تشكل العشيرة في العراق عقداً اجتماعياً ذا وظيفتين، اقتصادية ونفسية. والعشيرة هي في أساسها الأول بنية بيولوجية تقوم على رابطة الدم والنسَب، وتعيد هذه الوظيفة إنتاج نفسها بشكل أحكام وأعراف وتقاليد وسلوكيات قائمة على التجانس العصبوي ضد العناصر الخارجية. وبذلك تمثل العشيرة درجة من درجات التطور السوسيولوجي عبر التاريخ، لكن مع ظهور الدولة انتقل الضبط الاجتماعي من العشيرة إلى الدولة، إذ إن النشاط الاقتصادي أصبح عابراً للعشائر والقبائل.

وشكّلت النزاعات العشائرية في العراق إحدى أهم المشكلات التي واجهت حكام البلاد على مدى تاريخ الدولة العراقية، ما شجع الحكومات المتعاقبة، على ضم العشائر إلى العملية السياسية وإشراكها في القرار السياسي، وسُمح لها في ما بعد بالتسلح والمشاركة في الأحزاب والسلطة وامتلاك النفوذ السياسي.

تفاصيل المقال 

أفاد مصدر أمني، اليوم الثلاثاء 15 أب/أغسطس 2023، بمقتل شيخ عشيرة إثر نزاع عشائري في محافظة ميسان الامر الذي محل جدلا في الشارع العراقي خلال اليومين الماضيين وفق تقرير حصلت عليه صحيفة العراق  

إن “نزاعا عشائريا اندلع، في منطقة الماجدية، وسط مدينة العمارة، ما أدى الى مقتل شيخ عشيرة المواجد عبد السادة الماجدي (أبو ليث) والذي يعمل مشرفا تربوياً”.

وأضاف، ان “القصة تعود لمقتل امرأة قبل يومين”.

و تُعتبر النزاعات العشائرية في مناطق جنوب العراق ووسطه، إحدى أبرز المشاكل الأمنية التي تعاني منها تلك المناطق، إذ تحصل من وقت لآخر مواجهات مسلحة تُوقع قتلى وجرحى بين عشائر مختلفة، يُستخدم فيها أحياناً سلاح متوسط وقذائف هاون، والقذائف الصاروخية المحمولة على الكتف.

وعادة ما تكون هذه النزاعات بسبب خلافات اجتماعية واقتصادية أو جرائم جنائية وحوادث عرضية، سرعان ما تتحول إلى مواجهات بين عشيرتي الطرفين، ويفاقم ذلك انتشار السلاح، وعدم قبول أحد الطرفين بالاحتكام للقانون.

وتتصدر محافظة ذي قار و البصرة وميسان وواسط ثم بغداد، المحافظات الأكثر تسجيلاً للنزاعات العشائرية التي يذهب ضحيتها مواطنون، وتسبب في كثير من الأحيان فرض حظر تجول وإغلاق للطرق والمناطق من قبل قوات الأمن، فضلاً عن خسائر مادية بالممتلكات العامة والخاصة، إثر الاشتباكات التي تستخدم فيها أسلحة متوسطة وخفيفة وقنابل، وصولاً إلى عبوات ناسفة محلية الصنع، كما حصل في محافظة ذي قار قبل أيام.

كما إن النزاعات العشائرية فتحت الباب لرواج سوق الأسلحة في المناطق الجنوبية، حيث تضاعفت أسعار الأسلحة المتوسطة والخفيفة، وظهر تجار سلاح يتنافسون على البيع في تلك المناطق.

نزاعات العشائر في العراق.. ميراث قديم يتغذى على الفوضى

تستعد أجهزة الأمن العراقية بخطة من 3 محاور للحد من النزاعات العشائرية المتفاقمة، وسط تحديات ثقيلة تواجهها، ومنها ميراث الاحتلال الأميركي للعراق، وظاهرة السلاح المنفلت والمليشيات.

نزاعات العشائر في العراق.. ميراث قديم يتغذى على الفوضى
نزاعات العشائر في العراق.. ميراث قديم يتغذى على الفوضى

يرصد خبير أمني عراقي لصحيفة العراق فرص نجاح هذه الخطة، وما يمكن أن يقوي أو يُضعف تحركات أجهزة الأمن على الأرض.

وفق تصريحات قائد عمليات سومر، الفريق سعد حربية، لوكالة الأنباء العراقية، فإن “وزير الداخلية عبد الأمير الشمري وضع خطة أمنية في محافظة ذي قار، جنوبي العراق، خلال اجتماعه مع قيادة عمليات سومر، وتم تشكيل لجان استخباريّة لمتابعة الخطة”.

تتضمن الخطة إلقاء القبض على كل شخص كان يحمل السلاح في النزاعات العشائرية التي حدثت مؤخرا في قضائي النصر والإصلاح، ومتابعة السلاح المنفلت في بعض المناطق، والتجهيز لشن حملة كبرى ضد مروجي تجارة المخدرات سواء المتعاطين أو التجار.

الفوضى الكبيرة

يُرجع الخبير الأمني والاستراتيجي العراقي، علاء النشوع، ظاهرة النزاعات العشائرية في البلاد إلى أسباب اجتماعية وأمنية، وكذلك دول أجنبية كان من مصلحتها انتشار فوضى السلاح منذ 2003:

احتلال الولايات المتحدة وتحالفها الدولي للعراق من أهم أسباب الفوضى الكبيرة التي أظهرت العشائر كقوة بديلة عن الدولة ومؤسساتها التنفيذية والقضائية.

الاحتلال أدى لانهيار الجيش العراقي؛ ما أعطى الفرصة لبعض العشائر للاستيلاء على أسلحة ومعدات بداية من البندقة حتى الأسلحة الثقيلة، كالمدفعية والدبابات من ثكنات الجيش، في إطار التنافس على إظهار الهيمنة بين هذه العشائر وبعضها، واستخدامها كذلك في التجارة وجني الأموال.
يضاف لذلك أن بعض الفصائل الموالية لإيران استولت أيضا على جزء من هذه الأسلحة والمعدات لتفرض بها وجودها على الأرض.
الولايات المتحدة تركت الحرية في امتلاك السلاح واستخداماته خارج النطاق القانوني، بشكل خاص في المحافظات الجنوبية التي لم تظهر مقاومة للاحتلال، بل اعتبرته “محررا” و”صديقا”.

سيادة الدولة

يشيد الخبير الأمني العراقي بالجهود التي تقوم بها أجهزة الأمن لفرض سيادة الدولة، إلا أنه يراها “ما زالت ليست على المستوى المطلوب من ناحية الجاهزية والمواجهة والردع المباشر والسريع، في مواجهة النزاعات العشائرية”.

يربط النشوع هذا بما يحدث على الأرض في العراق، ضاربا أمثلة:

الأجهزة الأمنية ما زالت تخشى المواجهة عند اندلاع النزاع العشائري لقلة المعلومات المتوفرة لديها عن نوعية الأسلحة الموجودة عند العشائر، والتي قد تتفوق على أسلحة قوات الأمن.
عمل القوات في المناطق صعب؛ لأن مقاتلي العشائر هم أكثر معرفة ودراية بمفارق الطرق والمسالك والممرات المخفية عن القوات؛ ما يجعلها تخوض حرب مدن خاسرة.
الولاءات المذهبية والعشائرية عند بعض العاملين في أجهزة الأمن، تجعلهم أقل فاعلية في حسم أي موقف؛ إضافة للخوف من الملاحقات العشائرية لهم.

تدخلات الأحزاب والكتل السياسية في عمل الحكومة لمصلحة العشائر التي تحتاج إليها في مصالح وملفات انتخابية.

أحدث نزاع عشائري شهده العراق وتسبب بخروج قضاء النصر بمحافظة ذي قار (جنوبي العراق) عن سيطرة الأجهزة الأمنية، عن “العجز الحكومي” في معالجة هذا الملف، وسط مطالبات بضرورة حصر السلاح بيد الدولة وتشريع قوانين تتناسب مع حجم هذه النزاعات.

وتفجر الوضع في قضاء النصر، أمس الأربعاء، بعد مقتل شيخ عشيرة العتاب وإصابة نجله بجروح بهجوم مسلح استهدف منزلهما، حيث أشارت التحقيقات الأولية بحسب مصدر أمني لوكالة شفق نيوز، إلى أن الجريمة ارتكبها أفراد ينتمون لعشيرة آل حاتم بسبب خلاف على عجلة.

وعلى الرغم من إعلان قائد شرطة محافظة ذي قار، اللواء مكي الخيگاني، استعادة أمن المحافظة والسيطرة على قضاء النصر، بعد ساعات من اندلاع النزاع العشائري الطاحن، إلا أنه كشف في الوقت نفسه عن ضعف الأجهزة الأمنية المسيطرة على الأرض، مقابل امتلاك المواطنين أسلحة فوق المتوسطة.

بؤر السلاح

ويؤكد شيوخ عشائر، أن المجتمع بات مسلحاً نتيجة تزايد الكيانات والفصائل المسلحة، فضلاً عن الأحزاب التي بدأت العشائر تلجأ إليها لحل النزاع فيما بينها بدلاً عن العُرف العشائري وشيخ العشيرة، في ظل غياب قانون يُنظّم عمل العشائر، ما أدى إلى نهاية وجود العنصر العشائري الحقيقي الفاعل.

ويقول النائب عن محافظة ذي قار، عارف الحمامي، إن “النزاعات العشائرية تشكل خطراً جسيماً على النسيج الاجتماعي، وتضرب العلاقات الموجودة في المحافظات الجنوبية”، مبيناً أن “هناك مناطق وبؤر فيها أسلحة ثقيلة وقاذفات صواريخ ومدافع رشاشة”.

ويحمّل الحمامي خلال حديثه لوكالة شفق نيوز، الحكومة وأجهزتها الأمنية مسؤولية ما يحدث في المحافظات الجنوبية، وخاصة محافظة ذي قار، مطالباً بـ”تطبيق قوانين مكافحة الإرهاب، ومتابعة تنفيذ أوامر القبض التي تصدر بحق مرتكبي الجرائم”.

مسؤولية الحكومة

ويتفق شيخ عشائر البزون، الشيخ عماد البوعوجه، مع عارف الحمامي، بأن “المسؤولية تقع على عاتق الحكومة لعدم حصرها للسلاح المنتشر الذي وصل إلى مستوى الهاون من أعيرة 60 و80 و120ملم، و RBG7 وغيرها من الأسلحة المدمّرة للمجتمع”.

ويشير الشيخ البوعوجه، لوكالة شفق نيوز، إلى أن “المجتمع بات عسكرياً ومسلحاً وازدادت فيه الكيانات والفصائل المسلحة والأحزاب، وبدأ في بعض الحالات لا يلتجأ إلى العرف العشائري وشيخ العشيرة لحل النزاع، وإنما يلتجأ إلى الكيان السياسي، وهذا محزن”.

ويوضح “من قام باغتيال شيخ عشيرة العتاب في محافظة ذي قار، الشيخ جميل حاتم العتابي، هي مجموعة خارجة عن القانون، لذلك على الدولة أن تكون اليد الضاربة على هؤلاء الأشخاص حتى لا تكون الحياة أشبه بغابة، والصراع يكون من أجل البقاء”.

فصل العشائر عن السياسة

وهذا ما يذهب إليه أيضاً أحد وجهاء وشيوخ محافظة البصرة، الشيخ محمد الزيداوي، حيث يؤكد أن “ضعف الأجهزة الأمنية المسيطرة على الأرض، وتبعية أجهزة أمنية إلى أنظمة سياسية، وانتشار سلاح قوى سياسية في المجتمع باسم العشائر، وعدم إصدار قانون يُنظّم عمل العشائر أسوة بالفترة الملكية، ونسج الواقع السياسي من قبل بعض الأحزاب مع الواقع العشائري، أدى إلى نهاية وجود العنصر العشائري الحقيقي، فضلاً عن لبس الكثير من الشخصيات السياسية العقال العشائري لأغراض انتخابية”.

فصل العشائر عن السياسة
فصل العشائر عن السياسة

ويضيف الزيداوي الذي يصف نفسه بـ”المختص الوحيد على مستوى العراق بالنزاعات العشائرية والواقع العشائري”، لوكالة شفق نيوز، أنه “تم تقديم مقترح وبحث متكامل لرؤساء وزراء عراقيين سابقين لسحب الأسلحة من العشائر، يتضمن شراءها ومنع المتاجرة بها وعدم إعطاء تراخيص بحملها”.

ويتابع “لكن وجدنا أن المطالب الثلاثة أعلاه تدخل في قضية الاستحواذ على الصوت العشائري، عن طريق الهدايا أو إعطاء التراخيص أو نوعاً من المتاجرة”.

ويؤكد “كذلك طالبنا بأن تُستبدل قطعة السلاح بفرصة عمل، وشراء الأسلحة من الأهالي، وإيجاد قانون عشائري يُنظّم عمل شيخ العشيرة، وإبعاد الواقع السياسي عن العشائر، لكن لا توجد آذان صاغية”.

ويكشف الزيداوي، أن “معظم الدكات العشائرية كيدية، والكثير ممن اتهموا بالقوانين المتعلقة بها من المادة 430 والمادة 4 إرهاب، كانوا ناشطين ومن الشخصيات المؤثرة في المجتمع، لكن تم استغلال هذه الثغرة للخلاص منهم، من قبل بعض الشخصيات والكيانات السياسية”.

أسباب النزاعات العشائرية

من جهة أخرى، عزا الباحث الاجتماعي، عبد الواحد مشعل، أسباب اندلاع النزاعات العشائرية إلى “وقوع حالات تهديد أو ظلم على فرد أو جماعة مما يضطر البعض إلى اللجوء إلى عشائرهم، من دون القانون لعدم ثقتهم بعدالته. كما أن النزاعات في المناطق ذات الامتداد العشائري قد تكون أسبابها بسيطة، منها ما هو عائلي يخص المرأة من زواج أو طلاق أو خلافات على مستحقات مالية، أو بسبب نزاع على ملكية سيارة، أو ماشية. وتكثر النزاعات بسبب المشاجرة بين الأطفال، وغالباً ما يذهب أبرياء ضحية تلك النزاعات، التي تخلف وراءها سلسلة مطالبات بالثأر وتكون فتيل نزاع لا ينطفئ”.

وعلى خلفية هذا الموضوع تعلق الباحثة الاجتماعية، ندى العابدي، وتضيف أسباباً أخرى للخلافات العشائرية، إذ تقول إن “المجتمع العراقي غير مستقر وتوالت عليه حروب وهزات منعت الكثير من الشباب من الحصول على تعليم كافٍ، ونشأت عن ذلك أمية جديدة بين الشباب، كما خلَّفت ظروف الحرب عدداً كبيراً من العاطلين عن العمل، وأيتاماً وأرامل، كل تلك العوامل بالإضافة إلى حالات العنف التي يتعرض لها الشباب باستمرار، سواء من خلال القتل أو التهجير أو الانفجارات أو النزوح، وانتشار مشاهد القتل والعنف المتداولة في وسائل التواصل المتعددة، وحتى مشاهد العنف على مستوى الحياة العامة، كل ذلك يجعل من شخصية الفرد ممتلئة بالعنف، فيؤمن بالقوة كلغة سائدة. وطالما أن القانون غير قادر على حمايته، فقوته هي التي تصنع لنفسها مبرراً وقانوناً. وكذلك أسهم تعدد الأحزاب في العراق في استقطاب عدد كبير من الشباب ليصبحوا جزءاً منها، ما مكّنهم من حيازة السلاح”.

بعضها قضايا تافهة

من جهته يشير رئيس مجلس عشائري سابق في محافظة البصرة، الشيخ رائد الفريجي، إلى أن “النزاعات العشائرية أحياناً تندلع على قضايا تافهة وتؤدي إلى قتلى وإصابات وإرباك للوضع الأمني، في ظل عجز حكومي لمواجهة هذا الملف، لذلك يجب تشريع قانون يتناسب مع حجم هذه النزاعات، ووضع خطة متكاملة لإنهائها”.

ويؤكد الفريجي خلال حديثه لوكالة شفق نيوز، على ضرورة “القبض على مثيري النزاعات العشائرية حتى وأن كانت خلفهم جهات سياسية، فلا بد أن تُطال يد القانون هؤلاء الذين يحملون السلاح، ويثيرون المشاكل في المجتمع”.

عودة العرف العشائري

في ظل شعب مدجج بالسلاح مثل الشعب العراقي، له تاريخ طويل في خوض الحروب على مدى 50 عاماً، برزت مراكز قوى متنفذة تمثلها العشيرة، هيمنت على بقية السلطات لتصبح الركن الوثيق الذي يلجأ إليه الفرد حفاظاً على نفسه وكيانه من غياب القانون.

ويفسّر الدكتور فارس كمال نظمي، الباحث في مجال علم النفس، أسباب عودة العرف العشائري للهيمنة في العراق، على أنها انتكاسة لفكرة التطور الإنساني، معتبراً أن “المفارقة هي حدوث كل ذلك في ظل الدستور العراقي لعام 2005”. ويشير إلى أن الدولة “تمنع الأعراف العشائرية التي تتنافى مع حقوق الإنسان”، إذ إن “الوقائع اليومية تشير إلى عجز عميق في وظيفة الدولة حيال تغول الطابع العشائري، خصوصاً في قضايا المرأة، إذ نشهد انتهاكاً شديداً لحقوقها في العمل والزواج والدراسة”.

تنافس سلطة القانون مع سلطة العشيرة

وتُعد العشيرة مؤسسة اجتماعية تؤمّن التواصل بين الناس والمساعدة في ما بينهم، ولا يمكن أن تكون قوة عسكرية قامعة تركن إلى قانونها الخاص. ويقول الباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد العال، بهذا الشأن إن “الدولة التي تبني مؤسساتها القانونية والاجتماعية بشكل صحيح ستحل مشكلات المواطن، وبالتالي لن تكون هنالك حاجة إلى (الفصل) أو اللجوء إلى العشيرة لأخذ الحق أو الحماية من الخطر”.
ويعتمد العنف العشائري على طبيعة ثقافة المجتمع وعلى سلطة القانون ومدى قوته وتأثيره الفاعل. وعادةً ما تتنافس سلطة القانون في المجتمع العراقي مع سلطة العشيرة، فكلما ضعفت سلطة القانون قويت سلطة العشيرة. المجتمع العراقي ذو أصول عشائرية، وقوة العشيرة تسود في ظل غياب سلطة القانون، لتسيير شؤونه ويركن الأمر إليها.

وتابع الباحث عبد العال “تحكم العراق أكثر من منظومة: الدولة، والمؤسسة الدينية، والعشيرة. هذه الكيانات موجودة منذ تأسيس الدولة العراقية حتى يومنا هذا. تتباين قواها ومراكز نفوذها، حسب الوضع السياسي العام، وعندما نقول سلطات ثلاث فنحن نقصد ذلك بالمعنى الحرفي، لأن لكل واحدة منها اقتصاداً مستقلاً، وقوة مستقلة، وقوانين مستقلة أيضاً. فعندما تظهر سلطة الدولة يخف تأثير السلطتين الأخريَين كما يحصل في الأنظمة القمعية والديكتاتورية. وعندما انهار النظام الديكتاتوري انهارت معه مؤسسات الدولة، وهيمنت سلطة المؤسسة الدينية والعشائرية. وفي فترة من الفترات أصبحت العشيرة أقوى من الدولة نفسها ومن المؤسسة الدينية ومن القانون”.

واستطرد عبد العال قائلاً “يمنع قانون الدولة إطلاق النار، ويحرمه الفقه الديني لأنه يتسبب بإزهاق الأرواح، وصدرت فتاوى كثيرة بهذا الشأن، لكن أبسط عراضة عشائرية لتشييع متوفى أو حفل زفاف، يرافقها مشهد لإطلاق النار وبمختلف الأسلحة، في تحدٍّ واضح لسلطتَي الدولة والمؤسسة الدينية”.
في المقابل، عقب الشيخ المحامي صادق عبد الحسن نصيف (شيخ عام قبيلة بني لام) بهذا الخصوص، أن “البصرة والعمارة تعانيان نزاعات عشائرية متكررة، تخلّف على أثرها ضحايا، بين قتلى وجرحى، لأسباب قد تكون اقتصادية، عبر فرض سيطرتها ونفوذها على الشركات الموجودة في أراضيها وتستخدم الأسلحة المتوسطة والثقيلة، ويصعب على الدولة فرض الأمن بشكل تام، لضعف السلطة التنفيذية إضافة إلى ثقافة المواطن البسيطة”.
ولا يختلف رأي القاضي سالم روضان الموسوي عما سبق، إذ يرى أن “السبب في تفاقم تلك الظاهرة هو ضعف الدولة بكل مفاصلها من دون استثناء، والدعم الذي تلاقيه تلك المجاميع العشائرية من بعض الأحزاب المتنفذة التي تملك فصائل مسلحة توظَّف تحت عنوان الدكة العشائرية”.

القانون أمام الخلافات العشائرية

وأوضح القاضي، سالم روضان الموسوي، أن “لا وجود وصف لجريمة اسمها نزاع عشائري، وإنما جرت العادة على إطلاق هذه التسمية على ردود الأفعال الجماعية تجاه فعل معيّن بذاته، فإن معظم جرائم القتل تواجَه باحتجاج من ذوي المجني عليه تجاه الجاني وذويه وعشيرته”. وأضاف أن “وجود نص قانوني يؤكد بأن كل فعل يقوم به الأشخاص يُعد جريمة إذا كان يجرّمه القانون، مثالاً على ذلك فعل إزهاق روح إنسان، فإن القانون وصفه بأنه جريمة قتل وفقاً لأحكام المادة 405 وما بعدها، من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل”.
واستطرد “فإذا كان فعل القتل تم بواسطة شخص واحد أو عدة أشخاص فإنه فِعل قتل يعاقب عليه القانون، من دون الالتفات إلى ما إذا كان الفعل من جراء نزاع عشائري أم نزاع فردي، وهو جريمة يعاقب عليها القانون بعقوبات شديدة وكذلك فعل التهديد فإنه جريمة يعاقب عليها القانون، سواء قام شخص بعينه أو جماعة تمثل عشيرة أو أي تجمع بشري فإن الفعل يشكل جريمة يعاقب عليها القانون”.

نصّ عليه الدستور ولم يصدر بقانون

وذكر الموسوي أن “قانون العشائر بقي قائماً إلى حين قيام ثورة عبد الكريم قاسم، ولم يصدر بعده أي قانون، إلا أنه في عام 2005 ورد في الدستور العراقي في المادة 45 الفقرة الثانية منه: تحرص الدولة على النهوض بالقبائل والعشائر العراقية وتهتم بشؤونها بما ينسجم مع الدين والقانون، ويعزز قيمها الإنسانية النبيلة بما يساهم في تطوير المجتمع ويمنع الأعراف العشائرية التي تتنافى مع حقوق الإنسان. هذا نص في الدستور، وقد ذكره المشرع العراقي، ولم يصدر أي قانون حتى الآن ينظم شؤون العشائر العراقية”.
وعلق الشيخ العام، شياع جاسم محمد الحسن، شيخ عشيرة البهادلة، عضو لجنة حل النزاعات في مديرية شؤون العشائر في وزارة الداخلية، قائلاً “لم تولِ الدولة أهميةً لهذا الأمر، بينما نحتاج إلى الصرامة في توجيه الحساب والمعاقبة، وكان من الأجدى تسليم السلاح إلى الدولة كي يعيش المواطن بأمان، فالمواطنون لا يشعرون بالراحة بسبب حالات النزاع والرمي العشوائي التي تتسبب بخسائر في الأرواح وسقوط ضحايا من الأطفال والنساء والرجال، والسلطة التنفيذية بعيدة ولا تصغي لرأي أحد وهذه مسؤولية الدولة، أما نحن كعشائر فلدينا ضوابط تمنع إطلاق النار وتمنع الدكات العشائرية، ومن جانبنا يُحاسب عليها الفاعل ويؤدَّب”.

ومن وجهة نظر علم الاجتماع، قال الباحث الاجتماعي، عبد الواحد مشعل، إن “العشيرة فقدت بنيتها السياسية مع إلغاء قانون العشائر في عام 1959، وأصبحت بنية اجتماعية تؤدي واجباتها بصفتها مجتمعاً أهلياً، إلى أن جاء التغيير في عام 2003 فعادت العشيرة إلى المشهد العراقي ووصل الأمر تدريجاً لأن تعيد بنيتها السياسية، ولكن ليس بالصيغة الأصلية للعشيرة التقليدية، إذ ضاعت سنن عشائرية عدة وارتقى مشيخة العشيرة متطفلون لا يفقهون كثيراً بأصول العشائر، فأصبح النزاع ينشب بأي لحظة ولأي سبب، وإن كان غير منطقي”.

استخدام العنف والأسلحة في تسوية الخلافات

يجيز القانون العراقي احتفاظ كل أسرة عراقية بقطعة سلاح خفيفة بعد تسجيلها لدى السلطات المعنية، غير أن العراقيين يحتفظون بموجب الأعراف القبلية بكثير من الأسلحة في منازلهم، بينها في بعض الأحيان قذائف صاروخية. ويرى الباحث الأكاديمي، أحمد عبد العال، أن في “كل نزاع أو جريمة أو حادثة قتل جنائية أو إرهابية تجد قبالتها ثلاثة أنواع من العقوبات: دية شرعية، أو حكماً جنائياً، أو فصلاً عشائرياً. وأي نزاع عشائري يبدأ من خرق واحدة من هذه التراتبية. إذ تمتلك بعض العشائر الملايين من قطع السلاح، وأطناناً من العتاد والذخيرة، وأبسط نزاع يبدأ من إطلاق مسدس مروراً بالأسلحة المتوسطة والثقيلة”. وأصبحت مشاهد الاشتباك بهذه الأسلحة “طبيعية”، يمكن ملاحظتها في كل محافظات العراق وصولاً إلى قلب العاصمة بغداد.
ولأن العشيرة منظومة اجتماعية فمن الطبيعي أن نجد بين أفرادها العالِم والطبيب وأستاذ الجامعة، ومن الطبيعي أن نجد بين أفرادها منتسباً عسكرياً يحمل سلاح الدولة ليقاتل به باسم العشيرة.

الدكة العشائرية

تطور موضوع “الدكة العشائرية” وصدر بيان طلب من قضاة التحقيق تطبيق قانون مكافحة الإرهاب رقم 13 لعام 2005 في هذا الشأن، بسبب قلق المواطنين وتعرض حياتهم للخطر. لذا بدأ قضاة التحقيق بتكييف هذا الموضوع مع قانون مكافحة الإرهاب، من خلال مادة عقابية يصل حكمها إلى السجن المؤبد أو الإعدام أحياناً، للحدّ من استفحال موضوع الدكّات العشائرية، وفق ما أكده شيخ عشيرة لام. وأضاف “لا يلجأ الشيوخ الأصلاء إلى الدكة العشائرية وهو موضوع حُرِّم (بين الشيوخ أصحاب الحظ والبخت). وذلك حتى قبل صدور قانون مكافحة الإرهاب، لأنها ترهب الطفل والمرأة والمريض، ويجري هذا العرف في الريف بإطلاق نار في الهواء تنبيهاً للعشيرة بعد إرسال الوسطاء، فإن لم يستجيبوا يبدأ طالب الحق بإطلاق النار للتنبيه فقط، وتتدارك العشيرة الأمر بالسرعة الممكنة. ويطبق شيوخ العشائر القانون وسيادته ضد هذه العملية”.
أما القاضي الموسوي فتحدث عن إسهام مجلس القضاء الأعلى الذي “أصدر إعماماً اعتبر فيه الدكة العشائرية بمثابة جريمة إرهابية، وفقاً لقراره المتخَذ في نوفمبر (تشرين الثاني) 2018 سعياً منه للحد من هذه الظاهرة”.

تسييس العشائر

واخترقت الأحزاب الإسلامية الحاكمة البنى العشائرية لتستثمرها في توطيد سلطتها، سواء عن طريق الانتخابات أو عن طريق الهيمنة السياسية والاجتماعية المباشرة، فتحولت العشيرة من بنية يجمعها رابط النسب والدم إلى بنية سياسية اقتصادية مؤطرة بنزعة دينية أو طائفية معينة. وهذا ما يفسر الانتشار الهائل للسلاح لدى العشائر، وتحولها إلى قوة منافسة لمؤسسات الدولة الأمنية بل متسلطة عليها في حالات كثيرة.

في السياق، علّق الدكتور نظمي على تطور نظام العشيرة واستثماره سياسياً وتغلغلها في مفاصل المؤسسات أن “الأحزاب الدينية هادمة لفكرة الدولة الوطنية، وتستثمر العشيرة لمصالحها، إذ أصبحت العشيرة تشجب سلاح بعض التنظيمات السياسية الدينية، التي تمارس دوراً سياسياً علنياً من جهة ودوراً مسلحاً غير معلن عبر تغلغلها في نسيج العشائر وتحويلها إلى بنية حامية لها”.

نفاذ القانون من دون محاباة

بسبب انفلات الوضع الأمني، أثّرت النزاعات في السلم المجتمعي، ما حمل المواطنين الذين بدأوا يشعرون بالقلق إلى اللجوء إلى العشيرة كوسيلة للحل. وعلى أثر ذلك وردت في بيانات مراكز الشرطة، آلاف الحوادث، منها الاغتصاب والطعن والتهجير وقد تصل إلى القتل، ناهيك بـ”جلسات الفصل” والديات التي أصبحت مرهقة للمجتمع، وهي عادات وأعراف سيئة سببها قلة الثقافة والوعي.

ورأى الموسوي أن “الحل الأمثل لهذه الأزمة الأمنية بأن تنهض الدولة بواجباتها في فرض القانون وإنفاذه على الجميع من دون محاباة، إضافة إلى حصر السلاح بيد الدولة، وتطبيق القانون عبر الأحكام القضائية الرادعة”. ويشدد على أن “ما هو موجود لغاية الآن لم يشكل أي ردع جاد يحد من الظاهرة، التي تنتشر في مراكز المدن بعدما كانت في المناطق الريفية والبعيدة عن مراكز المدن الحضرية”.
وأضاف أنه “يبقى للمحكمة من خلال قضاتها سلطة تقدير جسامة فعل التهديد بواسطة المجموعات العشائرية وحسب ظروف كل قضية. وصدرت أحكام باعتبار تلك الأفعال جرائم إرهابية وتُطبّق عليها أحكام المادة 4 من قانون مكافحة الإرهاب رقم 13 لعام 2005، بينما نجد أحكاماً أخرى تعتبرها تهديداً اعتيادياً وتطبق عليها أحكام المادة 430 وما يليها من قانون العقوبات النافذ”. فالعشائر في العراق فقدت بنيتها السياسية مع إلغاء قانون العشائر في عام 1959، وأصبحت بنيةً اجتماعيةً تؤدي واجباتها بصفتها مجتمعاً أهلياً حتى جاء التغيير سنة 2003، فعادت العشيرة إلى المشهد العراقي ووصل الأمر تدريجاً لأن تعيد بنيتها السياسية، ولكن ليس بالصيغة الأصلية للعشيرة التقليدية.

صحيفة العراقوكالة الاستقلال      |  العرب في اوروبا  |  IEGYPT  | سعر الدولار في بغداد