يومًا تلو الآخر، يبدو أن عالمنا المعاصر يكاد يقترب من تحقّق ما تحدّثَ عنه أديب روسيا الكبير أنطوان تشيخوف في واحدة من روائعه، فيما عُرِفَ باسم “بندقية تشيخوف”. ومفاد الأمر أنه إذا أشار المرء إلى وجود بندقية مُعلَّقة على الحائط في رواية من ثلاثة فصول، فإنه من المؤكَّد حين يصل القارئ إلى الفصل الثالث، فإن البندقية ستنطلق، وهذا هو السياق الطبيعي للأحداث.
هل ما جرى في موسكو خلال الأيام القليلة المنصرمة هو نوع من الإعلان عن بندقيّة معلَّقة على الحائط الدولي بالفعل؟
باختصار غير مُخِلّ، نهار الاثنين الفائت أفادت وزارة الدفاع الروسية بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوعز ببدء الاستعدادات لإجراء تدريبات عسكرية على استخدام الأسلحة النووية غير الإستراتيجية.
أبسط تعريف لهذا النوع من الأسلحة النووية هو أنها تلك التي تُستخدَم في مرمى قريب من حدود البلاد، وبما يسمح بالدفاع عنها حال تعَرُّضِها لتهديدات من جيرانها، وهو الأمر الذي ينطبق على الجار الأوكراني والمخططات الغربية لتزويده بأسلحة قادرة على إصابة العمق الروسي، سواء عبر سلاح الجو، من خلال الطائرات المتقدمة، كما الحال مع طائرات “إف -16″، أو “إف – 35″، أو إذا تمَّ قصف أهداف روسية عسكرية أو مدنية بصواريخ تقليدية متقدمة للغاية، كما جرى التخطيط تجاه جسر القرم من جانب قوات الجيش الألماني. وتعرف أيضًا بالأسلحة النووية التكتيكية، تمييزًا لها عن نظيرتها الاستراتيجية القادرة على قطع آلاف الكيلومترات، مثل الصاروخي النووي الجهنمي، سارامات.
ما الذي يدفع القيصر للوصول إلى هذه المرحلة من مراحل الاستعداد النووي، حتى ولو كان تكتيكيًّا، ويشمل التشكيلات الصاروخية للمنطقة العسكرية الجنوبية، وبمشاركة الطيران، وكذلك القوات البَرّيّة؟
من المؤكَّد أن أشياء وليس شيئًا واحدًا تجمّعت فوق سماوات موسكو، ودفعت القيصر للاستعداد لتنفيذ ما وعد به في شهر مارس/ آذار الماضي؛ حيث قطع بأن روسيا على أتمّ الاستعداد لاستخدام الأسلحة النووية في حال تعرضت الدولة الروسية للتهديد.
على أن المثير والخطير بالفعل هو أن بوتين، وفي تلك التصريحات التي أدلى بها لوكالة “روسيا سيفودينا”، كان يؤكد في الوقت نفسه أنه “لم تكن هناك حتى ذلك الوقت أي حاجة، وبالمطلق، لاستخدام الأسلحة النووية التكتيكية خلال العملية العسكرية الخاصة”.
هل جرت في مجريات الأحداث ما دفع إلى أن يغير بوتين نواياه، بمعني أنه وعند لحظة زمنية بعينها قد تكون قريبة بالفعل، سيما أن إيقاعات الحرب تمضي نحو الفصل الثالث، سوف يعمد إلى استخدامها؟
الجواب المباشر، من قلب الدائرة المُقرَّبة من بوتين، جاء على لسان الرئيس السابق، نائب مجلس الأمن الروسي الحالي ديمتري ميدفيديف، والذي كتب بلغة قاسية للغاية عبر قناته على “تليغرام ” يقول: “يتزايد عدد الأوغاد بين النخبة السياسية الغربية الذين يدعون إلى إرسال قوّاتهم إلى بلد غير موجود، وهي تضم الآن ممثلين عن الكونغرس الأميركي والقيادة الفرنسية والبريطانية والمجانين من دول البلطيق وبولندا، كما يدعون إلى الاستخدام النَّشِط لصواريخهم لضرب الأراضي الروسية”.
عُرِفَ ميدفيديف بأنه أكثر مسؤول روسي تناول أكثر من مرة وبجدية كاملة مسألة استخدام روسيا لأسلحتها النوويّة بهدف الدفاع عن نفسها، إلى درجة أن كثيرًا من الدوائر الغربية، اعتبرتْه أنه لسان بوتين بالوكالة.
غير أن ما فاهَ به هذه المرّةَ تحديدًا ميدفيديف يتجاوز الاستعدادات المتعلقة بالأسلحة النووية غير الاستراتيجية، ويكاد يُلامِس سقف الحرب العالمية النوويّة، باستخدام الأسلحة النووية الفتّاكة العابرة للقارات.
تعتبر نخبة السيلوفيكي المحيطة بالرئيس بوتين، أن هناك مخاوف جدية تُحَلِّق من حول النخبة الحاكمة في الغرب، وأنه لم يَعُدْ من المُستبعَد أن تلجأ بعض منها إلى التفكير الجدّيّ في مهاجمة روسيا عند لحظة بعينها، وهو ما ألمح إليه الرئيس الفرنسي، حين أشار إلى أن فرنسا قوة نووية، في رَدِّه على منتقديه، من جَرّاء فكرة إرسال قوات فرنسية إلى أوكرانيا، ومن هنا يقطع ميدفيديف بأنه سيتعَيّنُ على موسكو الردُّ ليس على أراضي أوكرانيا، بل إلى أبعد منها.
رَدَّات الفعل الروسية في الأسابيع الأخيرة تقول بأنهم يأخذون بضعة أمور على محمل الجِدّ، وفي مقدمها تزويد واشنطن لأوكرانيا بأسلحة متقدمة، منها طائرات هجومية، اعتبر بوتين أنها ستكون أهدافًا لصواريخه بعيدة المدى وفرط الصوتية.
الأمر يتجاوز ذلك، إذ تسري في الأرجاء أنباء عن تنسيق من طرف خفي، لكنه لن يخفى عن الروس بحال من الأحوال، لنشر أسلحة نووية على الأراضي البولنديّة، وبالتالي ستكون المواجهة شبه محتومة، وبخاصة مع بيلاروس، الحليف الأقرب والصديق الأكبر بالنسبة لروسيا ولبوتين شخصيًّا، وهو ما يعتبر تهديدًا وجوديًّا من جانب الناتو، غالب الظن لن يتم الانتظار أو الصبر عليه لوقت طويل.
هناك في الأثناء تحركات أميركية لا تخفى على أحد في منطقة الإندوباسيفيك، حيث يجري التخطيط لنشر أفواج أميركية سريعة الحركة من جهة، عطفًا على تزويد أستراليا بغواصات متقدمة من نوع فيرجينيا، تستطيع صواريخها النوويّة أن تطال كُبْرَيات المدن الروسية والصينية على حد سواء.
ولعل التنسيق الأميركي الياباني الذي يجري على قدم وساق أمرٌ لا تغفله موسكو. وعلى الرغم من أن القومية اليابانية كانت وإلى وقت قريب تكاد تطالب بجلاء القوات الأميركية من قواعدها التقليدية، اليوم نجد ما يشبه الموافقة الضمنيّة على نشر رؤوس نووية أميركية على الأراضي اليابانية، فقد جاءت العملية العسكرية في أوكرانيا لتوقظ مخاوف اليابانيين من التحالف الروسي – الصيني المتنامي يومًا تلو الآخر، وليس سرًّا أن العلاقات من طوكيو إلى بكين وموسكو تاريخيًّا لم تكن في أفضل حال، فقد خاض الروس حروبًا ضدَّ اليابانيين، وكذلك فَعَلَ الصينيّون.
يكاد رجالات الكرملين يوقنون بأن الناتو بشِقّيْه الأميركي والأوروبي يخططون ليل نهار للنَّيْلِ من روسيا، وحرمانها من أي نصر قريب أو بعيد على أوكرانيا، خوفًا من أن يكون ذلك مقدمة لمغامرات روسية أخرى على الأراضي الأوروبية وبعد أن تنفتح شهية بوتين للمزيد من الانتصارات.
على أن المُبرِّرات المتقدمة يمكن وضعها في ناحية، وما أشار إليه سفير المهامّ الخاصّة في وزارة الخارجية الروسية، ريغوري ماشكوف، الاثنين الماضي، يتوَجَّبُ النظر إليه من زاوية أخرى وبمنظور جِدّيّ وجديد للغاية.
ماشكوف أشار إلى أن خطط الولايات المتحدة لنشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى في منطقة آسيا والمحيط الهادئ ستؤدّي حتمًا إلى سباق تسلُّحٍ صاروخي، وستضطر روسيا إلى الردّ على التهديدات الجديدة للأمن واتخاذ تدابير لضمانه، بما في ذلك، إذا لزم الأمر، في مجال الردع النوويّ.
إنّها إذن صواريخ روسيّة في مواجهة أميركية وربما أخرى فرنسية وغيرها بريطانية، ما يعني أن الفصل الأول في سباق التسلح الصاروخي المتعَدّد الأطراف بات واقعًا على الأرض ومعه يخشى المرء من أن تتحقق قراءة تشيخوف، ويرى المرء الضوء قبل أن يستمع إلى أصوات فرقعات صواريخ غير استراتيجية اليوم، ومن يضمن ألّا تكون استراتيجيةً في الغد.
السؤال الذي طرحه الكاتب من ينقذ الكوكب الأزرق من جنون الموت هذا؟
شاهد عيان يروي ما حدث لطائرة قائد مجموعة فاغنر ! ومامصير المجموعة