فوز سهل
وتنافس معلوف الذي يكتب باللغة الفرنسية والحائز سابقاً على «جائزة غونكور» الأدبية في عام 1993 التي تُعدّ هي الأخرى من أرقى الجوائز الأدبية في فرنسا، مع الدبلوماسي والطبيب والروائي جان ــ كريستوف ريفان، الحائز هو أيضاً على «جائزة غونكور» عام 2001. ومعلوف وريفان كلاهما عضو في الأكاديمية التي تضم 35 عضواً يشكلون هيئتها الناخبة بينما 5 من مقاعدها تبقى فارغة. وستكون إحدى مهام السكرتير الأبدي «الدائم» الجديد العثور على شخصيات مؤهلة للانضمام إليها وملء الفراغ الحاصل. وحاز معلوف على 24 صوتاً فيما حصل منافسه ريفان على 8 أصوات، ما يُعدّ انتصاراً باهراً على «صديقه» ريفان. وبذلك يحل صاحب روايات «صخرة طانيوس» و«ليون الأفريقي» و«سمرقند» في مقعد السكرتارية العامة الذي كانت تشغله حتى وفاتها، بداية شهر أغسطس (آب) الماضي، المؤرخة والكاتبة السياسية هيلين كارير دانكوس. ومع هذا الانتخاب، يكون أمين معلوف السكرتير «الأبدي» (أي لمدى الحياة) والـ24 للأكاديمية. كما أنه أول لبناني ومشرقي الأصل يُنتخب لهذا المنصب الرفيع جداً، الذي ترنو إليه أنظار جميع أعضاء الأكاديمية. ومع انتخابه، يصبح أمين معلوف الشخصية الرابعة والعشرين في الجمهورية الفرنسية. ووفق القانون المعمول به، يعد رئيس الجمهورية «راعي وحامي» الأكاديمية التي تأسست على يدي الكاردينال ريشوليو، الوزير الأول في حكومة الملك لويس الثالث عشر.
وفي حديثه للصحافة، أعرب معلوف عن «اقتناعه بأن مهمَّة الأكاديمية الفرنسية اليوم تفوق ما كانت عليه زمن الكاردينال ريشوليو» مؤسسها، مضيفاً أنه يتعين عليها أن «تعكس التنوُّع في فرنسا والعالم»، لكونها «عنصراً أساسياً لتحديد هوية فرنسا وإشعاعها عبر العالم». ووفق السكرتير الأبدي الجديد للأكاديمية، فإن العالم اليوم «مرتبك، ونحن بحاجة لمؤسسات تمثل ما يمكن تسميته ضميره الأخلاقي»، في إشارة إلى الأكاديمية التي أصبح مديرها.
وعقب انتخابه، وصفت وزيرة الثقافة الفرنسية، اللبنانية الأصل، ريما عبد الملك، اختيار أمين معلوف بأنه «ممتاز، إذ إنه كاتب كبير ورجل يدعو للإخاء والحوار والتهدئة». ووفق الوزيرة الفرنسية، فإن أمين معلوف يمثل «رمزاً رائعاً لكل المتكلمين بالفرنسية عبر العالم».
داعي حوار الحضارات وتصالح الهويات
يعكس اهتمام جميع الوسائل الإعلامية الفرنسية بانتخاب الخميس أهمية المنصب. وحتى يوم الاثنين الماضي، عدّت هذه الوسائل وصول أمين معلوف أمراً محسوماً، لكونه المرشح الوحيد الذي يحظى بشبه إجماع من قبل نظرائه في الأكاديمية. فضلاً عن ذلك، كان معلوف قريباً جداً من السكرتيرة الدائمة السابقة التي هيمن ظلها على الأكاديمية طوال 24 عاماً. يُضاف إلى ما سبق، وفق المطلعين على خفايا الأمور الداخلية للمؤسسة العريقة، أن معلوف كان يُنظر إليه على أنه المرشح الأفضل لإدارة شؤون الأكاديمية لسببين رئيسيين: الأول، شخصيته المتميزة بالانفتاح، ولتمسكه بالحوار بين الأفراد، كما كان دوماً من دعاة الحوار بين الحضارات الغربية والشرقية. والثاني أنه كان ينظر بجدية إلى المهمات المنوطة بأعضاء الأكاديمية بحيث كان يعمل بجد وعزيمة. وكان معلوف قد انتخب عضواً في الأكاديمية في عام 2011، متأخراً 5 سنوات عن منافسه ريفان.
يكمن السر الإضافي لنجاح معلوف الذي حل قبل 12 عاماً في مقعد العالم الإثنوغرافي الشهير كلود ليفي شتروس في أنه أعرب عن رغبته في الترشح لإدارة الأكاديمية منذ 12 سبتمبر (أيلول) الماضي. ولغياب المنافسة، حتى أيام قليلة، كان يُنظر إليه على أنه أصبح عملياً الأمين العام الدائم حتى قبل الانتخاب. والحال أن الأمور تغيرت الاثنين الماضي عندما أعلن ريفان عن ترشحه، الأمر الذي كان بمثابة مفاجأة لكثيرين. وكشفت صحيفة «لو موند» في عددها ليوم أمس أن ريفان كان قد دعا صديقه معلوف إلى العشاء في بيته. إلا أن الأخير اعتذر عندما علم أن الدبلوماسي والروائي قد بعث برسالة ترشحه إلى الأكاديمية. ويرتبط الرجلان بصداقة عمرها ثلاثون عاماً. وفي رسالة الترشيح، كتب ريفان أنه اتخذ قراره بعد كثير من التفكير معتبراً أن المهمة النبيلة «تستأهل بعض التضحيات». وقال للصحيفة المذكورة لاحقاً إنه لم يرد أن تكون انتخابات الأكاديمية على غرار انتخابات كوريا الشمالية، حيث هناك مرشح واحد يفوز عادة بإجماع أصوات الناخبين. وحتى يوم الأحد الماضي، كان ريفان يؤكد أنه لن يترشح، وقال في تصريح لمجلة «لوبوان» في 24 من الشهر الحالي إنه «من غير المعقول» بالنسبة إليه أن ينافس صديقه معلوف على المنصب. لكن الأمور تغيرت في اليوم التالي.
رسائل كثيرة يجسدها انتخابه
كُتِب الكثير عن أمين معلوف، حياته وكتبه، لا، بل إنه كتب شخصياً عن تاريخ أسرته. فالرجل المعروف بتواضعه وحتى بخجله، روى بنفسه قصة أسرته متعددة الجذور: جدته لوالده تركية الأصل وجده مصري يوناني، أما هو، فقد وُلد في لبنان في عام 1949، ووالده رشدي المعلوف كاتب وصحافي وسياسي لبناني معروف. وبدأ حياته المهنية صحافياً في بيروت التي كانت في ستينات وسبعينات القرن الماضي منارة الصحافة العربية. لكن الحرب التي اندلعت في عام 1975 دفعت الكثيرين إلى الهجرة، ومنهم أمين معلوف الذي انتقل إلى باريس حيث مارس الصحافة في إطار مجلة «جون أفريك»، قبل أن يتفرغ لمهنة الكتابة. ومنذ البداية، اختار فن الرواية التاريخية وبرع فيه. وكان حصوله على جائزة غونكور في عام 1993 لروايته «صخرة طانيوس»، التي تحكي قصة قرية وادعة في جبل لبنان مع تشعباتها وامتداداتها الطريق التي فتحت أمامه باب الشهرة بعد روايات أخرى ناجحة للغاية. ومن اهتماماته الدائمة مسألة الهوية المتنافسة لا بل المتصارعة وكيفية التوفيق بينها وتلاقح الثقافات والحضارات، ومما قاله يوم دخوله إلى الأكاديمية رغبته في هدم «حائط البغض» الذي «يفصل بين الأوروبيين والأفارقة، وبين الغرب والإسلام وبين اليهود والعرب». ولم يكتفِ معلوف بالرواية التاريخية بل تخطاها إلى الكتابات النظرية والتحليلية وما يسمى بالفرنسية «ESSAIS» مثل «الهويات القاتلة».
قطعاً، انتخاب معلوف يحمل رسالة بالغة الأهمية؛ ففي الوقت الذي تتفاقم فيه العلاقات بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب، وتطرح قضية الهجرات عبر المتوسط بقوة لما يرافقها من تشدد واستقواء الشعور العنصري والمعادي للأجانب في عدد من البلدان الأوروبية، يُعد وصول معلوف الداعي لحوار الحضارات والتفاهم بين الشعوب، دعوة لتغيير المفاهيم والعلاقات بين الدول والشعوب. ولكن هل سيكون لهذه الدعوة تأثير ما على مسار الأمور؟ كثيرون يشككون بذلك لأن مقتضيات السياسة لا تتوافق غالباً مع رؤى الكتاب والروائيين.
أمين معلوف أديب «بين بلدَين» كرّس مسيرته لمد الجسور بين الحضارات
إذ و إثر انضمامه إلى الأكاديمية عام 2012، نقش معلوف على سيفه الخاص بأعضاء المؤسسة العريقة رمز «ماريان» (شعار الجمهورية الفرنسية) وأرزة لبنان.
ووفق وكالة الصحافة الفرنسية، توجه جان كريستوف روفان، صديق معلوف وزميله في الأكاديمية ومنافسه في انتخابات الخميس على رئاسة المؤسسة العريقة، إلى معلوف تحت قبة الأكاديمية قائلاً: «كل أعمالك، كل أفكارك، كل شخصيتك، هي جسر بين عالمين… يحمل كل منهما نصيبه من الجرائم، ولكن أيضاً من القيم. هذه القيم هي التي تريد توحيدها».
وزيرة الثقافة الفرنسية ريما عبد الملك تحيي الكاتب أمين معلوف بانتخابه أميناً دائماً للأكاديمية الفرنسية في باريس (إ.ب.أ)
وكان أمين معلوف، الصحافي السابق المقيم في فرنسا منذ عام 1976، قد فاز بجائزة غونكور الأدبية المرموقة عام 1993 عن رواية «Le Rocher de Tanios» (صخرة طانيوس) التي تدور أحداثها في الجبال اللبنانية خلال طفولته.
ويزخر سجل الروائي المتميز بكتب حصدت نجاحاً كبيراً، بينها «Leon l’Africain» (ليون الأفريقي) عام 1986، و«Samarcande» (سمرقند) عام 1988، و«رحلة بالداسار» عام 2000، و«Nos freres inattendus» (إخوتنا الغرباء) سنة 2020.
أمين معلوف (74 عاماً) يعقد مؤتمراً صحافياً بعد انتخابه سكرتيراً دائماً للأكاديمية الفرنسية في باريس (إ.ب.أ)
ومن مؤلفات معلوف «Les Croisades vues par les Arabes» (الحروب الصليبية كما رآها العرب) عام 1983، و«Les Echelles du Levant» (موانئ المشرق) سنة 1996، و«Les Identités meurtrières» (الهويات القاتلة) سنة 1998، و«Le Dérèglement du monde» (اختلال العالم) عام 2009، و«Un fauteuil sur la Seine» (مقعد على ضفاف السين) عام 2016، حيث يروي حياة الأكاديميين الـ18 الذين سبقوه إلى الكرسي التاسع والعشرين (رقم مقعده في الأكاديمية الفرنسية) منذ عام 1635.
أمين معلوف في 14 يونيو 2012 عندما أصبح عضواً جديداً في الأكاديمية الفرنسية (أ.ف.ب)
كما كتب معلوف نصوصاً للأوبرا، خصوصاً للمؤلفة الفنلندية كايا سارياهو. وقد أُنجزت إحدى هذه القصص الأوبرالية، بعنوان «L’Amour de loin» (الحب عن بعد) في مهرجان سالزبورغ سنة 2000.
وتحتل موضوعات المنفى والترحال والاختلاط الثقافي والهوية، موقعاً مركزياً في منشوراته المكتوبة بالفرنسية بلغة عميقة لا تخلو من المتعة السردية.
ففي كتاب «Origines» (بدايات) سنة 2004، تحدّث معلوف عن شعوره بالالتزام تجاه أسلافه. وكتب أن المرء في بلده الأم يولد محباً للترحال ومتعدد اللغات. والعائلة هي التي تؤسس «الهوية الشتاتية» لأبناء جلدته الذين يتركون مثله لبنان ليشقوا طريقهم حول العالم.
الكاتب الفرنسي اللبناني وعضو الأكاديمية الفرنسية أمين معلوف في منزله في بورت جوانفيل غرب فرنسا في 1 أكتوبر 2021 (أ.ف.ب)
الحنين إلى «المشرق»
ولد أمين معلوف في بيروت في 25 فبراير (شباط) 1949، وهو ابن رشدي المعلوف، الصحافي والكاتب والمعلم والرسام والشاعر والشخصية اللامعة في العاصمة اللبنانية بين أربعينات القرن العشرين وثمانيناته.
وعلى خطى والده، خاض أمين معلوف غمار الصحافة بعد دراسات في الاقتصاد وعلم الاجتماع. ولمدة اثني عشر عاماً، عمل مراسلاً رئيسياً، وغطّى سقوط النظام الملكي في إثيوبيا ومعركة سايغون الأخيرة (في حرب فيتنام)، وتولى بعدها إدارة «النهار العربي والدولي».
وفي عام 1975، شهد الاشتباكات الأولى إثر اندلاع الحرب اللبنانية، قبل أن يقرر هذا المثقف الإنساني السفر إلى فرنسا.وقال أمين معلوف: «لقد غادرتُ لبنان بعد عام من الحرب، لكنني لا أشعر بالذنب لأنه، في مرحلة معينة، كان علي اتخاذ قرار المغادرة من أجلي ومن أجل عائلتي».
وفي باريس، انضم إلى مجلة «Jeune Afrique» («جون أفريك» أي «أفريقيا الشابة») الأسبوعية التي أصبح رئيس تحريرها.
على خطى أدباء لبنانيين ناطقين بالفرنسية من أمثال شارل قرم وناديا تويني وصلاح ستيتية، يكتب أمين معلوف بأسلوب يمزج بين القوة والسلاسة بنفحة شرقية. لكنه يقول: «إذا وجدوني في الغرب شرقياً، فإنهم في الشرق سيجدونني غربياً جداً!».
انتظر هذا الرجل المتحفظ المبتسم حتى عام 1993 ليستحضر لبنان في كتاب «صخرة طانيوس»، موضحاً: «لم أبتعد يوماً عن لبنان، بل بلدي هو الذي ابتعد عني».
وقال عند عودته إلى بلده الأم عام 1993 بعد غياب استمر عشر سنوات: «لا أحاول أن أعرف إلى أي بلد أنتمي، فأنا أعيش هذه الجنسية المزدوجة، اللبنانية والفرنسية، بطريقة متناغمة».
في كتاب «Les Désorientés» (التائهون) سنة 2012، استرجع معلوف بحنين سنوات دراسته الجامعية، مستذكراً مناخ التعايش في أرضه الأمّ «المشرق» قبل الحرب.
وبحسب قوله، فقد «اختفت نوعية التعايش التي كانت موجودة بين المجتمعات المختلفة وما كان ينبغي أن تختفي أبداً، بل كان يجب أن تكون نذيراً للمستقبل، وهي اليوم تنتمي إلى الماضي».
ويوزع أمين معلوف، وهو أب لثلاثة أبناء، إقامته بين باريس وجزيرة يو في منطقة فانديه الفرنسية. وهو عمّ عازف الترومبيت إبراهيم معلوف.
أمين معلوف… «مشرقية» لم الشمل الإنساني!
منذ الاحتكاك بالحداثة الغربية وحتى هزيمة يونيو 1967، لم يظهر التوصيف المناسب لحالة «الأبوريا» أو التناقض الداخلي المستحكم الذي يحياه الإنسان العربي، بين عدم الانتماء للمجتمع الأبوي التقليدي من جهة، والعجز عن اللحاق بعصر الحداثة وما بعدها من جهة أخرى.
فقط استطاع «ألبرت حوراني» (1915 – 1993) أن يقبض بكلتا يديه على هذا التناقض وصياغته في مفهوم «التشرقية»، ويعني (انعدام الأصالة).
الفرد التشرقي – على حد تعبيره – هو الذي يعيش في الوقت نفسه، في عالمين أو أكثر دون أن ينتمي إلى أي منهما. «وهو الذي يتمكن من تلبس الأشكال الخارجية المشيرة إلى تملك جنسية معينة أو دين أو ثقافة، دون أن يملكها بالفعل. وهو الفرد الذي لم تعدله قيمه الخاصة، ولم يعد قادراً على الخلق بل على المحاكاة فحسب. وحتى المحاكاة لا يقوم بها بشكل دقيق، لأنها هي أيضا تقتضي نوعاً من الأصالة. إنه إنسان لا ينتمي إلى أي مجتمع ولا يملك أي شيء خاص به».
انتشر مفهوم التشرقية مثل النار في الهشيم في الربع الأخير من القرن العشرين، وتبناه معظم أصحاب المشاريع النهضوية في العالم العربي، باستثناء قلة استطاعت الإفلات من قبضة حوراني، منهم الأديب والمفكر «أمين معلوف» الذي طرح مفهوماً مغايراً للتشرقية، أنهى قرناً كاملاً من الجهود الفكرية الجادة، ودشّن في الوقت نفسه منعطفاً جديداً في عصر العولمة، هو مفهوم «المشرقية».
لم ينكر معلوف خطورة «التشرقية» أو يتهرب من تداعياتها السلبية، فقد عالجها ببراعة في روايته «التائهون» عام 2012 (شخص لا ينتمي إلى أي من المكانين ولا يملك أي أصالة)، ولكنه كان يسابق الزمن في بلورة «البديل الممكن» – منذ وقت أبكر – القادر على إخراجنا من هذه الحالة المأساوية، نبني عليه ونطوره بالتعاون مع شعوب العالم والحضارات الأخرى، أملاً في مستقبل أفضل.
و«المشرقية» وفق معلوف هي: «الأصالة» بألف ولام التعريف، والتعايش والتسامح والاعتراف بالآخر في اختلافه، والتضامن الإنساني والاحترام المتبادل والمواطنة العالمية. وهذا النموذج الفريد وإن كان قد ظهر في «المشرق» تحديداً، فإن أبعاده الحضارية والإنسانية والعالمية تتجاوز الجغرافيا والتاريخ معاً.
ويمكن العثور على هذه المعاني بدرجات متفاوتة في معظم أقواله وكتاباته الإبداعية: من «صخرة طانيوس» و«الحب عن بعد»، إلى «اختلال العالم» و«الهويات القاتلة» و«ليون الأفريقي»، وحتى أحدث إصداراته، كما أنها موثقة في الحيثيات التي حصد بها معظم جوائزه؛ مثل «غونكور الفرنسية» و«أمير أستورياس للآداب» في إسبانيا وغير ذلك من الجوائز العالمية.
الجديد في مفهوم «المشرقية» عند مفكرنا أنها: «حالة ذهنية»، وبنية عقلية في المقام الأول، يمكن أن تتكرر في أي مكان وزمان ما دام تحققت شروطها، بل يذهب معلوف إلى ما هو أبعد من ذلك، حين يقرر أن خلاص العالم اليوم يكمن في تعلم «المشرقية»، ذلك أن «اختلال العالم» يشير إلى غياب بوصلة المشرقية! ورغم أننا نمتلك إمكانيات مادية وتكنولوجية هائلة في القرن الحادي والعشرين، فإن ما ينقصنا هو أننا لا نعرف بعد: كيف نعيش مع بعضنا بعضا!
ومنذ روايته «ليون الأفريقي» عام 1986 سعى معلوف للتنبيه إلى الحاجة الملحة للتفكير بعمق فيما ينقص عالمنا بشدة، وهو بكلمة واحدة: «لم الشمل الإنساني»، كما كانت الحال بين الشعوب والحضارات العربية الإسلامية والإسبانية الأوروبية المسيحية والحضارة اليهودية كذلك، الذين التقوا جميعا في إسبانيا (الأندلس)، لإيمانه العميق بأن البشرية بدأت حضارة واحدة وستنتهي حضارة واحدة. وهو لا يكف عن الإشارة إلى هذه الشذرة الذهبية للشاعر العربي:
«إذا كنت من تراب فكلها بلادي وكل الأنام أقاربي».
على أن عودة معلوف إلى التاريخ بوصفها نقطة انطلاق واستحضار «المشرقية» في عصر العولمة، ليست حنيناً إلى الماضي «نوستالجيا»، أو نوعاً من أنواع «اليوتوبيا» في المستقبل، بل هي حاجة وجودية شديدة الواقعية، لا سيما وأن لدينا رصيدا إنسانيا غنيا ومخزونا من المواطنة العالمية، يثبت أن التعايش ممكن من خلال التعلم المستمر الذي يمارسه الإنسان ويتدرب عليه طوال حياته.
وتصبح مسؤولية المفكر الحقيقي الكشف عن المراحل والمناطق المضيئة والآليات العقلية، التي تدعم هذه الفكرة المحورية، سواء في إسبانيا (الأندلس) أو الإسكندرية الهيلينية أو غير ذلك. وفي الوقت نفسه، إبراز المعوقات والحواجز التي تحول دون تحقيقها اليوم، وهي في العمق إشكاليات «ثقافية» بالمعنى الواسع، مثل: التعصب، ورفض الاختلاف، وعدم الاعتراف بالخطأ، وامتلاك الحق، والتعالي الإنساني، والصراعات والحروب.
لذا يرفض معلوف، على سبيل المثال، الآيديولوجيات التي تدعو إلى صراع الحضارات كما صاغها «صمويل هنتنجتون» حديثاً، بل ويشدد على ضرورة مقاومتها، لأن العالم لا يمكن أن يستمر إلا إذا تخطينا هذا الصراع إلى نوع من التعايش ليس فقط بين الحضارات، وإنما بين الناس.
عودة معلوف إلى التاريخ بوصفه نقطة انطلاق واستحضار «المشرقية» ليست حنيناً إلى الماضي «نوستالجيا»، أو نوعاً من أنواع «اليوتوبيا» في المستقبل، بل هي حاجة وجودية شديدة الواقعية
فما يتميز معلوف عن بعض المفكرين والمنظرين المعاصرين في الغرب، أمثال فوكوياما وهنتنجتون وغيرهما، يمكن تلخيصه في النقاط التالية:
أولاً: دعوته إلى المشرقية ليست نوعاً من التعالي الثقافي أو «الانتصار الثقافي» الذي يمارسه البعض بحجة تفوق الغرب مثلا على سائر ما عداه، سواء في صيغة النهايات (نهاية التاريخ) أو آيديولوجيا (صدام الحضارات)، بل يؤكد معلوف على أن «الدرس الأكبر الذي علمنا إياه القرن العشرون: أنه لا توجد عقيدة تحريرية بذاتها، فكلها يمكن أن تنحرف، وكلها يمكن أن تشذ، وكل أياديها ملطخة بالدماء، الشيوعية والليبرالية والقومية وكل الديانات الكبرى وحتى العلمانية. لا أحد يحتكر التعصب، وبالعكس لا أحد يحتكر ما هو إنساني».
ثانياً: إذا كان معلوف يشارك معظم المفكرين الكبار اليوم أمثال بيتر سلوترديك وأغامبين وآلان باديو وهابرماس ودريدا وغيرهم في أن عالمنا قد تغير كلياً على الصعيدين المادي والتكنولوجي، بينما لم يتغير بشكل كاف على صعيد العقول والأفكار، بمعنى أننا لم ندرك بعد النتائج المعنوية للتكنولوجيا على مجتمعاتنا، فإن معلوف لم يكتف بالتشخيص والتأويل والنقد والتفكيك لهذا الواقع المأزوم، وإنما تجاوز ذلك إلى طرح البدائل الممكنة التي يمكن أن تجابه التحديات القادمة وتحقق التعايش المنشود.
ثالثاً: نجح معلوف في «تضفير» ملامح من سيرته الذاتية وانتماءاته المتعددة ودراساته المتعمقة وقلقه الوجودي، في نموذج قادم من المستقبل بأثر رجعي! فكونه يحمل انتماءات متعددة ويتفاعل مع كل هذه الانتماءات في الوقت نفسه، جعله مدفوعاً برغبة قوية: بأن تعود (المشرقية) أو قل الشرق الأوسط الحضاري (الحاضن لكل الثقافات والأديان والطوائف والإثنيات) إلى سابق عهده في (لم الشمل الإنساني)، مخلِّفاً أزمنة الحروب الدينية والهويات القاتلة، من أجل بناء عالم إنساني واحد له مصير مشترك، وبدلاً من أن يكون «تعدد الهويات» جريمة، يصبح «صداقة» تصالح الجميع فيما بينهم.
رابعاً: استخدام معلوف «الرواية» بصفتها وسيطاً إبداعياً إلى جانب دراساته الأكاديمية، في مخاطبة العالم بلغاته التي يفهمها، مكّنه من توصيل أفكاره بسهولة إلى القارئ العادي، خاصة وأن الحوار في الرواية يقوم على تعدد الأصوات. والحوار لغة هو كلمة يونانية (ذيالوغوس) تعني «اللقاء» من خلال الكلمة والفكر والثقافة، وهو ينشئ ثقافة قبول الآخر في اختلافه؛ وذلك هو جوهر ثراء التجربة الإنسانية «المشرقية»!