وللمرة الأولى، يلمح مهندس الحرب على العراق واكثر المسؤولين الأميركيين بعد الرئيس بوش تفاؤلا بتحقيق اهداف الحرب كاملة، بول وولفويتز نائب وزير الدفاع، ألمح بعد اجتماع مع الجنرال بيتر بايس نائب رئيس هيئة الاركان المشتركة واعضاء لجنة القوات المسلحة في الكونغرس إلى أن القوات الأميركية ستحتاج إلى ميزانية 3 مليارات دولار شهريا للإنفاق على الوجود العسكري الأميركي في العراق (نشرت وسائل الأعلام الأميركية تصريحات وولفويتز في 19/6/2003).
في يوم الثلاثاء (17 حزيران/يونيو 2003)،تبنت مجموعة تطلق على نفسها اسم (سرايا المقاومة العراقية) جميع العمليات والهجمات التي تعرضت لها القوات الأميركية بالعراق، وبسبب رفض وسائل الإعلام المحلية العراقية الإشارة إلى اسم المقاومة العراقية، فقد تجاهلت ذلك البيان جميع الصحف والإذاعات والفضائيات، إلا أن بعض الصحف الأميركية والعربية نقلت بعض فقراته، وأشارت إلى أن هذا البيان يأتي بعد ازدياد عمليات المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأميركي في العراق.
وقالت صحيفة (الشرق الاوسط اللندنية في عددها الصادر يوم الجمعة 20 يونيو- حزيران 2003) إن جبهة تطلق على نفسها اسم (جبهة الفدائيين الوطنية) قد هددت بتكثيف عملياتها ضد الأميركيين إذا لم يغادروا العراق فورا. ونقلت الصحيفة عن الجبهة في رسالتها “نقول لهم: إن أرادوا سلامة جنودهم فعليهم الرحيل فورا عن أرض العراق الطاهرة، وإلا سننتقم لكل عراقي قتلوه أو اهانوه أو سلبوا بيته”.
بعد خمسين يوما فقط من إعلان الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش (الانتصار الكبير) في خطابه الشهير في الأول من مايو 2003، أرغمه المقاومون العراقيون على الاعتراف بحجم المقاومة المتزايد، ففي يوم الاحد (21/حزيران- يونيو/2003)، قال بوش في كلمته الأسبوعية، إن القوات الأميركيه في العراق ستواجه ايضا مخاطر وستقدم تضحيات، وخلص إلى القول- حسب وسائل الإعلام الأميركية – إن جيوبا خطرة من العناصر المرتبطين بالنظام السابق مع حلفاء لهم من الإرهابيين يقفون وراء الهجمات الدامية الهادفة إلى قتل وإرهاب قوات التحالف والعراقيين الأبرياء).
3 لحظة عراقية ورسائل في كل اتجاه زهير ماجد
الوطن العمانية
كل العراق مشى في الساحة تحت قوس النصر ممثلا بجنوده البواسل. عاد النبض إلى تلك الساحة التي شاهدنا فيها في السابق فيالق وألوية وقوى ورئيسا يحمل بندقية بيد واحدة. انها الساحة التي خططت لتكون شبيهة بالساحة الحمراء في موسكو او بالساحة الخضراء في ليبيا او بساحة الشانزليزيه في باريس، لكن المميز فيها ذلك النصب والسيفان وقبضة اليدين، كل ذلك من عبقرية فنان عراقي هو النحات خالد الرحال الذي عاش خارج العراق ثم طولب بالعودة في السبعينات من القرن الماضي، في حين لا تخلو شوارع بغداد من الساحات الشهيرة وخصوصا تلك التي تحمل اسم “الجمهورية” حيث نصب الحرية الذي وضعه النحات والفنان جواد سليم.
فرحنا كثيرا بمشهد القوات المسلحة العراقية وهي تقدم عرضا بمناسبة تحرير الموصل .. هي في الحقيقة ابعد من هذه المناسبة، يريد العراقيون القول ان قواتنا بخير وهاكم نماذجها، ونحن على اتم الاستعداد، وتلك هي الصورة المثلى التي نقدمها للعرب وللعالم وقبلها للشعب العراقي الذي ذاق المر ولم يرتح منذ ان اجتاح جيشه الكويت، وهي غلطة دفعت فيها اثمان غالية، ادت الى نهاية نظام بشكله الكامل وبكل مؤسساته.
لا شك ان الانتصار في الموصل كان اكثر انباء من الكتب، لكنه كان مكلفا ككل الحروب الصعبة في الداخل، ولأنه ليس وقت الحساب، سيظل سقوط الموصل بتلك الطريقة العجائبية بيد الارهاب التكفيري سؤالا لن ينسى، والجواب عليه سيظل مؤجلا ، لأن الادارة السياسية في البلاد ارادت التعتيم بل محو ذاكرة كاملة اساءت إلى العراق في لحظة بناء مهمة.
انتهت مرحلة في الموصل ولم يزل هنالك مطلوب من العراقيين ان يكملوا طريق التحرير، والذي على اساسه يتم تصنيع قوات مسلحة مدربة باللحم الحي، قادرة على ادارة البلاد والعودة به الى ما كانه من قوة ومناعة، حتى انه قيل ان الجيش العراقي كان القوة الرابعة في العالم ابان حكم صدام حسين، وخصوصا بعد ان خرج من حربه مع ايران حيث تعداده يفوق المليون.
لكثير من الأسباب جاءت القوات الاميركية من آخر العالم لتجتاح العراق، لكن المؤكد ان واحدة منها كانت دافعا وراءه اسرائيل التي رمتها قوات صدام حسين بأكثر من عشرة صواريخ بالستية، يقال انها حفزت الاميركي لأخذ الثأر من العراقي بديلا عن اسرائيل.
انه عرض للقوات المسلحة العراقية التي بدون شك تهديه ايضا للشقيق السوري الذي ما زال يقاتل على جبهات متعددة العدو ذاته، لا بل جملة اسماء كونت اعداء. ومثلما صبر العراقيون على حرب تتردد في خوضها جيوش كبرى، يصبر السوريون ايضا، وهم يعرفون ان لا مجال امامهم غير تلك الكلمة السحرية التي عاشوا عليها ست سنوات من التنقل بين الرصاص والقنابل وقدموا لوحة رائعة من المكاسب التي يعجز عنها ايضا جيوش لها خبراتها في ميدان الحروب.
بالأمس بكيت وانا ارى الدبابة الاميركية تتمختر في بغداد، وتتساقط العاصمة شارعا فشارعا امام جحافل الجيش الاميركي، ولم ينشرح صدري الا عندما رأيت عزا جديدا يعود الى عاصمة الرشيد ليلعب دوره العربي الذي اشتاقه، وكان في زمن ما يسمى بجيش العرب، وله شهداؤه في فلسطين وفي سوريا، اضافة الى المليون عراقي الذين استشهدوا ابان الغزو الاميركي.
مشهد القوة العراقي في ساحة العرض رسائل عديدة ايضا لغير الارهابيين ابرزها ضد بعض المغرورين كالبرزاني، أو اصحاب مشاريع التقسيم. من لم يفهم عليه ان يعي اين يضع رأسه.
4 احتفالات سليماني والعراقيين
د. رضوان السيد
الاتحاد الاماراتية
احتفل العبادي من الموصل بتحريرها من «داعش». وفي الوقت نفسه كان الجنرال سليماني يخطب من طهران، فيتحدث عن الجيش العراقي، وعن «الحشد الشعبي» وجهوده، وعن حسن نصر الله وإنجازاته. أما نصر الله فأثنى على العراقيين ليس لأنهم حرروا الموصل، بل لأنهم استعصوا على الأميركيين، وخالفوا توجيهاتهم، لذلك تحقق التحرير(!). أما التحالف الدولي فاهتمّ بهذه المناسبة ليس بتحرير الموصل فقط، بل وبتحذير العراقيين من ظهور «داعش»-2 إن لم تكن هناك مصالحة وطنية.
هل هناك افتراق بين هذه الأطراف؟ يصعُب تجاهل الفروقات والافتراقات. إنما لا يمكن حتى الآن تقدير المديات. ومن ناحيةٍ أُخرى، لا يمكن اعتبار العبادي فريقاً مستقلاً، فقد كان جهده الأكبر منصباً على عدم ظهور الخلاف بين الطرف الإيراني والتحالف الدولي بزعامة الولايات المتحدة.
لكن الأميركيين كانوا يقصدون من وراء نصائحهم أمرين: الحيلولة دون ظهور مناخ تهجير وقتل يؤدي إلى ظهور تطرف آخَر، وعدم إيصال الخلاف مع الأكراد إلى نقطة اللاعودة، والذي حصل في الأمْرين أنّ الأجواء مهيئة بسبب تصرفات سليماني وحشوده لتسممٍ آخر لا تُدرَك عواقبه حتى الآن، إذ هناك خمسة ملايين مهجَّر عراقي منذ عام 2013. وهناك ألوف قُتلوا أو خُطفوا ومصيرهم غير معروف، وبعض ذلك من تصرفات الجيش والشرطة العراقيين، بيد أنّ معظم التهجير والتقتيل يعود لـ«الحشد الشعبي»، فالأميركيون مُحقُّون لهذه الناحية عندما يحذرون من «داعش»-2. وقد بلغ تسميم الجو مع الأكراد حدَّ إقبالهم على إجراء استفتاء على الاستقلال، وبذلك فالصدامات بين الجيش العراقي (المنتصر) والأكراد جاهزة للاندلاع، ولا يحول دونها غير الأميركيين، فإذا قال نصر الله إنّ العراقيين أحسنوا بعدم اتّباع نصائح الأميركيين، فإنّ مخالفتهم تلك ليست جزءاً من الانتصار، بل من الفشل بسبب تصرفات سليماني وميليشياته تجاه السنة والأكراد.
إنّ الدافع الأول لمجيء الأميركيين إلى العراق وسوريا هو مساندة الأكراد، وهم الذين بدؤوا بمواجهة «داعش» عام 2014. وقد حرروا كردستان ومناطق مجاورة منها كركوك، لكنهم ما استطاعوا حماية سنجار من مليشيا «حزب العمال الكردستاني» الذي اتخذ مواقع فيها بدعمٍ من سليماني، لإزعاج البارزاني وتركيا، واستطراداً إزعاج الأميركيين.
وفي هذا السياق بقيت مشكلة تلعفر ومنطقتها التي يتقدم فيها «الحشد الشعبي». ولا تنحصر دلالات ومصائر تلعفر بوجود اختلاط سكاني طائفي وإثني، بل هي منطقة تقع فيما بين الحدود التركية والسورية وإن تكن المسافات شاسعة. ومنطقة تلعفر تتصل أيضاً بسنجار وصولاً إلى الحدود السورية. لذلك فالمشكلة الأعجل هي محاولات إيران وميليشياتها خلق معابر إلى سوريا. وإدارة ترامب لديها بالعراق أولويتان: صَون المنطقة الكردية، والحيلولة دون الوصول الميليشياوي الإيراني إلى الحدود السورية العراقية الأردنية، وهذا سر انزعاج نصر الله من الأميركيين الذين لولاهم لما استطاع الجيش العراقي ولا «الحشد الشعبي» تحرير الأنبار وصلاح الدين ونينوى. تبدو الإدارة الأميركية مصمِّمة حتى الآن على تقليص النفوذ الإيراني بالعراق وسوريا. والاتفاق الأميركي الروسي بعمّان حوله خلاف: مَنْ الذي حقّق مكاسب أكثر؟ والواقع أنّه تتعذر إعادة إعمار العراق والاستقرار في سوريا إن لم تتراجع الميليشيات الإيرانية.
عندما يريد الروس تحقيق شيء على الأرض، يفعلون ذلك بأنفُسهم، لكنْ يستفيد منه النظامان السوري والإيراني. وقد استمات الإيرانيون والأسد للوصول إلى الحدود الإيرانية وإلى الجولان، فحالت دون ذلك الولايات المتحدة بغاراتها. أما الأميركيون فعندهم الأكراد للتأثير، ويريدون العودة لاستئناس الأتراك وفي العراق وسوريا. في العراق، حول تلعفر وسنجار، وفي سوريا حول الرقة وصولاً إلى الحدود التركية. وعند الأتراك تشمل التهديدات: وصل المناطق الكردية لإقامة الدولة، فحلفاء الولايات المتحدة الأقوياء مختلفون فيما بينهم، ولا يريد أردوغان التعاون مع الأكراد السوريين. بينما يريد الأميركيون خطاً تعاوُنياً بين حلفائهم، ولا يعارض الروس ذلك.
تحرير الموصل واقعة متقدمة، ولولا الانتكاسات الناجمة عن القتل والتهجير، وعن تغريب الأكراد، لكان يمكن لها التأثير في استعادة التوازن إلى المشهد. فإيران التي استفادت من أميركا بالعراق، ومن روسيا بسوريا، تمضي الآن نحو مواجهة الولايات المتحدة. لذلك تنتظر البلدين مشكلاتٌ كبرى إضافية.
5
أخطار «داعش» بعد الهزيمة
ليونيد بيرشيدسكي
الاتحاد الاماراتية
يُحتمل أن يختفي تنظيم «داعش» قريباً بعد استعادة الموصل منه، وصار من المرجح أن تستعاد، في غضون أسابيع، السيطرة على مدينة الرقة أيضاً. ومن الجائز ألا يبقى وجود مادي ل«داعش»، ولكن أفكاره المنحرفة العنيفة قد تتناسخ في صيغ أخرى لتظهر في عقول المقاتلين الأجانب العائدين إلى بلادهم الأصلية، وفي الحضور الذي أقامه التنظيم على الإنترنت. ومن المهم تقييم هذه الأخطار والبدء في التعامل معها، حتى قبل الهزيمة العسكرية ل«داعش» التي تلوح في الأفق. فقد ذكرت تقارير أن المقاتلين الأجانب، ممن لم يُقتلوا، يغادرون في جماعات كبيرة وبأعداد يصعب تحديدها. ولكن آلافاً منهم ما زالوا في سوريا والعراق، وكثيرون منهم سيحاولون العودة إلى ديارهم.
ومن الجدير بالذكر أن توماس هيجهامر، وهو مرجع في قضية المقاتلين الأجانب في جامعة أوسلو، توصل في عام 2013 إلى أن من بين 401 إرهابي تورطوا في هجمات في الغرب بين عامي 1990 و2010 هناك 107 إرهابيين سافروا إلى دول أجنبية للقتال في جماعات متطرفة. وقدر هيجهامر أن واحداً على الأغلب من كل تسعة مقاتلين أجانب يعود لينفذ هجوماً في الغرب. ولكن في ورقة بحثية أخرى، في عام 2016، جادل «دانيال بايمان»، من جامعة جورجتاون، بأن النسبة الأكثر دقة ربما تكون واحداً من كل 20 مقاتلاً أجنبياً. ولكن هذا ما زال يعني عدداً كبيراً من الهجمات على كل حال.
ولكن «بايمان» يعتقد أن تهديد العائدين تجري المبالغة فيه أحياناً، لأن بعضهم قد يخرج عن طريق الإرهاب. وبعضهم الآخر قد يذهب إلى ساحات حروب أخرى، حيث هناك فرصة أمام مقاتلي «داعش» حالياً للانتقال إلى أفغانستان ومناطق أخرى توجد فيها خلايا نشطة للتنظيم. وآخرون ترصدهم أجهزة استخباراتية ويخضعون لمراقبة مكثفة حتى لا يصبحوا إرهابيين فاعلين. وبالإضافة إلى هذا، سيعود بعضهم أيضاً إلى بلدانهم بخيبة الأمل لأن «داعش» غررت بهم بدعاوى اكتشفوا زيفها بعد فوات الأوان. وكثير من المقاتلين الأجانب لم يستطيعوا الاندماج مع المحليين، وأوكلت إليهم مهام حقيرة، وشعروا بصدمة من وحشية الصراع في الشرق الأوسط.
ثم هناك شبكة دعاية «داعش» التي ستظل كما هي بعد هزيمة التنظيم عسكرياً على رغم أن تقلص الموارد المالية أضر بشدة بعملياته الإعلامية. وفي نهاية المطاف، فإن إدارة حملات التجنيد على شبكات التواصل الاجتماعي رخيصة، ونشر منتج الدعاية الإرهابي سهل لغاية. ولكن القائمين بالدعاية سيواجهون مشكلة فيما يتعلق برسالة الدعاية. فقد كانت دعاوى السيطرة على أراضٍ دعاية فعالة. ولكن ذاك عهد مضى. وهزيمة «داعش» الكاملة قريبة جداً ومؤكدة. والهزيمة من الصعب الاتجار بها كما علمت «القاعدة» ذلك جيداً عبر سنوات طويلة قُتل فيها زعماؤها، ودُمرت فيها قواعدها واحدة تلو الأخرى.
غير أن سد الذرائع أمام محاولات استغلال معاناة العرب السنة في مناطق العراق وسوريا، التي يجري تحريرها اليوم، قد تكون أكثر صعوبة من معالجة مشكلة العائدين أو عمليات الدعاية المتبقية ل«داعش». والموصل تم تدميرها، مع تحريرها، والرقة قد تسلك الطريق نفسها. وإعادة البناء لأي من المدينتين والمناطق الأخرى التي كانت تحت سيطرة «داعش» تبدو مسألة بعيدة المنال مع الأخذ في الاعتبار حجم موارد الحكومة العراقية والمعارضين السوريين. ويبدو التوصل إلى تسوية سياسية أكثر واقعية، ولكنه حل يستغرق وقتاً أيضاً. وقد يكون الأجدى نفعاً هو تعزيز التدابير الأمنية مصحوبة بعملية إعادة بناء وإعمار، وهو مزيج يصعب تنفيذه بالشكل
6 تحرير الموصل ودواعش الداخل فاضل الطالب القبس الكويتية
تداعيات انهيار دولة الخلافة الزائفة، التي بدأت بشائرها بتحرير الموصل، القت بظلالها على دواعش الداخل، الذين ما انفكوا يوما يؤازرونها وينتهجون فكرها المتطرف جهارا نهارا، ولولا الزخم الإعلامي الهجومي ضد «داعش»، وإدراجها ضمن الأحزاب الإرهابية، لوجدنا هؤلاء يهيمون في كل واد، يقيمون المهرجانات الخطابية، ويملؤون الأرض صخبا وضجيجا، كما فعلوا ذلك في بداية الأمر، عندما صدقوا تخاريف الأوباش بإقامة دولة الخلافة، ففوجئوا بدولة هدفها قطع الرؤوس ونحر النفوس، وما أمر تجهيز «الغزاة» منا ببعيد، عندما اعلنوها بوضوح تام وبإعلانات ملأت شوارع الكويت وبصور «دعاة السفاهة»، حيث تم لهم ما أريد، بتحصيل الأموال وتجهيز بعض الشباب السذج، ومنعوا أبناءهم من ذلك في الوقت نفسه، والغريب في الأمر الصمت المطبق للحكومة آنذاك تجاه هؤلاء، وكأنهم مشاركون في هذه الترهات، فكيف بدولة ذات سيادة لا تحرك ساكنا وتدعهم وشأنهم بتجهيز الأفراد والمعدات الحربية وإرسالها إلى الأحزاب المسلحة الهمجية من «داعش» والنصرة وآخرين، وكأنهم دولة داخل دولة.
والآن بانت تباشير اندثار هذه الدولة الهمجية، فلم يتبق منها إلا بعض الفتات، ولكن الأمر سوف يكون في غاية الصعوبة والمشقة في التعامل مع بقايا الجحافل المنتظر رجوعها إلى الداخل بعد اندحارهم خائبين، ناهيك عمن هم أساسا بالداخل، ممن ينتهجون نفس هذا الفكر الإرهابي، هل نصنع مثل الأمة اللكعاء التي تتخبط يمنة ويسرة وتنتظر مصيرها المحتوم، أم ندعهم وشأنهم لتصاريف القدر ونزيد الأمر سوءا وتعقيدا؟ وهل نهج الحزم والتشدد يأتي بنفع مع هؤلاء، ام منطق «المناصحة» يأتي بمردود إيجابي نضمن «الاستقامة» وعدم عودتهم إلى سلوكهم الشائن، وكان قد جُرّب مع البعض من العائدين من جبهات «القاعدة»، ولم تؤت ثمارها، كما في السعودية عام 2007، حيث اعتمد أول برنامج تأهيلي سخي جدا، حيث تم تخصيص مرتب شهري وشقة وسيارة و20 ألف دولار في حال الزواج، إضافة إلى دروس دينية من قبل أئمة وسطيين بشرط التخلي عن الفكر الجهادي، ولم يثبت جدواه إلى الآن على ما يبدو، فالبعض يعتقد بسذاجة أنه يمكن نصحهم وإعادة غسل أدمغتهم بسهولة ويسر، وهذا أبعد ما يكون عن الواقع، وكيف لنا وقد تعشعش منهج التكفير ومنطق التنكيل في عقولهم بسبب ما لُقنوه منذ نعومة أظفارهم في مدارسهم ونواديهم، من غرس لأفكار ومعتقدات بالية لا تمت إلى الشرع الحنيف بأي صلة، وإنما هي اجتهادات وآراء منسوبة إلى شخصيات ذات طباع عنيفة وعقول متطرفة.
أعلم أن الأمر غاية في الصعوبة، ونحن أمام أزمة كبرى يجب التكاتف والتعاضد للخروج بحلول ناجعة تكفل عدم تكرار المآسي، وقد يكون أحد الحلول في تشديد الرقابة على منابع الفكر المتطرف من مناهج دراسية ووسائل إعلامية ونواد دينية تلقن النشء هذه الآراء الشاذة، وندب مسؤولين على مستوى عال من الثقافة والالمام ببواطن هذا الفكر، ممن يشهد لهم بالكفاءة والحزم للمتابعة والرقابة، ناهيك عن العمل الجاد لنشر الإسلام الوسطي في المساجد والمدارس وفي كل الوسائل الإعلامية، والمهم ألا نترك الأمر على عواهنه، فالخطب خطير جدا وكارثي.
7 ابن طرابلس ونائبها… وضحية حرب البعثين خيرالله خيرالله الراي الكويتية
يطوي غياب الدكتور عبدالمجيد الرافعي صفحة من تاريخ لبنان. لبنان المرتبط مباشرة بالاحداث العربية وتطوراتها وانعكاسها على الوطن الصغير الذي تحوّل في مرحلة معيّنة، في ظلّ الوجود الفلسطيني ثم الايراني، «ساحة» للصراعات والنزاعات الإقليمية وحروب البعثين السوري والعراقي. كان الرافعي شاهدا على تلك الحروب التي كانت مدينة طرابلس من ضحاياها. وكان في كلّ وقت من بين رهائنها ومن ضحايا الظلم الذي لحق بالمدينة التي اختارت ان يكون نائباً من نوابها.
في أيّام الرافعي، الرجل النقي الذي توفّي قبل أيّام قليلة، البعيد اكثر البعد عن مساوئ الانتهازية، وعضو مجلس النوّاب اللبناني، بين 1972 و 1992 وعضو القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي (الجناح العراقي)، كانت المنطقة مختلفة وكان لبنان مختلفاً. المنطقة تغيّرت ولبنان تغيّر. انطفأ السياسي الانسان، الذي آمن بمبادئ معيّنة في موازاة انطفاء الحياة السياسية في البلد. عاش جزءاً من حياته في العراق وفي بلده لبنان حيث استطاع مواطن بعثي يؤمن بالوحدة العربية، أي بـ «القطراللبناني» الوصول الى مجلس النوّاب بفضل ما كان يمتلك من رصيد في طرابلس وليس بفضل الدبابة السورية او سلاح «حزب الله».
كانت ميزة لبنان، الذي لم يتوقف الرافعي يوماً عن خدمته، بدءاً بفقراء طرابلس الذين كانوا يلجأون اليه كطبيب مستعد لمعالجتهم من دون مقابل، انّه قادر على استيعاب كلّ أبنائه. استوعب لبنان أولئك الذين كانوا يعتقدون انّه كان يجب ان يكون مجرّد «قطر» في اطار الوحدة العربية التي مثلت في كلّ وقت وهماً كبيراً وشعاراً فضفاضاً لا معنى عمليا له.
كان الرافعي، ابن العائلة الطرابلسية العريقة البعثي الوحيد الذي استطاع دخول مجلس النوّاب اللبناني عن استحقاق وليس عن طريق طرف سياسي خارجي، كما حصل مع نوّاب البعث السوري. كان لدى الرافعي ما يعطيه للبعث وليس العكس. كان ذلك بسبب لبنانيته وقاعدته الشعبية الحقيقية اوّلاً. كان نوعاً من العملة النادرة في حزب لم تبق فيه سوى قلّة قليلة من الاشخاص الصادقين المستعدين للذهاب بعيداً في الدفاع عن مبادئ آمنوا بها ايماناً عميقاً في مرحلة صعود الأفكار الحالمة بالوحدة والحرية والاشتراكية. كان البعث كلّ شيء باستثناء الوحدة والحرية والاشتراكية. مع ذلك، آمن به رجل مثالي، الى حدّ كبير، مثل الرافعي. بقي «الدكتور عبدالمجيد» رجلا حالما حتّى اليوم الأخير من حياته.
من خلال تجربة الرافعي يتكشف أمران. الاوّل مدى نقاء الرجل والآخر مأساة اللبنانيين الذين كانوا يحلمون بأنّ الوحدة العربية يمكن ان تكون شيئا آخر غير مطيّة لانظمة ديكتاتورية. لا تؤمن هذه الانظمة الّا بإلغاء الآخر، في حين تصلح الشعارات لاستخدامات كثيرة على رأسها الاحتفاظ بالسلطة والتشبث بها الى ابعد حدود التشبث.
ظُلم الرافعي. كان ظلمه من الظلم الذي لحق بطرابلس. عندما انتخب نائبا في العام 1972، كانت طرابلس مدينة لكلّ أهلها. كانت مدينة العيش المشترك. حاز على اعلى نسبة من أصوات المسيحيين فيها. كذلك، على اعلى نسبة من أصوات العلويين. لم يكن نظام حافظ الأسد، الكاره للمدن السنّية، تحكّم بعد بسورية تحكّما كلّيا. لم يكن مدّ بعد نفوذه الى طرابلس حيث جيّش العلويين فيها، من زاوية طائفية، ليكونوا في خدمته وخدمة اجهزته.
قاوم الرافعي، المؤمن بطرابلس كمدينة للعيش المشترك ابعد حدود المقاومة الى ان اضطر الى مغادرة لبنان بعد وضع اليد السورية عليه. رفض، استنادا الى اشخاص عرفوه، كلّ المحاولات التي جرت لاحتوائه. كان الحلّ السهل بالنسبة اليه الانتقال من البعث العراقي الى البعث السوري، لكنّه لم يفعل، كما فعل كثيرون غيره سيتغنون هذه الايّام بمزايا الرافعي ومدى قربهم منه. اختار المنفى على التخلي عن ما كان يعتقد انّه صواب.
بقي الرجل كلّ حياته مقاوماً للنظام السوري الذي اضطهد كلّ بعثي عراقي، كما غيّر طبيعة العلاقة بين السنّة والعلويين في طرابلس مع ما ترافق من تهجير لمسيحيي المدينة الثانية في لبنان وعاصمة الشمال فيه. وزاد هذا الاضطهاد للبعثيين العراقيين كلّما زاد التغلغل الايراني في لبنان. انّه تغلغل في العمق ارتبط بالعلاقة بين طهران والبعث السوري، الذي كان بعثاً علوياً قبل ايّ شيء آخر يؤمن بتحالف الاقلّيات، وبالعلاقة المصيرية مع نظام «الجمهورية الإسلامية» الذي أقامه آية الله الخميني في ايران.
كان من بين الخطوات التي أقدمت عليها ايران بعيد مباشرة تثبيت قدميها في لبنان التخلّص من كلّ بعثي عراقي ينتمي الى الطائفة الشيعية. صار ممنوعاً على الشيعي ان يكون بعثيا ينتمي الى الجناح العراقي في الحزب، خصوصا مع اندلاع الحرب العراقية ـ الايرانية في 1980. امّا البعثيون الآخرون من سنّة ومسيحيين، فقد تولّت الاجهزة السورية امرهم. حصل ذلك بعد وضع النظام السوري يده على كلّ لبنان في خريف العام 1990.
دفع الرافعي فواتير كثيرة، في مقدّمها فاتورة كونه ابن طرابلس الذي استطاع دخول المجلس النيابي بفضل القاعدة الشعبية التي كوّنها لنفسه وذلك على الرغم من الاعتراضات السورية. كان حقّا «طبيب الفقراء». كان رجلا طيبا بكلّ معنى الكلمة. ولكن ما العمل عندما لم يعد امامه سوى خيار المنفى للمحافظة على حياته من جهة وكي يكون صادقا مع نفسه من جهة أخرى؟
لم يمنع المنفى الرافعي من مساعدة المؤسسات اللبنانية التي كانت تعمل فعلا من اجل خدمة المواطنين، بغض النظر عن أي انتماء طائفي او مذهبي. تلك كانت ميزته الاولى، ميزة الرافعي الانسان الذي عمل كلّ ما يستطيع في مرحلة معيّنة من اجل انقاذ «جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية» التي عانت من ضائقة مالية. كان ذلك في ايّام الرئيس صائب سلام الذي بقي، من منفاه السويسري، يكنّ احتراما خاصا للرافعي…
من بين الفواتير التي دفعها الرجل الذي كان ضحية حروب البعثين، المأساة التي حلت بالعراق. دفع فاتورة المغامرة المجنونة لصدّام حسين ضد الكويت العام 1990 وما تلاها من حصار، ثم فاتورة الحرب الأميركية على العراق في 2003.
عندما سقطت بغداد وجرى تسليم أميركي للعراق الى ايران، عاد الرافعي الى طرابلس الحضن الدافئ لابنائها. بسقوط بغداد انتهت حروب البعثين، خصوصا ان البعث السوري صار شيئا فشيئا، خصوصا في عهد بشّار الأسد، اقرب الى تابع لإيران واداة من ادواتها الإقليمية.
بقي الرافعي في طرابلس محافظاً على ما آمن به والى جانبه رفيقة العمر، زوجته الفاضلة السيدة ليلى بقسماطي التي علّمت اللغة العربية في «الانترناشونال كولدج» في بيروت في ستينات القرن الماضي. بقي الرافعي بعثياً رافعاً شعار فلسطين رغم تراجع القضيّة. بقي يحذر من الخطر الايراني. عاش هذا الخطر في لبنان والعراق وفي لبنان مجدداً. كانت لديه في كلّ الوقت الجرأة الكافية لقول ما يجب قوله عن المشروع التوسّعي الايراني الذي انهى العراق ويكاد ان يقضي على لبنان. الاكيد انه رحل وفي قلبه غصّة، غصّة على العراق الذي كان وطنه الثاني حقّاً.
8 ما قصة دعوى غزو العراق ضد توني بلير أمام القضاء الإنكليزي؟
الدكتور عبد الحق العاني
الراي اليوم بريطانيا
بدأت حياتي مهندساً فقد درست الهندسة الكهربائية في بغداد ثم تخصصت في هندسة الإتصالات في الكلية الجامعة (لندن). تركت العراق عام 1980 لأسباب سياسية، وهذا يعني أني لم أعان أياً من الكوارث التي حلت بالعراق منذ عام 1980 حتى يومنا هذا!
حين فرض حصار الإبادة على العراق عام 1990 أدركت يومها أن الحلقة الأولى للمشروع الصهيوني في هدم المشرق العربي والتي كتب عنها هنري كيسنجر عام 1975 وضعت موضع التنفيذ. كانت لدي خيارات محدودة لمواجهة المعركة القادمة وغير المتكافأة، فقررت يومها أن أدرس القانون ليكون وسيلتي في حربي ضد الظلم. هكذا فعلت وبتضحية كبيرة تركت الهندسة ودرست القانون واكملت المتطلبات الأساس حتى دعيت للبار الإنكليزي عام 1996 مما أتاح لي فرصة الترافع أمام كل المحاكم البريطانية والمحكمة الأوربية. لكني برغم أني كنت يومها حاصلاً على سبع شهادات في أربعة من فروع المعرفة (الهندسة الإلكترونية، العلوم السياسية، هندسة المعرفة والقانون) إلا أن عدداً لا يقل عن عشرين مكتباً من مكاتب محامي المرافعة لم يرض بي زميلاً لهم!
اصدرت في لندن بين عامي 1992 و 1996 مجلة فصلية سياسية ثقافية باللغة الإنكليزية كانت الوحيدة وربما الأولى في لندن التي كشفت جريمة استعمال اليورانيوم المنضب في غزو العراق الأول وجريمة حصار الإبادة.
كنت وما زلت أحتقر أي شخص، خصوصاً اذا كان عراقياً، وقف مع حصار العراق!
حاولت من لندن مرتين في عام 1999 وعام 2002 دعوة الحكومة العراقية لمقاضاة المعتدي أمام محكمة العدل الدولية ضد الحصار الجائر على شعب العراق والقصف الجوي المستمر وفرض مناطق منع الطيران المدني خلافاً لقواعد القانون الدولي لكن دون جدوى. ليس هذا الوقت ولا المكان الصحيح لبحث سبب رفض حكومة العراق الإنتفاع بالسابقة القانونية التي أوجدها حكم محكمة العدل الدولية في قضية (نيكاراغوا ضد الولايات المتحدة الأمريكية).
ساعدت بالنصح القانوني عدداً من الأصدقاء الإنكليز الذين حاولوا عن طريق القضاء التصدي للإستعدادات البريطانية الجارية لغزو العراق. لكن المحاكم البريطانية رفضت الطلبات بحجة أنها لا تنظر في دعاوى افتراضية ما دام اي عمل عسكري لم يقع بعد.
لكن ما أن بدأ الغزو حتى قمت بما يلي:
كتبت يوم 24 آذار 2003 (أربعة أيام بعد بداية الغزو) للمدعي العام البريطاني طالباً، كما يلزم القانون في كل جرائم القانون الدولي، الإذن لمباشرة دعوى ضد توني بلير وحكومته خلافاً للفصل الخامس من قانون محكمة الجنايات الدولية 2001. لكن المدعي العام والذي كان هو نفسه من قدم النصح للحكومة بشرعية الغزو لم يرد على الطلب القانوني وإنما كتب لي إنشاءً حول أهداف الغزو. فكتبت له ان سلوكه يخرق قواعد العدالة الأساس في أنه يحكم في قضيته لأنه هو أحد المتهمين. وحين طعنت برفض المدعي العام عن طريق المراجعة القضائية فان كلاً من قاضي العليا (تكر) وقاضي الإستئناف (روز) رفض طلب المراجعة القضائية دون الرد على طعني الأساس في عدم جواز أن يكون للمدعي العام حق تقرير اي أمر في قضية هو متهم فيها.
وكتبت للمدعي العام البريطاني يوم 7 نيسان 2003 طالبا الإذن بمباشرة دعوى ضد جورج بوش بتهمة خرقه قانون اتفاقية جنيف 1957 في غزو العراق. رد المدعي العام أن جورج بوش يتمتع بحصانة، مع انه لم يكن.
طلبت يوم 28 كانون الثاني 2004 من المدعي العام البريطاني الإذن لمباشرة دعوى ضد الحكومة البريطانية بتهمة الإبادة في الحصار على العراق. وتقدمت بطلب المراجعة القضائية بعد رفض طلب المدعي العام منح الإذن، لكن قاضي العليا (كولنز) رفض الطلب يوم 22 حزيران 2004.
كتبت يوم 4 شباط 2004 الى رئيس الوزراء توني بلير أعلمه، كما يقضي القانون، بأني سأتقدم للمحكمة العليا بطلب المراجعة القضائية لخرق الحكومة البريطانية قواعد القانون الدولي في قيام “هيئة الحكم الإنتقالي” باصدار قوانين غيرت فيها تشريعات العراق خلافاً للقانون الذي يمنع المحتل من تغيير قوانين الأرض المحتلة. وحين عجز بلير عن الرد تقدمت بطلب المراجعة القضائية لكن قاضي العليا (كولنز) رفض الطلب يوم 10 حزيران 2004.
إن سبب عدم متابعتي للدعاوى أعلاه حتى نهاياتها، اياً كانت، سبب سهل: وهو المال أو بالأحرى انعدامه. ذلك لأن من الخيال الحديث عن وجود عدالة في أي نظام رأسمالي، وبريطانيا مثال جيد لذلك. فالمواطن يمكن له أن يصل للقضاء اذا كان غنياً أو في موقع قوة. أما الفقير الضعيف فلا نصيب له فيها، فكيف والخصم هو الحكومة البريطانية! لقد منعنا من الإستمرار بطريقين أولهما احتمال إلزامنا بدفع كلفة محامي بلير في أي مرحلة من مراحل التقاضي قد نخسرها والثاني الزامنا بوضع ضمانة مالية كبيرة في المحكمة قبل التحرك للإستئناف. أما توني بلير فلا يخشى أياً من هذه العقبات.
ما بين 2007 و 2015
تم غزو العراق واحتلاله على يد مجموعة شريرة من الأمريكيين والبريطانيين لم يسبق جمع مثلهم في التأريخ، ثم قسم سياسياً على أسس عرقية ومذهبية وغيرت قوانينه ونظامه الإقتصادي والمالي والعسكري والقضائي وترك في خراب وفساد ليس له مثيل في العالم وفي حرب أهلية طاحنة.
يكفي أن نتذكر أنه بعد أربعة عشر عاماً من “التحرير والديموقراطية” ما زال المواطن العراقي يعاني حرارة قيض العراق لإنعدام الكهرباء رغم أن نظام البعث نجح عام 1987 بتصدير الكهرباء.
لقد أصبح طلب العدالة لشعب العراق رسالتي في الحياة!
فلم أتوقف عن دعوة العراقيين من ضحايا الحصار والتلوث بالإشعاع والغزو والإحتلال الذين خسروا كل شيء أن يتقدموا باجراء قضائي، لكني فوجئت برد بائس. لقد كشف لي العراقيون طبيعة هشة من اليأس وعدم المبالاة.
فقررت أن أصرف جهدي ووقتي في البحث من أجل توثيق الأحداث والجرائم سجلاً للتأريخ وأدلة لأي عمل قانوني في المستقبل. وقاد هذا البحث لتأليفي أو مشاركتي في تأليف أربعة كتب بين عامي 2007 و 2014 وباللغة الإنكليزية للمواضيع التي تبدو واضحة من عنوانيها كما يلي هذا الى جانب عدد كبير من المقالات التي نشرت في مواقع مختلفة وفي مدونتي:
The Trial of Saddam Hussein, 2008, Clarity Press Inc. Atlanta.
Uranium in Iraq: The Poisonous Legacy of Iraq Wars, co-authored with Joanne Baker, 2009, Vandeplas Publishing.
Genocide in Iraq, The Case Against the UN Security Council and Member States, co-authored with Tarik Al-Ani, 2012, Clarity Press Inc. Atlanta,
Genocide in Iraq II, The Obliteration of a Modern State, co-authored with Tarik Al-Ani, 2014, Clarity Press Inc. Atlanta.
لم أتوقف أثناء البحث والتأليف عن البحث عن ضحايا راغبين في مقاضاة المعتدي.
دعوى الغزو أمام المحكمة العليا
أبدى الفريق الأول الركن عبد الواحد شنان آل رباط، رئيس اركان الجيش العراقي الأسبق، عام 2015 رغبته في مقاضاة المعتدين ليس فقط للتعويض، وإن كان هذه حقه الطبيعي فقد فقد كل شيء، ولكن كرد على الغزو يقول فيه إنه لا يحق لأحد أن يسلبه كرامته كانسان. فليس صحيحاً ما جرى قوله بان الدعوى الحالية ضد توني بلير وأصحابه سببها صدور تقرير “تشلكوت”. فالإعداد للمباشرة بالدعوى جرى منذ عام 2015 لكنه تأخر لأسباب ليس مهماً لما نحن فيه معرفتها. وهذا لا يعني أن تقرير “تشلكوت” لم يساعد فالتقرير الذي قرأته كله شمل كثيرا من المقابلات والنتائج التي تساعد في دعم دعوانا.
لقد جاءت في وسائل الإعلام تفاصيل وتصريحات وتعليقات عن دعوى الغزو بعضها غير دقيق وبعضها صادر عن أناس لا يعرفون عن القضاء أو القانون شيئاً. ولا بد من أجل الأمانة أن نضع الأمور في نصابها.
تقدمت يوم 28 أيلول 2016 (ذكرى وفاة البطل القومي جمال عبد الناصر) بطلب لمحكمة جزاء ويستمنستر في لندن باسم الفريق الأول الركن عبد الواحد آل رباط لإصدار مذكرة استدعاء لكل من توني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق وجاك سترو وزير خارجيته واللورد غولدسمث، المدعي العام للمثول أمام المحكمة والرد على جريمة غزو العراق عام 2003 خلافاً للقاعدة القسرية في القانون الدولي التي تمنع العدوان كما أقرتها محكمة نورمبرغ التي ساهمت بريطانيا وحلفاؤها فيها بعد الحرب العالمية الثانية.
ضم الطلب مطالعة من 100 صفحة تفصل الحقائق والقانون الذي يشكل أركان الجريمة.
رفض قاضي الجزاء (سنو) يوم 24 تشرين الثاني 2016 اصدار المذكرة مستنداً لأسس لا علاقة لها بالقانون.
أرسلت يوم 6 كانون الأول 2016 لقاضي الجزاء، كما يلزم القانون، برسالة دعوته فيها إعادة النظر في قراره قبل اللجوء للمحكمة العليا لطلب المراجعة القضائية لقراره.
رفض قاضي الجزاء في 29 كانون الأول 2016 إعادة النظر في قراره الصادر في 24 تشرين الثاني 2016.
إن سبب قيامي لوحدي بمباشرة الدعوى لم يكن بسبب بحث عن مجد موهوم أو طلبا ً لمال غير موجود ولكن بسبب أني وجدت قليلاً من الناس كانوا يصدقون أن ما أريد القيام به سيقود لعمل جدي. وهذا شمل حتى عدداً من المحامين الذين بحثت موضوع المقاضاة معهم. لكني حين وصلت لمرحلة المراجعة القضائية اصبح الأمر جدياً يستدعي معاملة جدية من المحامين.
وحين وصلت لمرحلة المراجعة القضائية فقد اصبح من الصعب أن أقوم بالعمل لوحدي. فاتصلت بصديقي القديم محامي المتابعة (سولستر) عمران خان والذي ابدى اهتماماً بالدعوى واستعداداً للمساهمة معي بخبرته.
واتفقت مع عمران خان على الحاجة لمحامي مرافعة من أعلى درجة ممارسة ممن يسمون “مستشار الملكة” فاخترنا المحامي (مايكل مانسفيلد) والذي لم يتأخر في ابداء الإستعداد للمساهمة في الدعوى.
تقدمنا يوم 22 شباط 2017 للمحكمة العليا بطلب الإذن للمراجعة القضائية لقرار قاضي الجزاء رفض إصدار مذكرة الإستدعاء.
أعلمنا يوم 24 آذار 2017 بأن المدعي العام البريطاني تدخل في الدعوى لأهميتها للراي العام، وان المدعى عليهم يدعمون تدخله وأنهم سيمثلهم القسم القانوني للحكومة.
قدم المدعي العام يوم 11 نيسان 2017 للمحكمة العليا مذكرة يعارض فيها طلبنا وذلك حتى قبل أن توافق المحكمة على تدخله في الدعوى.
لم يضف المدعي العام في مذكرته جديداً على ما قدمناه في مطالعتنا. فقد استند في طلب الرفض إلى أن محكمة مجلس اللورات أصدرت عام 2006 حكماً في قضية “جونز″ قضى بأن العدوان ليس جريمة بموجب القانون الإنكليزي.
كنا قد أقررنا بالسابقة القانونية القائمة لكننا عرضنا ان الحقائق والقانون قد تغيرا مما يستدعي اعادة النظر بالحكم الصادر في قضية “جونز″.
أصدر قاضي العليا (أوسلي) يوم 25 أيار 2017 قراراً بعرض طلب الإذن للمراجعة القضائية على محكمة الإستئناف الفرعية.
قرر القاضي (أوسلي) انه ما دام الحكم في قضية “جونز″ ملزماً لكل المحاكم دون المحكمة الأعلى فان محكمة الإستئناف الفرعية ستنظر في أمر واحد فقط وهو ما إذا كان يجوز إعادة النظر في الحكم الصادر في قضية “جونز″.
سمعت محكمة الإستئناف الفرعية يوم 5 تموز 2017 ما نريده وما يعترض عليه المدعي العام. دعونا نحن المحكمة أن تقضي بأن الوقت حان لإعادة النظر في “جونز″. أما المدعي العام فقد طلب من المحكمة رفض طلبنا لأن المحكمة الأعلى سوف لن تعيد النظر في الحكم الصادر في “جونز″.
طلبت محكمة الإستئاف الفرعية منا تقديم عدد من الوثائق في مدة اسبوع. وقد قدمنا ما طلبته المحكمة.
إن محكمة الإستئناف الفرعية يمكنها اصدار أحد قرارين: إما أن ترفض طلبنا فتغلق الدعوى أو تقرر أن تحيل الطلب للمحكمة الأعلى كي تعيد النظر في الحكم الصادر في “جونز″.
ما هي الخطوة القادمة؟
إن هذه هي الدعوى الجدية الأولى أمام القضاء بعد 27 عاماً من جريمة فرض حصار الإبادة على شعب العراق. إن هناك عدداً من الجرائم مما يمكن المقاضاة بها أمام المحاكم في بريطانيا اذا وجد ضحايا عراقيون مستعدون لذلك ويمتلكون الجرأة والشعور بالظلم لعمل ذلك.
اعتقد ان هذه الدعوى أيقظت كثيراً من العراقيين للإمكانية الجدية وربما ستشجع الناس أن يساهموا في القضايا بشكل فعال ويدعموها بالطرق السلمية والقانونية.
أما بالنسبة لي فقد يلفقون لي قضية ويعتقلونني من جديد كما فعلوا عام 2003 حين اعتقلوني بعد مباشرتي لمقاضاة المدعي العام بدعوى خرقي للحصار على العراق ولم أكن قد فعلت وحبذا لو كان بمقدوري أن افعل إذ كنت قد فعلت!
لكن مهما حدث فإني لن أكف عن بحثي عن العدل لشعب العراق.
9 أين اختفى الدواعش؟!
محمد ابو رمان صحيفة الغد الاردنية
بسرعة فائقة انتشرت تساؤلات، من وحي بعض المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، لدى نسبة معتبرة من الأردنيين والعرب، تتساءل: أين اختفى الدواعش؟ لماذا لا نرى جثثهم؟ وأين هم الأسرى؟ إذ كانت الأجهزة الأمنية الغربية والإعلام يتحدّث قبل ذلك عن عشرات الآلاف؛ فأين اختفوا؟ هل تبخّروا مع الهواء؟!
بالطبع هذه التساؤلات مسكونة بمنطق المؤامرة، كالعادة، لدى المثقفين العرب والشارع عموماً، الذي يحب أن يفسّر كل شيء بوصفه لغزاً أو مؤامرة خارجية أو لعبة من الألعاب من أجل تمرير مخطط معين! وعندما تنتهي الوظيفة أو المهمة يتم إنهاء اللعبة، وبذلك يختفي بين ليلةٍ وضحاها آلاف الدواعش، من دون حسّ أو خبر!
الجواب على ذلك بسيط؛ فقط إذا تابع الشارع العربي معدل العمليات الانتحارية التي قام التنظيم بتنفيذها خلال الشهور الماضية، سيجد أنّنا نتحدث عن الآلاف، التنظيم نفسه أعلن قبل أشهر عن تنفيذ أكثر من 1200 عملية انتحارية، وبث أشرطة فيديو عن عشرات منها.
الطائرات الأميركية التي تقصف والمدفعية والدبابات التي تقتل، حتى اللحظة ما يزال عشرات المقاتلين من التنظيم يواجهون القوات العراقية في أحياء الموصل القديمة.
التنظيم خسر الآلاف من مقاتليه، واعتقل العشرات منهم، لأنّ الغالبية تفضّل القتال حتى النهاية، فيما قامت نسبة أخرى منهم بـ”الانحياز” إلى المناطق الأخرى التي يسيطر عليها التنظيم في العراق وسورية، إذ ما يزال يمسك بالرقة ودير الزور ومناطق صحراوية في الدولتين.
لماذا لم تبث اعترافات لأشخاص منضمين للتنظيم تم اعتقالهم؟ بل جرى ذلك، وهنالك قنوات فضائية عراقية، وحتى عربية أجرت مقابلات مع قيادات ميدانية، عراقية وعربية، تم إلقاء القبض عليها.
من يطرحون هذه الأسئلة يتناسون الأردنيين الذين ذهبوا إلى هناك بالمئات، وقاتلوا، وقتلت أعداد كبيرة منهم، سواء مع داعش أو جبهة النصرة، ولديّ شخصياً قوائم بالعشرات من الشباب الأردني، الذي انتهى به المطاف قتيلاً في عمليات انتحارية أو مواجهات مع هذه الفصائل، أي أنّنا لا نتحدث عن كائنات فضائية، إنما عن أشخاص نعرفهم جيداً، وعن آلاف العراقيين والسوريين والعرب، الذين انخرطوا في هذه التنظيمات.
لستُ هنا بصدد مناقشة هذا الرأي، لكنّ بتوضيح مشكلة حقيقية في العالم العربي، تتمثّل بـ”عقلية المؤامرة”! بالطبع هنالك مؤامرة وخطط ومخططات، وهكذا هي السياسة في العالم وفي التاريخ والجغرافيا! من قال غير ذلك!
لكن اللعبة المؤامراتية الكبرى تلك التي نقوم بها نحن أنفسنا، ضد أنفسنا! فالحشد الشعبي وداعش والنصرة والحوثيون وغيرهم هم في نهاية المطاف مواطنون عرب انجرّوا إلى تلك الميليشيات وانخرطوا في حروب مسلّحة داخلية، وتورطوا مع جماعات متطرفة هنا أو هناك.
الطريف في الأمر أنّ هذا النقاش عن نهاية داعش يعيدنا إلى الأيام الأولى لصعودها وانتشارها في العام 2014، عندما أخذ السياسيون والمثقفون يتحدثون عن نظرية المؤامرة، والمسؤولون العراقيون يقولون بأنّها غزو من الخارج، وكذلك السوريون، لكنّ في النهاية داعش لم تكن، وما تزال، سوى “غزو من الداخل”.
هي نتاج فشلنا وتخبطنا، وهي ابن شرعي للدكتاتوريات والحروب بالوكالة والثورات المضادة، وممانعة التغيير الديمقراطي، وإذا “تبخّر” التنظيم، وتشتت أتباعه فإنّ ديناميكيات إنتاج الحالة الشبيهة ما تزال قائمة، لأنّنا نصرّ على إنكار المدخلات والشروط الحقيقية!