1 عندما تنتصر السعودية لعروبة العراق
الحبيب الأسود
العرب بريطانيا
الزيارة المهمة التي أداها تسعة وزراء سعوديين إلى بغداد، والنتائج التي أسفرت عنها تلك الزيارة، تؤكدان بما لا يدع مجالا للشك التحول الكبير في منهجية وعمل دبلوماسية الرياض، وتحولها من قوة صدّ إلى قوة مبادرة وانطلاق نحو صناعة الحدث سواء على الصعيد الإقليمي أو الدولي، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالمنطقة العربية، وبجار كبير ومؤثر مثل العراق الذي كان على امتداد التاريخ البوابة الشرقية للوطن العربي، بما يعنيه ذلك من موقف محوري وأصيل في منظومة الأمن القومي.
هذه الزيارة أفرزت جملة من القرارات المهمة، خاصة من الناحية الاقتصادية، وأبدت ذكاء سعوديا في التعاطي مع واقع العراق وتطلعات شعبه، وأحيت روابط العلاقات الأخوية المحكومة بعوامل التاريخ والجغرافيا والثقافة والمجتمع، وأكدت أن الباب الأول الذي يُفتح على التضامن الحقيقي هو التعاون وتشابك المصالح بين بلدين كبيرين، أحدهما وهو المملكة العربية السعودية في أوج انطلاقتها نحو تشكيل ملامح مرحلة جديدة من تاريخه، التي تتميز بالإصلاح العميق على جميع الأصعدة. والثاني وهو العراق، يتجه إلى الخروج من سلسلة الأزمات التي عرفها خلال السنوات الماضية، وعلى رأسها العنف والإرهاب والصراع الطائفي والفساد، ومحاولات التدخل في شؤونه خاصة من قبل نظام الملالي، الذي كان أول المستفيدين من تخلي العرب عن العراق.
والواقع إن الرؤية الاستراتيجية التي تشكلت بعد وصول الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى الحكم، هي التي أنتجت هذا التحول الذي أبدته الرياض نحو العراق، خصوصا منذ الزيارة التي أداها، عادل الجبير، وزير الخارجية السعودي في فبراير 2017 إلى بغداد، والتي تلتها خطوات حاسمة على طريق تطبيع العلاقات والعودة بها إلى عمقها الحيوي، ترسخت أكثر الأربعاء الماضي بزيارة تسعة وزراء سعوديين دفعة واحدة إلى بغداد في موقف أربك القوى المعادية سواء لعروبة العراق أو لدور المملكة أو للاثنين معا.
بعد غزو العراق عام 2003، انكفأت الدول العربية وخاصة الخليجية وعلى رأسها المملكة السعودية، على نفسها، رغم أن واشنطن حاولت آنذاك إقناع السعوديين ودول المنطقة بأن لهم دورا حيويا في استقرار الـعـراق وإعادة تنظيمه، وأن انشقاق العراقيين سيقود ببساطة شيعة البلاد إلى الارتماء في أحضان الإيرانيين، ويوجه السنة إلى الانضمام إلى الجماعات الإرهابية مثل تنظيم القاعدة. وهذا ما أشارت إليه مجلة “فورين بوليسي” عندما أوضحت أنه “على مدى السنوات الـ14 الماضية، حافظت المملكة على مسافة، وقد أصبح العـراق بالفعل للإيرانيين، وأنه إذا لم يكن كذلك، كان من واجب الولايات المتحدة حلّ المشكلات التي خلقتها مع الغزو”.
إن العراق جمجمة العرب كما يقال، ومن تخلى عنه فقد تخلى عن الجسد العربي، لذلك سعت إيران منذ عام 2003 إلى وضع يدها على القرار السياسي في بغداد عبر أدواتها الميليشيوية والطائفية، وتجرأت على بث الفتنة وتقسيم المجتمع ودعم الإرهاب، لتنطلق بعد ذلك إلى محاولة تكرار السيناريو ذاته في دول عربية أخرى، خاصة بعد عاصفة الربيع العربي، كما عملت على تصدير نموذجها الطائفي إلى العراق ومنه إلى سوريا ولبنان واليمن والبحرين، ولم تكن أصابعها بعيدة عن العمليات الإرهابية التي ضربت المنطقة الشرقية للمملكة، ولا عن الإرهاب في القرن الأفريقي، بل حاولت التسلل حتى إلى دول الشمال الأفريقي، في أخطر مخطط توسعي طائفي متدثر بشعارات المقاومة المزعومة.
لقد أخطأ العرب عندما اعتقدوا أن شيعة العراق محكومون بالولاء لإيران، فالانتماء العربي كان دائما هو الغالب على الشعب العراقي، باستثناء من كانوا عملاء لنظام الملالي أو مقاتلين في صفوفه ضد جيش بلادهم خلال حرب الخليج الأولى، أو أتباع بعض المرجعيات المتبنية لبقايا المشروع الصفوي القافز على الهوية الوطنية والقومية، أو من يتبنون النهج الطائفي في معركة الصراع على السلطة والثروة والنفوذ، مستفيدين من غياب الشقيق العربي عن بلد جريح يحتاج إلى تدخل عاجل، إلا أن “الهجوم المعاكس″ الذي دشنته السعودية منذ 2017 مثّل طوق النجاة للمدافعين عن عروبة العراق والرافضين للنفوذ الفارسي، وساعد على إنعاش دور المرجعيات ذات المنهج العروبي، كما أشعر المواطن العراقي بأنه قادر على تقرير مصير بلاده بعيدا عن هيمنة التيارات الصفوية، وساهم في إخراج سنّة العراق من شعور العزلة الذي فرض عليهم قسرا.
تدرك المملكة أن هناك دورا اقتصاديا واجتماعيا مهما ينتظرها في العراق، ولكن هناك دورا آخر، وهو دور ثقافي مرتبط بمخاطبة الوجدان العراقي الذي طالما تربى على القيم العروبية الأصيلة، خصوصا وأن العراق لا يمكن إلا أن يكون جزءا من المنظومة الخليجية، وهذا ما يمكن أن يكرّسه الفن والأدب والمهرجانات المشتركة والإعلام.
وكل ذلك بات متاحا في ظل الإصلاحات التي تشهدها السعودية وعلى رأسها إصلاح الخطاب الديني ومحاصرة دعاة الفتنة والطائفية، وتقديم خطاب الاعتدال والوسطية تحت خيمة جامعة للعرب على أساس تحصين الأمن القومي وتشبيك المصالح بين الأشقاء، والتصدي للأطماع الخارجية وعزل قوى التآمر على العرب، والارتقاء بالعلاقات مع العواصم العربية المؤثرة إلى مستوى التنسيق التام في مختلف القضايا.
إن الانتصار لعروبة العراق، هو الرهان الذي تعمل الرياض على كسبه، والذي سيكون له أثره على مختلف العواصم العربية؛ فلا استقرار للعروبة دون استقرار عراقها، ولا نهضة لها دون نهضته، ولا تحصين لأمنها القومي دون تحصين أمنه، وإعادته إلى دوره الريادي قويا شامخا عزيزا بشعبه وأمته.
2 العراق.. من صدمة الاحتلال إلى صدمة المستقبل حامد الكيلاني العرب بريطانيا
رحلة الاحتلال الأميركي للعراق، دخلت في التاسع من أبريل 2003 خطوتها العملية بالاستيلاء على العاصمة بغداد بتلك المظاهر في ساحة الفردوس بين رفع العلم الأميركي أو راية العراق. ومن يتتبع ما حصل بعدها يكتشف أن الولايات المتحدة الأميركية تنازعتها قوى متعددة بعد استنفاد المشهد الإعلامي الذي جاءت من أجله بقواتها وجحافلها.
أولى القوى كانت خيبة الأمل من عدم العثور على أسلحة الدمار الشامل، ولو ضمن حدود صغيرة لأهداف بحثية أو دفاعية عند الضرورة، خارج ما أوردته تقارير لجنة التقصي عن الحقائق التابعة للأمم المتحدة ومنظمة الطاقة النووية، وقد خلق ذلك ردود أفعال مستهجنة انتهت باعترافات الرئيس جورج بوش الابن بالخطأ الاستراتيجي الذي اعتمدته الإدارة الأميركية كمعلومات في اتخاذ قرار الحرب، لكنه مضى في الإشادة بصواب الحرب بما حققته من إزالة للنظام السياسي وإقامة الديمقراطية.
الشيء الأهم الذي تبلور في مفاصل النظام الأميركي وظهر على السطح مبكرا في بوادر أزمة اقتصادية هو إنفاق وتبديد الأموال الطائلة في غير محلها، لأن من نصّبتهم واشنطن حكاما مع أحزابهم بخلفيات انتماءاتهم كانوا على استعداد فكري ونفسي وتنظيمي للتخلي عنها والارتماء في حضن دولة ولاية الفقيه ومشاريعها، تنفيذا لمصالحها في البلد الذي خاضت معه حربا مدمرة شاركت فيها معظم القوى التي وجدت دعما من الولايات المتحدة قبل الاحتلال وبعده.
أي إن إيران، بحمولة تاريخ ثورة الملالي من العنف والدم الذي بدأ مع احتجاز الرهائن في السفارة الأميركية بطهران، وصولا إلى سلسلة التفجيرات المروعة في لبنان، تسلمت مقاليد السلطة في العراق بصفقة مشبوهة تشابكت فيها الأحداث والأزمات والمقاربات وبسياسة تخادم أنتجت النظام الحالي في العراق الذي افتقد إلى هوية النظام السياسي لتلونه المستمر في طروحات وتوجهات تحكمها المزاجات والعلاقات الشخصية بنماذج الأحزاب وميولها الطائفية والجهوية، بما جعل من مناهج وقواعد الديمقراطية مصدرا لتطبيقات مزيفة أضاعت الوقت واستنفرت الصراعات الدموية استنادا إلى شرعية صناديق الانتخاب التي وفرت الغطاء لتجميع الأدوات المتفرقة والمتباينة لولاية المرشد الإيراني لبناء نظام هجين بتوليفة غريبة من الأحكام المعاصرة وظلامية عقول الاستبداد والتشدد الديني، بما عبرت عنه قوة الاحتلال بصيغة ترشيد مصادر الاختلاف وشتاته بنظام المحاصصة الطائفية والقومية السياسية، وذلك بتكليف الشخصيات في تدوير الرئاسة الشهرية لمجلس الحكم، بطريقة فيها من الهزل والاستخفاف ما يتناسب وطبيعة وميول ولهفة وطموحات الراغبين بتجريب السلطة.
فترة التمهيد بعد الاحتلال، إن شئنا أن نطلق عليها المرحلة الانتقالية التي سبقت أول انتخابات لاختيار المرشحين لمجلس النواب في العراق، أخفقت في الإعداد لتنمية اقتصادية وتربوية كان العراقيون بأمسّ الحاجة إليها للخلاص ولو من أجزاء صعبة طبعت حياتهم بآثار العقوبات ومردوداتها السلبية الخطيرة، وهو ما يفسر لنا الارتداد نحو الطقوس والانجراف إلى أقصى مدى التعصب الطائفي والعشائري والديني والقومي والإثني. فجأة وجد العراقيون أنفسهم كتلا بمقاسات صغيرة وكبيرة، منكفئة على الدفاع عن وجودها ومصالحها بمن يمثلها في زحمة الحكم والسلطة.
كان ذلك إنذارا لاستنهاض ذاكرة الخلاف والطموحات ونيل الحقوق بالتدافع خوفا من ضياعها، أو التأسيس على هذا الضياع ومنها رؤى مجتمعية وثقافية ضاع صوتها وسط ضجيج وهيمنة إطلاق كمية من شعارات عقائدية في الشارع، أريد لها أن تكون في خدمة مشاريع الأحزاب الإسلامية، وهي أحزاب طائفية استثمرت التغيير بالمطلق لأجنداتها وما زالت.
16 سنة مرت على احتلال العراق والمشهد يبدو أكثر قتامة وسوداوية، لكن من بين انعدام الثقة بالنظام السياسي ما يشكل أكثر من صدمة على مستوى التراجع والعبث في مقومات وكيان الدولة، وتستشعر به الدولة ذاتها برئاساتها الثلاث إلى حدّ أن رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي اضطر إلى القول بعدم السماح للسلاح المنفلت بتهديد هيبة الدولة ومنتسبيها الأمنيين، في إشارة، وإن كانت لا ترتقي إلى القوة والحزم وقول الحقيقة بالمطلق، توجهت للاعتراف ومعالجة ظواهر تجرأت فيها مجموعات عشائرية أو حزبية أو ميليشيوية على رموز تمثل سلطة الدولة في الشارع.
الشهور والأيام الأخيرة بينت أن الاحتلال جاء بإنزال جوي ومظلي بهؤلاء السياسيين الذين عصفت بهم ظنون استتباب الأوضاع لصالحهم لانغماسهم في أوهام السلطة وقوة السلاح والأخذ بزمام المال العام.
حالة استياء في المحافظات بلغت ذروتها بالمطالبة بالأقاليم في الموصل أو البصرة، وأعلنت ما يشبه الاستنفار لدرء ما يمكن أن يعصف بالنظام السياسي للاحتلال وإفرازاته وأمراضه المستعصية، لذلك تتصاعد المخاوف من غضب شعبي استعرت نيرانه في الصيف الماضي وأحرقت أوراقا لتصورات وأجندات، وكادت تشعل فتيلا لثورة شعبية لولا تعزيزات العنف التي وصلت إلى البصرة وغيرها من مدن جنوب العراق.
ما يبعث على الأمل بعد 16 سنة من الاحتلال أن النظام السياسي هو الآخر مصاب بالإحباط من هلوسة الأحزاب والميليشيات التي حكمت طيلة السنوات الماضية، لذا فإن الذهاب إلى الأقاليم في الوقت الحاضر لا يعني بالضرورة ذهابا إلى المزيد من الانقسام وإن كان واردا، بقدر ما فيه من رغبة لرفض تراكمات الاحتلال وأزماته ومصائبه، ولو كبديل عن صوت حراك شعبي يدرك حجم ومصادر ما سيجابه به من قوة.
صوت الأقاليم هو صوت مستتر بالدستور والقوانين لتجنب استخدام العنف المفرط من الميليشيات التي تؤدي مهام الحرس الثوري في حماية نظام ولاية الفقيه من انتفاضة الشعوب الإيرانية وبذات المهام والامتيازات والتسليح وبحماية قانون من تشريع برلمان العراق وبدعم من فتوى مذهبية صنعت من الحشد “الشعبي” قوة فوق قوة الدولة.
للغضب في العراق روافد عديدة بعضها في إطلاق الكراهية والإرهاب وتدمير المدن والآخر في منتجات خيام النزوح والبطالة والجوع والتهجير والمافيات ونقص الخدمات والتلوث والقمع والسلاح المنتشر، لذلك فإن ما يردده الرئيس برهم صالح من أن العراق لا يريد أن يكون ساحة تصفيات ينطبق أولا على الوضع المحلي بمؤشرات الاستياء من نظام سياسي لا يمتلك استراتيجيات الدولة الحديثة المستقلة بقرارها وقوة سلاحها الشرعي. حينها فقط يمكننا رؤية ما يجود به المستقبل من صدمات تتصل بالتنمية والعلوم وسباق التكنولوجيا والاتصالات، ومعها استحقاقات حقوق الإنسان في الرفاهية والعيش الكريم في الوطن.