بالرغم من الحماس، الذي يظهره ترامب لإسرائيل، والذي تحول إلى سياسة عامة للولايات المتحدة نحو هذه الدولة، تمثّل بنقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس، وتماثله الكبير مع توجهات حكومة نتانياهو المتطرفة خلال فترة رئاسته الأولى. بالرغم من كل هذا، فإن اليهود الأمريكيين لم يصوتوا لترامب في هذه الانتخابات الأخيرة. هذا ومع أن صحيفة تايمز أو إسرائيل قدّرت، في 6 نوفمبر، أن %79 من أصوات اليهود الأمريكيين ذهبت إلى هاريس. أرى أن إحصائية هآرتز، التي نشرت في 11 نوفمبر، أكثر دقة. فقد قدرت هآرتز الإسرائيلية الأصوات اليهودية التي ذهبت إلى هاريس بـ%71، بينما صوت لترامب %26، و%3 ذهبت إلى جيل ستاين Jill Stein وآخرين.
هذا ومع أن الصوت العربي في الانتخابات الأمريكية يشكل أقل من %1، بينما يشكل اليهود حوالي %2.6 من مجموع الأصوات، فإنه برزت أهمية الصوت العربي كونه مركزاً في ولاية متشيغان، وهي من الولايات التي يطلق عليها الولايات المتأرجحة، لذا زارها ترامب أكثر من مرة، والتقى قيادات ضمن الجالية العربية، وحصل على دعم من محافظي مدينة ديربورن وهامترامك، بمساعدة من صهره اللبناني الأصل مسعد بولص. وتقدّر الغارديان البريطانية ان الديموقراطيين خسروا حوالي 22 ألفاً من أصوات العرب لمصلحة الحزب الجمهوري، لكن نشرة «صوت أمريكا» ترى أن معظم أصوات العرب في متشيغان ذهبت إلى مرشحة حزب الخضر الدكتورة جيل ستاين. لكن يبقى أن نسبة العرب الأمريكيين، التي صوتت لترامب تزيد على نسبة اليهود الأمريكيين، الذين صوتوا له، والذي قد يبدو محيراً لأول وهلة، هو كيف يصوّت العرب لمن يتماهى مع سياسات نتانياهو وبن غفير وسموتريتش العدوانية، وكيف يقف اليهود الأمريكيون ضد من ضغط من أجل اعتراف العرب بإسرائيل، وعيّن زوج ابنته اليهودي ممثلاً له في الشرق الأوسط. فمع كل هذا الحماس نحو إسرائيل، فإن أغلبية اليهود الأمريكيين يمقتون ترامب. يقول دوف واكسمان Dov Waxman في «هآرتز»، بتاريخ 11 نوفمبر، وهو أستاذ وباحث في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس: «هناك أشياء لا تتضح من خلال التصويت المنخفض لليهود لترامب، ذلك هو مدى مقتهم وكراهيتهم له وخوفهم منه.. فحراك MAGA، الذي يقوده ترامب يهدّد القيم اليهودية الليبرالية. كما أن الوطنية المسيحية البيضاء، التي تدعمه، تهدد علمانية وتعددية المجتمع الأمريكي، الذي يرى اليهود أن ازدهارهم يعتمد عليه».
ويوضح واكسمان أن موضوع إسرائيل يأتي بالدرجة الثالثة في أولويات الناخب اليهودي. فلا يعطيه الأهمية الأولى إلا %14 من الناخبين اليهود، بينما يعطى الإجهاض الأولوية %38 من الناخبين اليهود، أما موضوع الحريات والديموقراطية فيعطيه الأولوية %52 من الناخبين اليهود.
هذا وبعد أن أعلن الرئيس المنتخب ترامب مجلسه الوزاري، الذي كان من ضمنه تعيين تاجر العقارات اليهودي ستيفن وتكوف Steven Witkoff مبعوثاً له إلى الشرق الأوسط، وبعد تعيين مايك هكابي Mike Huckabee سفيراً في إسرائيل، وهو رجل دين مسيحي رشح لانتخابات الرئاسة لعام 2016، لكنه انسحب لمصلحة ترامب، وتم تعيين ابنته ناطقة باسم البيت الأبيض في فترة ترامب الأولى. وهو من المسيحيين المؤيدين لضم الضفة الغربية وغزة لإسرائيل، بل إن فلسطين والضفة وغزة لا توجدان في قاموسه. فوجوده في إسرائيل سيعمل على تقوية الجناح المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية، وربما سيجعل من نتانياهو شخصية معتدلة.
بعد كل هذه النتائج المنذرة بالشر، لا بد أن نتواصل اكثر مع اليهود الأمريكيين، وننفتح عليهم. فاليهود الأمريكيون الذين صوتوا إلى هاريس، وتزيد نسبتهم على %71، هؤلاء هم ضد سياسة حكومة نتانياهو، وهم مع إسرائيل، لكن أغلبهم مع تأسيس دولة فلسطين في الضفة وغزة، وهم لا يكرهون ترامب فقط – كما يرى الدكتور دوف واكسمان – بل يحتقرون نتانياهو. لذا فإن رئيس مجلس الشيوخ، اليهودي تشاك شومان، دعا إلى استقالة نتانياهو، بعد أن رأى الوحشية التي أطلقها على غزة.
وفي هذا المجال، أود أن أبحث في الظروف التاريخية، التي أدت إلى نشأة الحركة الصهيونية، إضافة إلى نقاش أوسع حول التمايز الفكري والسياسي داخل الحركة الصهيونية نفسها.
إن ظروف نشأة الصهيونية تسبق تأسيسها في المؤتمر الصهيوني الأول، الذي عقد في بازل في 1898. فالحركة الكولونيالية الأوروبية في أفريقيا والشرق الأوسط، إضافة إلى الاضطهاد اليهود في وسط وشرق أوروبا، أوحيا لهرتزل بأن الحل يكمن في تأسيس دولة يهودية في فلسطين. ولم تكن الدولة او الوطن، الذي حلم به هرتزل مشابهاً لإسرائيل الحالية. ففي رواية نشرها باللغة الألمانية 1902، تحت عنوان: «الأرض القديمة الجديدة»، كان اليهود يعيشون فيها مع العرب تحت نظام حكم يساوي بينهما في الحقوق والواجبات. هذا ومع أن رؤية هرتزل لم تكن تنادي باستخدام العنف في تأسيس هذا الوطن الموعود، فإنه وإلى عام 1917 – العام الذي صدر فيه وعد بلفور – كان أكثر من %50 من اليهود في أوروبا معادين لتأسيس دولة يهودية في فلسطين. ولعل من أشهر المعادين لفكرة تأسيس دولة يهودية في فلسطين كان صديق هرتزل – الروائي النمساوي شتيفان تسفايغ – الذي لم يتوجه إلى فلسطين هرباً من ألمانيا النازية، بل هاجر إلى الأرجنتين عام 1940، وانتحر مع زوجته في السنة نفسها، ليأسه من العالم، بعد أن احتلت جيوش هتلر أوروبا. لكن أهم شخصية سياسية أوروبية معادية للصهيونية كان الوزير اليهودي في الحكومة البريطانية إدوين صمويل مونتاغيو Edwin Samuel Montagu.
وقد تولى مونتاغيو الوزارة عام 1915 أولاً في حكومة هربرت هنري أسكويث Henry Herbert Asquith، وكان عمره 36 سنة، وكان أسكويث قد رفض محاولات حاييم وايزمان لتقديم خطاب، يعد بالمساعدة في إنشاء دولة يهودية في فلسطين، وكان مونتاغيو اليهودي من أكثر المؤيدين لأسكويث برفض هذه الفكرة، بل كان مونتاغيو يسخر من اعتبار اليهودية قومية، قائلا: «هل هذا يعني أن اليهودي المغربي واليهودي الإنكليزي ينتمون إلى القومية نفسها؟ أو هل ينتمي المسيحي الفرنسي والمسيحي الإنكليزي إلى القومية نفسها؟»، وكان أعظم خوف لدى مونتاغيو هو أن تأسيس دولة يهودية ما هو إلا مقدمة لطرد اليهود من أوطانهم. لكن في عام 1916 تشكلت وزارة حرب ائتلافية، ضمت من بين أعضائها لويد جورج وآرثر بلفور، وكان حاييم وايزمان مقرباً لهما، فعرضت الفكرة على مجلس الوزراء مرة أخرى، ومع أن أسكويث ومونتاغيو رفضاها مرة أخرى، فإنهم اضطرا لقبولها مع اجراء تعديلات عليها. ومن هذه التعديلات أن تكون فلسطين وطناً قومياً لليهود، وليس الوطن القومي. كما أضيفت إلى الخطاب تعديلات تتعلق بضرورة حماية حقوق العرب في فلسطين. وبذلك صدر وعد بلفور المشؤوم، الذي عارضه أكثر من %50 من يهود بريطانيا. هذا وحتى بعد صدور وعد بلفور، ظلت الفكرة غير واضحة ومختلفاً عليها حتى بين اليهود الصهاينة. فبعضهم رأى في الصهيونية أيديولوجية تمكّن اليهود من تأسيس وطن يهودي بالكامل، وآخرون رأوا أن الصهيونية فكرة اشتراكية تحريرية، تهدف لتأسيس وطن يضم العرب واليهود. ونحن نعرف ان الفكرة العنصرية الطاردة انتصرت في إسرائيل إلى حد كبير، خاصة بعد أن أقرّ مجلس النواب الإسرائيلي قانوناً بيهودية الدولة. لكن من المفيد تاريخياً، ولتكوين رؤية مستقبلية مع يهود أمريكا، أن ننظر في تاريخ الصهيونية المسالمة، التي دعت إلى تأسيس دولة واحدة ثنائية القومية، الأمر الذي يأخذنا إلى الحديث عن جودا ماغنيس Judah Mangnes.
وهو حاخام وأستاذ جامعي، ولد في سان فرانسيسكو عام 1877، وتوفي في نيويورك عام 1948. لكن معظم حياته بين ميلاده ووفاته قضاها في فلسطين. وكان صهيونيا، لكن صهيونيته كانت تدعو إلى تأسيس دولة ثنائية القومية. وقد أسس، لتحقيق هدفه هذا، حركة سياسية أطلق عليها بريت شالوم Brit Shalom عام 1925، ومن بين أعضاء هذه الحركة كان المفكر اليهودي الكبير مارتن بوبر Martin Bauber، وضمت هذه الحركة أساتذة من الجامعة العبرية. وقد لعب ماغنيس دوراً مهماً في تأسيس الجامعة العبرية، وشاركه في الجهود ألبرت آينشتاين وحاييم وايزمان، وكان ذلك في أول العشرينات من القرن الماضي، وقد عمل في البداية عميداً فيها، ثم كان رئيسها خلال الفترة 1935 – 1948، وكان يرى في الجامعة منارة للعلم لليهود وللعرب، ومجالاً للتلاقي الفكري. وظل ماغنيس وفياً لفكرة الدولة الواحدة الثنائية القومية، حتى بعد اندلاع الحرب العربية الإسرائيلية. وبعد أن تأسست إسرائيل عام 1948، انشغل باقي حياته في مساعدة اللاجئين الفلسطينيين. ومازالت هناك في إسرائيل قلة من اليهود تؤمن بفكرة الدولة الواحدة، من بينهم أومري بويهم Omri Boehm – الأستاذ في جامعة نيويورك، وصاحب كتاب جمهورية حيفا Haifa Republic.
وأرى أن فكرة الدولة الواحدة وانحسار الفكر، الذي كان يحمله مفكرون كبار، مثل مارتن بوبر وجودا ماغنيس، يرجع إلى نتائج الحرب العالمية الثانية. فقد أخذت الصهيونية مساراً عنيفاً، بعد التنكيل باليهود في وسط وشرق أوروبا. ولأن الأوروبيين مسؤولون عن جرائم ارتكبت بحق اليهود، تحوّل الساسة وأصحاب القرار في أوروبا والولايات المتحدة إلى عميان لجرائم اليهود بحق الفلسطينيين والعرب. كما أن اليهود، الذين كانوا نخبة مثقفة ومسالمة للعذابات، التي تعرضوا لها في أوروبا، أصبحوا عنيفين وقساة.
لكن يبقى أن اليهود هم نخبة في المجتمع الأمريكي، وأن كانوا داعمين لإسرائيل، فهذا لا يعني أنهم داعمون للوحشية الإسرائيلية. وكون أغلبيتهم تكره ترامب، لذلك لأنهم يحتقرون نتانياهو ودواعشه من أمثال بن غفير وسموتريتش.
جوليا نشيوات …. من هي زوجة مستشار ترامب للأمن القومي ؟