مقالات عن العراق بالصحف العربية يوم السبت

1 بين الموصل والدوحة

عامر محسن

الاخبار اللبنانية

 

حين زرت الموصل للمرّة الأولى، كانت أيّام الحصار و«مناطق الحظر الجوّي»؛ وكنت تسمع صوت الطّيران الأميركي في محيط المدينة بشكلٍ شبه يوميّ، وكان في وسعك ــ من أطراف المدينة ــ أن ترى أعمدة الدّخان تتصاعد حين تضرب القاذفات موقعاً في الصّحراء. حينها، كما الآن، كان الطّيران الأميركي يقتل بلا سبب، ويرتكب أموراً من نوع قصف ديرٍ في شمال العراق وقتل رهبانٍ فيه، من دون أن يعرف أكثر العالم بالأمر، أو تحصل ادانة، أو حتى اعتذار – ناهيك عن أن يعاقَب أحدٌ على قتل الأبرياء.

اليوم، عادت هذه الطائرات لتقصف الموصل نفسها هذه المرّة، وتهشّم ــ بالتعاون مع «داعش» ــ أحياءً في المدينة، وتدمّر أكثر المدينة القديمة.
علّق صديقٌ بأنّه، رغم الارتياح لتحرير الموصل من «داعش»، فإنّه من العسير على المرء أن «يفرح» بتحرير مدنٍ مثل الموصل وحلب، حين يكون ثمن التحرير آلاف الضحايا الأبرياء، ومثلهم شهداء شباب قضوا في حربٍ لم تكن إجبارية، وتترك المعركة أجمل مدنك وأعرقها ركاماً مدمّراً. خرجت الموصل من الحرب وقد خسرت، الى جانب الكلفة البشرية والمادّيّة، بعضاً من أهمّ معالمها التي طالما شكّلت هويّتها وطابعها: من موقع «النمرود» الذي يعود الى فجر الحضارة وصولاً الى الجسر الحديدي الذي بناه البريطانيّون. ما يثير الاستفزاز أكثر، أضاف الصديق، هو أن تصبح عواصم مثل الدوحة وابو ظبي والرياض تتحكّم بمصائر عشرات الملايين من العرب، وتشعل الحروب في بلادنا، وتساهم في إحراق مجتمعاتنا وحواضرنا فيما هم يبنون مدناً من زجاجٍ وبلاستيك (من هنا، لو كان لا بدّ من خيار، لكان من الأفضل لو أنّنا «انهزمنا» بدلاً من هذا «الانتصار»، وكانت جيوش الخليج هي التي تحرّر دبي، مثلاً، بعد أن أصبحت ركاماً منهوباً).
المسألة لا علاقة لها بالنرجسيّة التي تمارسها بعض النّخب المشرقية تجاه شعوب الخليج (كأنّهم شعبٌ والخليجيون شعبٌ مختلف، وكأنّ الخليج «صحراء وقحط وتخلّف» فيما المشرق اليوم يمثّل منارةً للحضارة والانسانية). المسألة تتعلّق حصراً بطبيعة أنظمة الخليج، ونخبها الحاكمة وسياساتها ودورها في بلادنا؛ وتتعلّق بمفهوم العدل والمنطق، وأنّه لا يجوز لعائلة (أو فرعٍ من عائلة) تحكم بلداً أن تدمّر حياة الملايين، وتموّل تخريب البلاد من ليبيا الى العراق، ويصدّر إعلامها الحرب الاهلية والكراهية مثلما ترسل مخابراتها شحنات السّلاح. هذا الحال ليس الّا صورةً مصغّرة عن النّظام العالمي، تجري على مستوى المنطقة، ولا يجوز لها أن تستمرّ.
الحرب الاهلية العربيّة
كتب الأكاديمي كريستوفر دايفيدسون، عام 2012 وقبل الأزمة النفطيّة، كتاباً يحاجج فيه بأنّ ممالك الخليج هي على طريق الانهيار، بل وإنّ استفحال أزماتها هو مسألة قريبة، ستحصل خلال أقلّ من عشر سنوات. زار دايفيدسون الخليج، وعاش سنواتٍ ودرّس في الامارات، وتعرّف الى النّظام والمجتمع والمسؤولين، وقرّر، ببساطة، أنّ هذا النظام وأشباهه من المستحيل أن يستمرّ. فصّل دايفيدسون العديد من المجالات التي تراكم فيها هذه الحكومات الريعية، منذ عقودٍ، أزمات بنيويّة لن تلبث أن تواجه موعد دفع فواتيرها؛ من سوق العمل والعجز عن تنويع الاقتصاد وصولاً الى الديمغرافيا والعمالة الأجنبية والنظام السياسي والعلاقة مع المحيط (يقول دايفيدسون إنّ الجيل الجديد من أمراء الخليج لا يلتزم، كآبائه، سياسة «تصالحية» تسعى الى تحييد المنطقة عن شؤون الخليج وليس الهيمنة عليها، وتكتفي بالتدخّل عبر المال والمساعدات والإفساد، بل إنّ جيل الأبناء لا يستنكف عن اتّباع سياساتٍ عدوانية ومدمّرة مع شعوبٍ تحيط بهم وتفوقهم عدداً بكثير).
المصيبة، اذاً، هي أنّه لدينا حكوماتٌ غير قادرة على بناء مشاريع حكمٍ ناجحة ومستدامة، وبلادٍ متقدّمة وحصينة، ولا هي تتركنا في حالنا أو تقيم حدوداً وترعى حرمة. ولكنّ هناك عنصراً في المعادلة لا يذكره دايفيدسون وهو يشرح عمق المشكلة في أنظمة الخليج. حين نتكلّم على تنويع الاقتصاد أو بناء اقتصادٍ ناجحٍ أو تدريب العمّال وتشغيلهم، فإنّ المسألة (كما في خيارات السياسة) لا تقتصر ببساطة على «خيارات خاطئة» أو يمكن أن تفسّر عبر سياسات الهدر والفساد. هناك عنصرٌ بنيويّ هنا: بصرف النظر عن حاجات السعوديّة، مثلاً، وإمكانتها، هل يمكن أن نتخيّل أن تقبل واشنطن بحاكمٍ سعوديّ يأخذ بزمام الثروة الوطنيّة، ويطلق تنمية سياديّة، وينفق عائدات النفط في الداخل بدلاً من الاستيراد وشراء السّلاح، وينشىء صناعات محليّة مستقلّة عن الشركات الغربيّة، ويصنع سلاحاً متقدّماً بنفسه، لا تتحكم به اميركا، ويصدّره لمن يشاء؟ (بالمناسبة، هذا يسيرٌ لو كانت هناك ارادة، نظراً للموارد السعودية وعلاقات المملكة بالعالم، بل إنّك قادرٌ ــ نظرياً ــ على شراء شركة سلاح عالمية كبيرة، بحجم «ساب» السويدية أو «جيات» و«تاليس» في فرنسا، بجزءٍ من ثمن إحدى الصفقات الكبرى التي يعقدها الحكّام السعوديون مع اميركا، وهذه الشركات تصنع كلّ أشكال السّلاح).
المقصد هنا هو أنّ طبيعة العلاقة مع الغرب، ومصالح اميركا وبنية النظام في الخليج، تمنع هذه الدول من حلّ مشاكلها العميقة أو اعتماد سياسياتٍ سياديّة؛ ولو خرج ــ فرضاً ــ قائدٌ خليجيّ استقلالي النّزعة، فهو لن يصل الى الحكم أو ستخلعه واشنطن وحلفاؤها. من هنا، فإنّه من العبث أن تتوقّع «استدارةً ناصريّة» لدى الأنظمة الحاكمة في الخليج، أو حتّى أن تؤدّي التناقضات بينها الى الابتعاد عن المحور الأميركي واشراف واشنطن. الموضوع ليس خياراً. في الأزمة الخليجية القائمة، مثلاً، يمكنك أن تنسى كلام الإعلام عن «تقاربات» و«تحوّلات»، فأميركا تملك ورقة الحسم: يكفي، مثلاً، أن تعطي واشنطن الضوء الأخضر وموافقةً حتّى يحصل تغيير للنّظام في الدّوحة، أو توضع قطر ــ مثل البحرين ــ تحت الوصاية السعوديّة، ولن يقوم أحدٌ في العالم بمعارضة أو ممانعة هذا الواقع بشكلٍ فعّال، ولن يحصل قتالٌ ومقاومة. القطريّون، قبل الجميع، يعرفون هذا الواقع جيّداً وهذه الأزمة لن تزيد الّا من التصاق الأنظمة بالرّاعي الأميركي وضماناته.
لا أطرف من نظريّة «استقطاب» نظامٍ خليجيّ الّا النظريّة القائلة بأنّ الفارق بين قطر وخصومها الخليجيّين هو أنّها تدعم «الشعوب» والديمقراطية و«الربيع»، فيما الباقون يقمعون الشعوب ويقتلون الثورات. هذه مسألة وقائع بسيطة: الدوحة، على طول المنطقة العربية، قد دعمت حركاتٍ شعبية في وجه أنظمة في أماكن، ودعمت الأنظمة في أماكن أخرى، تماماً مثل كلّ دولةٍ رئيسية في هذا النّزاع، ولا مجال للمفاضلة في هذا الإطار. العامل الوحيد الثابت في سياسات قطر في المنطقة هو ليس دعم الشعب (الّا إن كنت تفترض أنّك انت «الشعب») بل ببساطةٍ دعم «الإخوان» في كلّ مكان، من سوريا الى تونس، سواء كانوا حكّاماً منتخبين أم ميليشيات. وحين لم يكن لهم حصانٌ في الحرب، موّلوا ميليشيات سلفيّة وطائفيّة. الآن الأوراق كُشفت والحرب وقعت والموصل، مثل حلب وغيرها كثير، يتصاعد منها الدّخان، والمقولة الشهيرة (والمعبّرة) التي قالها أمير قطر السّابق ــ وخرجت في «ويكيليكس» ــ عن طبيعة علاقته بمحور المقاومة («يكذبون علينا ونكذب عليهم») هي نظريّة، أعتقد، انتهت صلاحيتها.
عن الذاكرة والحقيقة
مع نهاية المعركة مباشرةً، انطلق الإعلام الخليجي ــ الذي يغطّي ويبرّر كلّ الحروب الأميركية في منطقتنا، ليصنع جوّ حدادٍ على تحرير المدينة، تحت دعوى الحزن على الأضرار والضّحايا (هذا بعد أن دعموا قيام «داعش» في العراق، وفرحوا لاحتلالها الموصل، والأرشيف موجود). المثير في الأمر هو أنّ أكثر الهجوم يتركّز على «الحشد الشعبي» على الرّغم من حقيقةٍ بسيطة، وهي أنّ «الحشد» لم يشارك مطلقاً في معارك الموصل، واستلمت المواجهة وحداتٌ معروفة من الجيش العراقي، ومن ينسّق مع الأميركيين وطيرانهم هي الحكومة العراقيّة برئاسة حيدر العبادي (ولمن يريد أن يعرف موقف «الحشد» من ذلك فما عليه الّا أن يستمع لقادته، كأبو مهدي المهندس الذي كرّر مؤخراً، للمرة الألف، أنّهم لا يريدون التدخّل الأميركي ولا يحتاجونه، وهم يتّهمون الأميركيين مباشرةً بدعم «داعش» والسعي الى إطالة أمد الحرب والأزمة في العراق).
بمعنى آخر، هم لا يهاجمون اميركا التي قصف جيشها الموصل وضرب أحياءها، ولا «داعش» التي احتلّت المدينة وفجّرت معالمها وسبت نسائها وعاملت أهلها كالعبيد، ولا يهتمّون حتى بتركيز الهجوم على الجيش العراقي والحكومة (والنظام السياسي في العراق هو هدفٌ سهلٌ، ومستحقّ، للانتقاد والهجوم). بل هم يبثّون غيظهم على «الحشد» تحديداً ــ ربّما لأنهم يعرفون دوره في هزيمة مشروع «داعش» ــ تماماً كما حصل منذ أسابيع، حين خرج تحقيقٌ صحافي ألماني في «دير شبيغل» يزعم حصول انتهاكاتٍ وتعذيبٍ على يد القوات العراقية في الموصل. على الرّغم من أنّ كاتب التقرير قد شرح بوضوح اسم الوحدة التي كان يرافقها، وهي من الجيش العراقي، فإنّ الإعلام الخليجي ــ الذي تلقّف التقرير بحماسةٍ وحبور، بصرف النّظر عن مضمونه ومصداقيته ــ استخدم الحادثة مجدّداً ليتّهم «الحشد» (بل أنّه، بدلاً من مواجهة حقيقة الرعب الذي بثّته «داعش» في المجتمع، والاعتراف بدورهم في ما حصل، تظهر نظرياتٌ في الإعلام الخليجي تدّعي بأنّ «داعش» كانت مجرّد «وهمٍ»، وحجّةٍ شيطانية لتدمير الموصل، وأن «الجثث لم تظهر» كأنّ أشهراً من القتال، وآلافٍ من الشّهداء، ومئات السيارات المفخّخة، كانت كلّها من فعل أشباح).
هذا الواقع يعكس علامةً معبّرة (بعيداً عن سؤال الصدق والكذب و«النزاهة» الإعلامية)، وهي أنّ نخب الخليج تعرف عدوّها الحقيقي، وأنّ «الحشد» ونموذجه هو التهديد الفعلي لها، لا الأميركيين ولا «داعش» ولا الحكومات، وهو الذي يقدر على هزيمة مشاريعها في المنطقة ووضع حدٍّ لها ــ ظلّ أن يفهم من يستشهد شباب «الحشد» لأجلهم ولأجل حمايتهم، بالمثل، من هو صديقهم الحقيقي. الأساس اليوم، فيما «داعش» يطلق زفراته الأخيرة على أرضنا، أن نصون الذاكرة، وأن نتذكّر كلّ من شارك في الحرب علينا، ليس بهدف الانتقام والاقتصاص (وهو شعورٌ طبيعيّ وشرعي، بالمناسبة)، بل لكي لا يتشابه ما بعد الحرب مع ما كان قبلها. وعلينا أن نتذكّر، قبل كلّ شيء، الشهداء الذين قضوا وهم يبارزون احدى أبشع الحركات التي أنتجها تاريخنا، وينقذوننا جميعاً من قدرٍ كالح. والشّهداء الحقيقيون، في لبنان كما في العراق، لا يحفظ ذكراهم في العادة غير أهلهم ورفاقهم، ومن يكمل عنهم الدّرب، وتتجاهلهم النّخب وتهملهم ــ هذا إن لم تنبذهم ــ وفي ذلك شرفٌ لهم، وتأكيدٌ على سموّ الشهادة.

2 كيف تم تحويل الموصل إلى نصب شهيد حامد الكيلاني
العرب

الموصل مدمرة بعد داعش، تم التجهيز بتقطيع أوصالها لصراعات قادمة. فقدان الثقة بالدولة والمستقبل والأمن واليأس لا يمكن أن يزرع بذورا صالحة لتنمو الحياة.

العراق لم يكن موحدا ومستقرا قبل دخول تنظيم داعش في يونيو 2014، فالإرهاب هو ذاته والتدهور والتراجع والميليشيات والخطف والجرائم والمفخخات وغياب الأمن والقتل على الهوية والانتقام والثأر والطائفية واغتيال العلماء وأصحاب العقول والكفاءات والتهجير واستهداف المناطق ونقاط التفتيش الوهمية واستخدام عجلات الدفع الرباعي لتنفيذ المهمات والتهديد والتلويح بالعنف وتنفيذه مع فساد مستشر وسرقات ووزارات للبيع ومناصب للسرقات والكثير جدا من الإخفاقات.

كل ذلك كان قبل داعش وعلى مدى 12 سنة من الحكومات المتعاقبة، وعملية سياسية نسخة طبق الأصل من أفكار وتوجهات الأحزاب التي لا دور يذكر لها سوى التآمر على العراق وتحفيز المجتمع الدولي على استمرار الحصار ضد شعبه، ثم استحوذوا على مقدرات البلاد بخدمة جاهزة قدمها الاحتلال لهم في أبريل 2003.

بماذا تختلف الموصل عن المدن الأخرى قبل داعش؟ ثاني مدن العراق بتاريخها وكثافتها وتنوعها العرقي والديني، التعايش فيها مضرب الأمثال وهي حال معظم المدن بل أكثرها توغلا في بعدها الحضاري الممتدة شواخصه منذ 7 آلاف عام من التواجد الإنساني. الموصل شهدت توسعا معماريا كباقي المحافظات بعد التنمية الانفجارية في بدايات سبعينات القرن الماضي التي تلت إصدار قانون تأميم شركات النفط، ولهذا توجد مدينة قديمة وأخرى حديثة.

الموصل أريد لها أن تكون قِبلة للسياحة المحلية والعربية والدولية، فهي تزخر بالآثار الفريدة وبطيب مناخها في الربيع وبتحضُّر أهلِها وصفاتهم وانفتاح ثقافتهم بما شجع الدولة العراقية على توفير مستلزمات النهوض وتم تعيين علاء البكري محافظا عليها بثقافته ولتراكم خبرته في المشاريع السياحية، مع تدعيم جهده بشخصيات انتشرت مسؤولياتها من مركز المدينة إلى الأقضية وسهل نينوى بما فيه من تآخ وتقاليد متنوعة كانت أرضا خصبة لاحتفالات متعددة كان أهمها أم الربيعين بنهاراته ولياليه التي يحييها مشاهير المطربين والفنانين العرب وبحضور مدعوين من مختلف أنحاء العالم.

تطلب ذلك خططا وبرامج عمرانية لبناء الفنادق والمرافق السياحية، لكن ما أصاب العراق من توقف في التنمية مع بدء الحرب الإيرانية بمجيء نظام الملالي الذي لم يتأخر طويلا باستعراض نياته باحتلال البلاد التي قدمت له الرعاية واحتضنته لأعوام مع جمع من أتباعه، أصاب الموصل بتوقف عجلة التنمية فيها قبل المدن الأخرى لقربها من آثار تداعيات القضية الكردية، وما نتابعه في أيامنا هذه إلا استمرار لمشاكل قديمة تطفو على السطح كلما سنحت الفرصة، وهل هناك من فرصة أكبر من الواقع السياسي المتخلف الذي أفرز نظام المحاصصة الطائفية وزرع الفتنة واستدعاء الإرهاب والتدخلات والانقسام المجتمعي الحاد.

الموصل بعد أبريل 2003 عبث فيها التطرف والمافيات والعصابات وانفلات الأمن والإتاوات والاغتيالات رغم تواجد الأجهزة الأمنية والمعسكرات الحديثة للجيش تسليحا وتجهيزا وإعدادا وتدريبا ورعاية، لكن العلاقة بين المجموعات الأمنية والمواطن لم تكن إلا لسان حال النظام الطائفي ولغة التحريض المذهبي وبشعارات وتخندقات المقولات الجاهزة لرجال السياسة والدين، الذين مازالوا يشكلون التكوين النفسي السائد، خاصة مع قرب كل دورة انتخابية.

تنظيم داعش دخل الموصل بوجود الفرق العسكرية كاملة التدريب والتجهيز، تم تسليم المدينة بالهروب المُذِّل أمام أعداد لا تتجاوز 300 مقاتل من تنظيم الدولة الإسلامية بأسلحتهم التقليدية وعدد من الانتحاريين بالعجلات المفخخة.

تم التفريط بحياة الملايين خلال ساعات، ليست هزيمة في ساحة قتال، كان انسحابا ملفقا وبأوامر أرادت له الفوضى ليبدو تخاذلا وانكسارا وتسليما بالأمر الواقع. هي إرادة سياسية تعمدت تسليم داعش الثروات وكل صنوف المعدات ومنها الدبابات والمجنزرات والعجلات، ولنا أن نتفكر بكيفية هزيمة الدروع والدبابات أمام هجوم بأسلحة أقصاها أسلحة متوسطة محمولة على عجلة من شهادات بعض الجنود إنهم صمدوا بما يمتلكون من عتاد خفيف، لكنهم تُرِكوا دون إمداد أو دعم.

احتلال الموصل كان لأسباب طائفية وسياسية بأوامر من النظام الإيراني العنصري القومي المذهبي لفتح الأبواب إذلالا لأميركا وأسلحتها كورقة ضغط ورسائل لإبرام الاتفاق النووي الأميركي معها ومع الدول الأعضاء في مجلس الأمن إضافة إلى ألمانيا، وبدراية تامة وقراءة موضوعية لسياسة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما حسين بأصوله الكينية المسلمة واسم بمضامين دينية طرأت عليه تغيرات لفظية بسبب اللغات الدارجة المحلية، فباراك من البركة وأوباما أي أبوالعمامة وحسين بلفظه الصريح، ذلك شائع وإيران كان لها من مواطنيها في الإدارة الأميركية من يعمل في مكتب الرئيس ولا بد أن المعلومات لم تكن تنقصه.

لكن إيران جربت أميركا في سوريا في الضربة الكيميائية في الغوطة الدمشقية صيف 2013، وهي ضربة متعمدة من تخطيط النظام الإيراني لعبور الخط الفاصل من التهديد للنظام السوري، وللوصول بالغايات الإيرانية إلى أهدافها لرسم سياساتها المستقبلية المبنية أساسا على مشروع تصدير ثورتها والانتقام من العراق لصموده طيلة سنوات الحرب الدامية معها على طول الحدود الوطنية وحدود العرب الشرقية.

لماذا الموصل؟ هل لأن فيها أكبر عدد من الضباط والمقاتلين الذين شاركوا في صد العدوان الإيراني؟ ذلك اجتزاء يفنده عدد الأبطال من محافظات ذي قار وميسان والقادسية والبصرة وكل أبناء العراق الذين قاتلوا تحت رايات فرقهم وفيالقهم بل ألويتهم وأسماء فصائلهم ممن دافعوا عن وطنهم وعن حياة وشرف من تشاركوا الموت معهم وكثير منهم استشهدوا وامتزجت دماؤهم لأنهم كانوا أخوة في أسرة وطن واحد.

البعد الطائفي حاضر في احتلال الموصل. إنقاذ النظام السوري وتبرير حربه الفاشية ضد الشعب وتحويلها إلى حرب طويلة مستعرة ضد الإرهاب، صناعة حرس ثوري إيراني من العراقيين، وبدمائهم تاجروا، وبفتوى المرجعية المذهبية استثمروا، وبضم ميليشياتهم رسميا وبقانون لتمرير أهدافهم التي تعدت الانتقام والثأر إلى تأسيس قاعدة قوات مسلحة تقاتل نيابة عنهم وتقرر مصير العراق وتفرض إرادة أدواتهم السياسية وحتى الدينية لتطويع الجميع، باعتبار دور الميليشيات مقدسا متباهية بدماء البؤساء والفقراء من شعبنا ولتدنيس كرامة من يعترض طريقهم.

المهمة أُنجزت، الموصل مدمرة بعد داعش، تم التجهيز بتقطيع أوصالها لصراعات قادمة. فقدان الثقة بالدولة والمستقبل والأمن، اليأس لا يمكن أن يزرع بذورا صالحة لتنمو الحياة، هناك تشّف خفي من السياسيين يظهر جليا في القنوات الطائفية الممولة من أموال العراقيين وهي تابعة لإيران. ثورة الحرّ أو ارتفاع درجة الحرارة ليست كافية لتكون ثورة للحرية والأحرار رغم أنها توافقت مع ثورة 14 تموز في العراق وذكرى الثورة الفرنسية رمز ثورات التحرر والانعتاق في تاريخ البشرية.

بعضهم يقول إن تدمير الموصل في بنيتها التحتية للكهرباء وفر طاقة مضافة إلى المدن الأخرى، وآخرون ينادون بتهديم نصب الشهيد أحد أعظم الصروح الفنية في العالم لإقامة نصب لشهيد آخر على مقاسات الحرب داخل المدن العراقية وليس على حدود الوطن. إيران نفذت مخططاتها كما تشتهي وتلاعبت بالتاريخ كمادة أولية لإيقاد الكراهية ليقتل الأخ أخاه وتسفك الدماء وتنتهك المدن والحرمات وحقوق الحياة والأعراض والأموال ليتم نصرهم بتحريرها من تنظيم داعش.

كما يبدو تنظيم الدولة الإسلامية على الأرض بأعداد مقاتليه أقل بكثير من الأرقام التي تداولها الإعلام وربما لا تتعدى المئات، وإن سياسة وواجب الحشد الطائفي كانا فعلا حصارا لداعش داخل مدينة الموصل وعدم السماح له بالفرار، وذلك ما أنجز المهمة في القتال إلى النهاية واستخدام الأسر دروعاً بشرية لتغطية الخراب الهائل تحت بند الأعمال العسكرية النظامية.

هم على يقين أن حصار مقاتلي داعش سيضاعف زخمهم القتالي ويطيل أمد الصراع والخسائر بين المدنيين. الشعوب عادة تنهض بالقانون ومنهج دولة المواطنة والكفاءة والتنمية، لا يمكن بناء دولة أبدا في العراق دون ثورة الأحرار على دولة اللادولة.

3 دمار الموصل وبربرية العصر الحديث
سلام السعدي العرب
معركة الموصل بدت خارج عالمنا الحديث المدعم بالقانون الدولي الإنساني. كان كل شيء مباحا مقابل استعادة المدينة بوقت أقصر مما كان يتطلبه الالتزام بالقانون الدولي وحماية المدنيين.

كما ذلك المشهد الذي رافق دخول القوات الأميركية العاصمة العراقية بغداد في العام 2003، وتضمن رفع العلم الأميركي ليغطي وجه الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، كان لا بد من مشهد رمزي يرافق إعلان “تحرير” الموصل مطلع الأسبوع الماضي.

لكن تنظيم داعش كان قد دمر مسجد النوري ومنارته الحدباء التاريخية والتي أعلن منها زعيمها أبوبكر البغدادي قيام خلافته الإسلامية المزعومة، فحرمت بذلك القوات العراقية من نسج مشهدها الاحتفالي. وإذا كان داعش قد دمر المسجد التاريخي، فقد تكفلت القوات العراقية نفسها والتحالف الدولي بدمار المدينة وتحويلها إلى مجرد ركام.

ليست لدى الحكومة العراقية والميليشيات الشيعية، ومن ورائهما إيران، أي مشكلة بدمار المدينة عن بكرة أبيها ومقتل الآلاف من المدنيين فيها مقابل استعادتها. غير أن من ألحق الدمار بصورة رئيسية بالمدينة هو التحالف الدولي المقيد، كما يمكن لنا أن نفترض، بالقانون الدولي وبقوانين الحرب. الحقيقة أن معركة الموصل بدت خارج عالمنا الحديث المدعم بالقانون الدولي الإنساني. كان كل شيء مباحا مقابل استعادة المدينة بوقت أقصر مما كان يتطلبه الالتزام بالقانون الدولي وحماية المدنيين.

على سبيل المثال، حيث وجد قناص من تنظيم داعش يؤخر تقدم القوات العراقية في إحدى المناطق، يجري قصف المنطقة بكل أنواع الأسلحة وتحويلها إلى ركام بصرف النظر عن إمكانية وجود مدنيين فيها أو عن ضرورة تقليل الخسائر في البنية التحتية.

كان التحالف الدولي يقوم بذلك بصورة رئيسية عبر الطائرات الحربية. بالطبع، لا يمكن للتحالف أن يقوم بذلك إلا في معارك تقع في بلداننا. فلا يمكن أن نتخيل، على سبيل المثال، في حالة قيام إرهابيين بالتحصن في مبنى في إحدى المدن الغربية، وحتى لو لم يحتفظوا فيه برهائن مدنيين، أن يتم قصف المبنى وتحويله إلى ركام. إذ يمنع القانون الاستهتار بحياة الفرد مهما كانت صفته، بل حتى لو كان إرهابيا.

دفع هذا الالتزام المطلق بالقانون والذي يلزم باحترام حياة الفرد بعض المشككين في الغرب لطرح ما يعرف بـ”سيناريو القنبلة الموقوتة”. السيناريو هو اختبار فكري افتراضي يطرحه المؤيدون لاستخدام التعذيب في حالات الطوارئ، وذلك بالضد من المنع المطلق لاستخدام التعذيب، النفسي أو الجسدي، لاستخلاص معلومات من المحتجزين بحسب اتفاقيات جنيف.

سيناريو القنبلة الموقوتة يفترض وجود قنبلة في إحدى الأبنية المكتظة بالسكان في إحدى المدن الغربية، في حين أن الشخص الذي يعرف مكان القنبلة محتجز لدى القوات الأمنية ويخضع للتحقيق. هنالك وقت قصير يفصل المحققين عن انفجار القنبلة التي ستقتل الكثير من المدنيين. وهنا يطلب هذا السيناريو من المعارضين للتعذيب بصورة مطلقة الإجابة بوضوح حول هل يجب تعذيب ذلك الشخص لانتزاع المعلومات الضرورية ومنع انفجار القنبلة وبالتالي إنقاذ المدنيين والمبنى أم لا؟

بالنسبة إلى القوات العراقية والميليشيات المهاجمة، فهي ليست بحاجة لمثل هذا السيناريو لتبرر تدمير المدنية ذلك أن اتفاقيات حقوق الإنسان وقوانين الحرب هي آخر ما يعنيها. فضلا عن ذلك، تحرر الحروب الأهلية عادة طاقة كامنة من الوحشية والبربرية لا تجد في بلداننا أي قانون أو سلطة مستقلة تردعها.

بالنسبة إلى التحالف الدولي، يبدو سيناريو القنبلة الموقوتة مفيدا لتبرير هدم المدنية وقتل الآلاف من المدنيين. وهو ما عملت عليه وسائل الإعلام والدول الغربية طيلة العامين الماضيين، إذ أصبح تنظيم داعش الخطر الأكبر الذي يتهدد البشرية جمعاء والغرب بشكل خاص. استغلت الأعمال الإرهابية في بعض الدول الغربية لتصوير داعش كخطر وجودي يتهدد الغرب. ليس ذلك فقط، بل هي قنبلة موقوتة ينبغي الإسراع في تفكيكها قبل فوات الأوان.

هذا ما يمكن أن نفهمه من بناء الحملات الانتخابية في الدول الغربية انطلاقا من مقولة الحرب على الإرهاب. الرئيس الأميركي دونالد ترامب كان صريحا في حملته الانتخابية إذ دعا لاستهداف عائلات مقاتلي داعش، ويشمل ذلك النساء والأطفال “يجب أن نقضي على عائلاتهم”، قال بثقة وهو يستعرض برنامجه الخاص بمكافحة الإرهاب. أما وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس فقد أطلق على معركة الموصل قبل أشهر توصيف “معركة إبادة”.

هذا ما جرى ويجري في معارك التحالف الدولي في العراق. ففي تقرير حديث اتهمت منظمة هيومن رايتس ووتش قوات الأمن العراقية بالتهجير القسري لأسر من يزعم أنهم أعضاء في تنظيم داعش إلى “مخيم إعادة تأهيل” مغلق. وهو ما اعتبرته المنظمة شكلا من أشكال العقاب الجماعي.

لا يمكن الجدال في أن التخلص من تنظيم داعش يتطلب خوض معارك عسكرية شديدة الشراسة. ولكن درجة التدمير و”الإرهاب” الذي يجري إلحاقه بالمدن وبالمدنيين الذين يخضعون لسيطرة التنظيم لا تصدق.

لا يحدث هذا بدرجة ملحوظة في الحروب الحديثة بعد إقرار قوانين دولية تخص الحرب وحقوق الإنسان، وبعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بحيث يمكن فضح تلك الممارسات بسرعة. كان ذلك شائعا قبل تلك التطورات القانونية، وخصوصا في الحرب العالمية الأولى والثانية حيث يخبرنا المؤرخ إريك هوبسباوم أن هدف المتحاربين كان يتمثل في التدمير المبرمج لحياة البشر “الأعداء”، وبأن تلك الحروب كانت بلا حدود ولا تكترث بالثمن الذي يجري دفعه، وهو ما جعلها الأكثر وحشية على مر التاريخ.

4 العراق: تسع وخمسون عاما على ثورة 14 تموز 1958

سعد ناجي جواد
الراي اليوم يريطانيا

في كل ذكرى لثورة 14 تموز / يوليو 1958 تثار حقيقتان بارزتان يركز عليهما الكتاب كل حسب هواه دون محاولة للربط بينهما. الحقيقة الاولى ان الثورة كانت حتمية ومطلوبة جماهيريا، والثانية ان التغيير بدا بجريمة بشعة راح ضحيتها كل أفراد العائلة المالكة،
في الحديث عن الحقيقة الاولى، والتي ترتبط بها آراء تظهر في هذه المناسبة، تعبر عن حنين أصحابها الى النظام الملكي، دون تحليل لتلك الفترة ، والتي يمكن تقبلها على أساس ان ما حصل بعدها كان أسوأ منها، او كما عبر السياسي الوطني العراقي البارز، والمعارض للنظام الملكي، المرحوم حسين جميل في حديث معي عن تجربته قبل وبعد الثورة، حين قال ( مع الأسف ضحينا بالقليل القليل من الديمقراطية لصالح اللا ديمقراطية)، الا ان كل ذلك يجب ان لا يحرفنا عن النظر لهذا الامر بموضوعية. فان كل الشواهد والاحداث كانت تقول ان تغيرا جذريا كان مطلوبا في العراق .
واذا ما استثنينا التأييد الجماهيري الكبير والطاغي للثورة، فان العراقيين كانوا شبه مجمعين على ان الوجوه السياسية التي هيمنت على المسرح السياسي في العهد الملكي و لعقود طويلة، أصبحت عاجزة عن مجاراة الأحداث او ان تقتنع بان الكفاءات الشابة كان يجب ان يفسح لها المجال في إدارة الحكم. فالمرحوم نوري السعيد ظل مصرا على ان يكون على راس الهرم حتى اخر لحظة من حياته. وللامانة فان الرجل كان من القلائل الذين يرجع لهم الفضل في بناء العراق الجديد بعد الحرب العالمية الاولى. ولكن اصراره على ان يكون الشخصية الاولى بل والوحيدة هو ما أضر بتاريخه السياسي. ويمكن ان يقال ان تاريخ الرجل السياسي ينقسم الى قسمين. الاول قبل عام 1941، تاريخ احتلال العراق من قبل القوات البريطانية للمرة الثانية بعد فشل حركة مايس/مايو، والثاني بعدها. يقول الاخ العزيز المورخ العراقي الاستاذ الدكتور كمال مظهر احمد (شافاه الله) ، والذي اشرف على عدد من الرسائل العلمية في جامعة بغداد عن شخصية نوري السعيد، ان تاريخ الرجل اختلف اختلافا جذريا قبل وبعد عام 1941. ففي الفترة الاولى كان الرجل عروبيا ووطنيا بامتياز، وكان له موقف مشرف من القضايا العربية، وخاصة القضية الفلسطينية. وكان يتقبل الانتقاد ويتحاور بديمقراطية ومتسامحا مع خصومه السياسيين، و كان يحث منتقديه بان يقدروا الظروف التي تمر بها البلاد وحاجتها لدعم قوة كبرى. اما في الفترة الثانية فانه اصبح اكثر تسلطا وضيقا بمنتقديه، بل لجأ الى تصفية معارضيه كما فعل بقادة حركة مايس وبقادة الحزب الشيوعي العراقي. حتى وصل به الامر في عام 1953 الى إلغاء نتائج الانتخابات التي اوصلت 13 ( الكثير من المؤرخين يشيرون الى العدد 10 نواب) مستقلا او معارضا فقط الى البرلمان، لكي يعيد الانتخابات وياتي ببرلمان مؤيد له بالكامل بالتزوير. وشاركه في الهيمنة على السلطة وعدم الرغبة في تركها المرحوم عبد الاله الوصي على العرش،
ان اغلب من كتب عن تاريخ نوري السعيد كان اما يركز على إيجابياته او على سلبياته، والحق ان للرجل إيجابيات وسلبيات ، فلا يمكن إنكار دوره في بناء العراق الجديد، لكن سلبياته، وهو ما يهمنا بهذه المناسبة، هي التي ساهمت بالإطاحة بالنظام الملكي، وربما كان اصراره على ترأس الوزارات و تزوير الانتخابات وربط العراق بحلف بغداد، وموقفه من العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وحثه لرئيس الوزراء البريطاني على استغلال الفرصة والاطاحة بثورة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كان اكثر ما اساء لتاريخه.
من الناحية الثانية فلقد كان بالإمكان ، وكما حدث في مصر، ان يكون التغيير سلميا وهادئا وأقل دموية، خاصة وان المرحومين الملك والوصي لم يقاوما وأبديا رغبتهما بالاستسلام. ويجب الاعتراف ابتداءا بان ماجرى في ذلك التاريخ وبعده كان ينسجم مع قرار الضباط الأحرار الذي كان يقول بان اي تغيير لا يمكن ان ينجح دون تصفية ( الثلاثة الكبار، الملك والوصي ونوري السعيد). وهكذا فان التصفية الجسدية كانت الأساس لديهم . وهم يبررون ذلك بالقول ان تجربة 1941 وما نتج عنها من عودة للرموز بدعم بريطاني أدى الى إعدام الضباط والقيادات التي قادت الحركة.
ومهما كانت التبريرات الا ان الحقيقة تظل تقول ان الثورة بدأت بداية خاطئة ودموية تمثلت في قتل كل أفراد العائلة المالكة التي كان جلها من النساء اللواتي كن يحملن المصاحف الكريمة، وكن يتميزن بالبساطة وبقربهن من المجتمع العراقي ولم يكن لهن اي دور سياسي. ان جريمة قتل العائلة المالكة ظلت تشكل لعنة على العراق ووصمة عار في جبين من امر بها ومن نفذها وتؤرقهم، ولقد حدّث احدالمشاركين فيها المرحوم والدي بانه كان لا يستطيع ان يهنأ بنوم، وان اشباح القتلى تؤرقه بين الحين والاخر، وبالنتيجة اقدم الرجل على الانتحار.
كما ان جريمة سحل جثتي المرحومين نوري السعيد و عبد الاله، والتي اتخذ منها احد الاحزاب شعارا وأسلوبا يهدد به اعدائه، ويحث أنصاره من المتظاهرين على رفع الحبال في فعالياتهم، او ان يرموها على بعض اقطاب النظام الملكي اثناء محاكمتهم، فانه كان وسيظل ، مع القتل غير المبرر والتعذيب الجسدي من ابشع ما مورس من إهانة للنفس البشرية، و ان كل هذه الاعمال البشعة مارستها ومع الأسف كل الاحزاب السياسية العراقية التي وصلت الى الحكم، عربية كانت ام كردية ، بعد ثورة تموز.
كما انه كان من المؤسف ان تصدر بعد انهيار النظام الملكي انتقادات غير منصفة للنظام ولرجاله، مثل اتهامهم بالفساد و سرقة المال العام او تبذيره او التفرقة بين المواطنين على أسس طائفية او عرقية اوالمحاباة، والتي لم يكن موجود بعض منها الا في حالات نادرة. علما بان النظام كان قد سخر الجزء الأكبر من الموارد النفطية لاعمار العراق. ومن بين اغرب ما سمعته من انتقادات هو ما حدثني به الصديق العزيز ماجد عبد الحميد الذي كان والده المرحوم الدكتور عبد الحميد كاظم اخر وزيرا للمعارف (التربية) في العهد الملكي، الذي سجن بعد الثورة لعدة شهور وأطلق سراحه، ثم طلبته اليونسكو كي يكون احد خبرائها، وعندما سافر للالتحاق بوظيفته التقى ببعض رجالات النظام الملكي، وكان من بينهم وزيرا كرديا سابقا، الذي ظل يردد ان الثورة كانت مطلوبة لإنهاء الظلم والتهميش الذي كان يعاني منه الاكراد في العهد الملكي. فرد عليه الدكتور عبد الحميد قائلا (ان الوزارة الاخيرة التي كنّا نشارك فيها انا وانت كانت مكونة من ١12 وزيرا وكان رئيسها واثنان من وزرائها المهمين من القومية الكردية فكيف تفسر ذلك؟)، فسكت الرجل.
بعد الثورة ظهرت الخلافات المبكرة جدا بين قادتها وبين الأحزاب الرئيسة المؤثرة على الساحة العراقية. وفِي الوقت الذي كانت فيه هذه الخلافات متوقعة بين قادة الثورة لان نجاح نهجهم (التأمري) جعلهم يتمسكون بهذا الأسلوب، الا ان المؤسف ان تنتقل هذه الظاهرة الى الأحزاب السياسية. واذا ما استثنينا المرحوم كامل الجادرجي، زعيم الحزب الوطني الديمقراطي، الذي اتعظ من تجربته السابقة في المشاركة في حكومة انقلابية عام 1936، و رفض المشاركة في الحكومة قبل تثبيت حكم ديمقراطي انتخابي، الامر الذي أدى الى انشقاق عدد من قادة حزبه، فان الأحزاب الاخرى، وخاصة الشيوعي والبعث والديقراطي الكردستاني، انخرطت في صراعات غير مطلوبة وتصاعدت لكي تكون دموية وتصفوية، او بطرح مشاريع لا تنسجم وعمر النظام الوليد. وانفرطت جبهة الاتحاد الوطني التي كان يمكن بوحدتها ان تصوب مسار القادة العسكريين الذين سيطروا على الحكم. ولم يكن اي طرف مستعدا للحوار مع الطرف الاخر.
ومن المضحك المبكي ان كل القيادات الحزبية التي ازمت الأمور في تلك الفترة وبعدها، وبعد مسيرة طويلة من الصراع الدموي و التصفيات الجسدية والتخوين لبعضها البعض الاخر، والذي استمر لسنين عديدة، كانوا يلتقون في المنافي وفِي الداخل ويتحدثون بودية ويعتذر احدهم من الاخر عن ما بدر منه ومن حزبه، ونسوا ان تصرفاتهم زرعت خلافات وأحقادا ظل تأثيرها مستمرا لمدة طويلة، بل ربما لحد الان. وباختصار شديد ان كل هذه الأخطاء التي ارتكبها هؤلاء السياسيون هي ما أوصل العراق الى هذا الوضع الماساوي.
بعيدا عن المنهج العلمي والأكاديمي والموضوعي، وعندما استعيد تاريخ العراق الحديث مع نفسي، أصل الى قناعة ، ربما يختلف معي فيها البعض، وهي ان قدر العراق الجديد ومنذ البداية (1921) كان سيئا وانه غير محظوظ في مسيرته. فلا القدر، أمهل المرحوم الملك فيصل الاول المقتدر والحكيم والذي فهم العراق جيدا لكي يكمل مسيرة بناء العراق الحديث ويثبت أركان الدولة الفتية، ولا ولده المرحوم الملك غازي، الذي احبه العراقيون كثيرا، استمر ليبني على ما قام به والده ومات او قتل بصورة مفاجئة. ولا نوري السعيد او الوصي كانا على استعداد لفسح المجال لقليل من المعارضة او اشراك قاعدة أوسع من أبناء العراق، كما فعل المرحوم الملك حسين في الاْردن ، مهما اختلف البعض معه، الذي لم يقدم على إعدام اي من معارضيه، لا بل كان يحرص على تعينهم وتعيين من يتامر عليه كوزراء بل وحتى روؤساء وزارات. وعلى العكس من ذلك ومع الأسف اسس الرجلان لسياسة الانتقام بالقتل والإعدام لكي يشعلا احقادا و ثارات كثيرة، أصبحت نموذجا بشعا اتبعه كل حكام العراق فيما بعد، كي تتجدد هذه الاحقاد والرغبة في الثار مع وصول اي نظام الى الحكم، ووصل ذروته في اثارة حروب طائفية وعنصرية من قبل الأحزاب التي جاءت بعد الاحتلال.
كما ان القدر لم يمهل المرحوم عبد السلام عارف، ومهما قيل عنه من اعتراضات، كي يؤسس لنظام مدني كان يمكن ان يقود الى تجربة دولة قانون وكفاءات يقودها التقنوقراط، بعد ان وصل الى قناعة في اخر سنة من عمره بان العسكر لا يستطيعون بناء دولة وان دعم حكومة مدنية هو الأسلوب الأصح، وقام باختيار ودعم رئيس الوزراء المقتدر المرحوم الدكتور عبد الرحمن البزاز لتشكيل حكومة مدنية كفوءة تحترم القانون والإنسان، حيث توفي في الحادث المعروف لكي يستعيد العسكر انفاسهم ويستبعدوا البزاز. وحتى المرحوم صدام حسين، ومهما كانت وجهات النظر بشأنه، فبعد سنين من الهيمنة المطلقة والتصفيات الدموية للخصوم، والذين كان قسم غير قليل منهم لا يقلون دموية وعنفا في اُسلوب معارضتهم له، اقتنع بعض الشيء بعد حرب 1991 والحصار الظالم بإجراء إصلاحات ، مثل دستور دائم وحرية الصحافة و شيء من الديمقراطية والتعددية، وكل هذه الاّراء نشرت في كتاب صدر في عام 1992 عن قيادة حزب البعث، بعنوان الديمقراطية والتعددية، ولو فعل ذلك لكان يمكن ان يؤسس الى مرحلة اخرى مهمة.
وللتاريخ فان كاتب هذه السطور، مع مجموعة خيرة من المعارضين الوطنيين في الداخل وبمبادرة من الفقيد الراحل د وميض نظمي، استثمرنا صدور هذا الكتاب وقمنا بإصدار بيانات وبصورة علنية ركزنا فيها على الإسراع بتطبيق ما ورد في عنوانه. لكن الحصار الظالم، الذي كان يقتل الغالبية العظمى من السكان جوعا ومرضا، والحرب على العراق ثم احتلاله افسد عملنا.
من ناحية اخرى، وفي وجهة نظر عميقة تردد استاذة العلوم السياسية ، والوطنية العروبية بامتياز السيدة أنيسة السعدون ( اطال الله عمرها) انه من المؤسف ان في العراق لم يصل الى الحكم شخصية مثل اتاتورك الذي، رغم كل الخلاف معه، استطاع ان يرسي أسس دولة قوية وقادرة على الاستمرار، و لا شخصية مثل نلسون مانديلا تستطيع ان تتجاوز الاحقاد والثارات وتقبل بالاخر وتؤسس وترسخ لدولة ديمقراطية تشمل الجميع. واعتقد ان هذا القول يمكن ان يلخص ماساة العراق المستمرة.
* بالمناسبة فان بعض المؤرخين يرون ان الفأل السيء رافق بغداد منذ بداية التخطيط لبنائها حيث حط غراب على الحبال التي استخدمت للتخطيط، وان المخططين تطيروا من ذلك، الا ان الخليفة المنصور امرهم بالاستمرار.

5 مستقبل الإرهاب بعد الموصل

د. فهد الفانك
الراي الاردنية

 

تحرير الموصل في العراق ، والرقة في سوريا ، ليس فرحة تامة ، فما سيتم استرداده هو خرائب ودمار. ومما زاد الطين بله أن التحرير لم يتم من قبل أهل المدينتين، أو بالتعاون معهم، بل من بعض خصوم وكارهي سكانها المتطلعين للبطش بهم.

قوات الحشد الشعبي الذي بنته إيران في العراق على أسس طائفية ليس حاقداً على محتلي الموصل بقدر ما هو حاقد على سكانها من السُنة، لأسباب وعوامل طائفية، لدرجة أن (الفاتحين) صبوا جام غضبهم على سكان المدينة الذين لم يغادروا بيوتهم باعتبار أنهم حاضنة داعش المتعاونين معها الذين يستحقون العقاب.

في المقابل فإن هناك من يقول إن إخراج داعش من الموصل والرقة ليس نقطة حاسمة في تاريخ الحرب على الإرهاب، ذلك أن داعش منظومة سياسية ودينية موجودة وعاملة في بلدان عديدة وهي حالة لا ينفع فيها السلاح وحده في مواجهتها، وربما يؤدي للمزيد من الحقد والإرهاب في الداخل والخارج، يعبر عن نفسه بالمزيد من الإرهاب المنظم والفردي.

الحقيقة أن العملية الإرهابية بحد ذاتها لا تميز داعش عن غيرها، فقد سبقها ورافقها عدد من المنظمات الإرهابية التي قضت المضاجع، وولدت في العالم كراهية لكل ما هو عربي او مسلم.

ما يميز داعش أنها أطلقت دولة، وسيطرت على أراض ٍ وسكان، وأدارت شؤونهم الحياتية مثل أي دولة وحكومة في العالم. كما أثبتت قدره كبيرة على الدفاع عن حدودها المتحركة.

عصر الإرهاب لم ينته ِ، ولكنه يؤشر إلى مرحلة جديدة قد لا يكون العالم جاهزاً لمواجهتها. وقودها الشباب الإنتحاريون الذين لا ترى قيادتهم غضاضة في إرسالهم إلى الموت المؤكد لمجرد تسجيل موقف، أو التشويش على الخصوم او تأخير تقدم (العدو) لبعض الوقت.

سقوط داعش وانتشار أعضائها في العالم سوف يكشف الكثير من الأسرار والأخبار التي كانت تتم في الخفاء مثل الدعم المالي والتسليحي العربي والتركي والاميركي لمنظمات إرهاب منتقاة، فضلاً عن المؤامرات والتحركات التي كانت تسير في الاتجاه المعاكس لما يقال عن الحياد والنأي بالنفس والمطالبة بحل سياسي.