داخل نظام حكم اللصوص البيروقراطي في العراق
الفساد، مثله مثل العنف، أضحى سبباً لاستحالة العيش في العراق. فقد ساعد في تأجيج صعود تنظيم داعش، وأميركا تقدم على الأقل مبلغ عشرة مليارات دولار بالعملة الصعبة سنويا يتم استخدامها لتغذية الفساد
في مطلع شهر أكتوبر الماضي، وبينما كان يعمل في مكتبه ببغداد، تلقى رجل الأعمال حسين اللقيس مكالمة هاتفية من رقم مجهول. قال المتصل “نحن بحاجة للتحدث”. كان صوت الرجل أجشاً وكانت لهجته تهديدية. طلب من اللقيس اللقاء لكنه رفض أن يفصح عن اسمه.
تردد اللقيس وأبدى اعتراضه، وبعدها انتهت المكالمة. كاد أن ينسى هذا الحوار لكن بعد دقائق قليلة اتصل به أحد زملائه لينقل إليه أخباراً مزعجة؛ المتصل الغامض ينتمي إلى كتائب حزب الله، وهي ميليشيا عراقية ترتبط ارتباطا وثيقاً بالحرس الثوري الإيراني، وقد كان لدى المتصل عرضاً يود مناقشته.
وعندما اتصل رجل الميليشيا مرة أخرى، وافق اللقيس على مقابلته بعد تردد، وقد اصطحب مجموعة من رفاقه وتوجهوا إلى منزل في شارع سعدون وسط العاصمة بغداد، ووصلوا بحلول المغرب. تم اقتياد اللقيس إلى مكتب معتم داخل المنزل، وتم تقديمه لرجل صغير البنية أصلع الرأس.
دخل الرجل في الموضوع مباشرة قائلاً “ يجب أن تعمل معنا، ولا يوجد لديك خيار آخر. يمكنك أن تبقي على كادر الموظفين الخاص بك لكن يجب أن تفعل ما نقول”، موضحاً أن كتائب حزب الله ستحصل على ٢٠ بالمئة من إيرادات اللقيس الإجمالية أي ما يشكل ٥٠ بالمئة من أرباحه.
رفض اللقيس هذا الطلب. شركته -التي تدعى بالم جت- تمتلك عقداً حكومياً مدته خمس سنوات لإدارة صالة كبار الزوار في مطار بغداد الدولي، بالإضافة إلى أحد الفنادق القريبة من المطار. وتعمل الشركة أيضا بشكل منتظم مع بعض الشركات الغربية لتصنيع الطائرات مثل لوكهيد مارتن. لذا لم يكن من الوارد أن يعقد اللقيس أية صفقات مع مجموعة مثل كتائب حزب الله المصنفة من قبل الحكومة الأمريكية كمنظمة إرهابية أجنبية (كما هو الحال أيضاً مع جماعة حزب الله اللبنانية). قال الرجل الأصلع إنه سيقوم بمصادرة كل ما يملك اللقيس في بغداد في حال رفض هذا الطلب. نظر إليه اللقيس مندهشاً وقال: أنا مستثمر..ثمة قانون يحميني! فرد عليه الرجل الأصلع: نحن القانون. ثم طلب من اللقيس أن يعطيه رداً بحلول ظهر اليوم التالي.
وقفت خمس سيارات دفع رباعي من نوع شيفروليه ظهر اليوم التالي خارج صالة كبار الزوار، ثم ترجل منها إثنا عشر رجلاً يرتدون لباس ميليشيا أسود اللون، مدججين بالأسلحة. عثروا على اللقيس جالساً في مقهى فندق المطار وهو يدخن ويحتسي القهوة.كان اللقيس يجري مكالمات هاتفية منذ الليلة الماضية مع جميع معارفه في الحكومة ومع مدراء الأقسام في المطار. لم يعاود الاتصال به أي أحد، على نحو بدا وكأن الجميع قد تم تهديده أو ربما رشوته. أخذ رجال الميليشيا هاتف اللقيس وطلبوا منه أن يوقع وثيقة يتخلى فيها عن العقد المبرم. حاول أن يماطل لبرهة من الزمن، وفي الأثناء تسلل أحد موظفيه إلى الخارج ليلتقط صورة لسيارات رجال الميليشيا، لكنهم أمسكوا به وحطموا هاتفه وضربوه.
- Thanks for reading The Times.
كان اللقيس، وهو مواطن لبناني، قد بدء العمل في العراق منذ عام ٢٠١١، وكان يعلم بأن البلد مثقل بالجريمة والفساد لكنه كان يعتقد بأن المطار الذي يعج بمئات من مسؤولي الأمن والهجرة، له وضع مختلف.
أخبرني اللقيس لاحقاً أنه انتظر لعشرين دقيقة لعل أحداً من رجال الشرطة يأتي، لكن في النهاية مشى إلى صالة المغادرين ركب في رحلة متوجهة إلى دبي. وبعد عدة أيام، عينت كتائب حزب الله متعاقداً آخر بدلاً عن اللقيس الذي لم يعد إلى العراق منذ ذلك الحين.
حصلت هذه المداهمة في المطار بعد أربعة أيام من اندلاع الاحتجاجات المناهضة للحكومة العراقية حيث تدفق الآلاف من المتظاهرين الشباب إلى شوارع بغداد والمدن الأخرى هاتفين بشعارهم الشهير والمثير للمشاعر “نريد وطناً”. وسرعان ما سيطر المتظاهرون على ساحة التحرير في قلب بغداد ونصبوا الخيم وبدؤوا المواجهات مع الشرطة. وعلى الرغم من أن الفوضى تسببت بتعطيل العمل التجاري والحكومي، إلا أنها قد كسبت تعاطف العرب في المنطقة، وكانت بمثابة الفتيل الذي أشعل حركة الاحتجاجات في لبنان. بالنسبة لهذه الجموع المتظاهرة، الجماعات مثل كتائب حزب الله ليسوا فقط عملاء لإيران بالوكالة، بل هم أيضاً الوجه الجديد لحكم اللصوص البيروقراطي التي اكتسبت ثروتها على حساب شباب العراق الذين ازدادت أعدادهم فقراً وبطالة. وفي الوقت عينه بات بعض قادة الميليشيات من بين أغنى رجال العراق، مشهورين بشرائهم المطاعم والأندية الليلية الفاخرة والمزارع الوافرة على ضفاف نهر دجلة.
إن من دعم ومكن هذه الميليشيات هي الطبقة السياسية العراقية الجديدة التي لا تسعى إلا إلى الثراء. لقد قامت هذه العصابات المتعددة الطوائف لسنوات عديدة بممارسة الاحتيال على كافة المستويات ومن ضمنها السيطرة المستمرة على نقاط التفتيش، والاحتيال المصرفي، والتحايل على نظام الرواتب الحكومي. عندما تولى عادل عبد المهدي الحكم في عام ٢٠١٨، وسط ترحيب به كمصلح محتمل، حاول ضم الميليشيات للدولة، لكنهم فاقوه براعة وسيطروا عليه. وقد تضمنت حكومته أشخاصاً لهم ارتباطات بأحد أسوأ شبكات الكسب غير المشروع التي ابتلت البلاد بها.
إن الولايات المتحدة متورطة بعمق في كل هذا، ليس فقط بسبب غزوها المتتالي الذي حطم البلد واقتصاده، لكنها تقوم أيضاً بتقديم الأموال التي تساعد على بقاء الوضع على ما هو عليه، بينما يقوم المسؤولون الأمريكيون بغض النظر عما يقوم به حلفاؤهم العراقيون لخدمة مصالحهم الشخصية. فلا يزال البنك الفيدرالي في نيويورك يزود العراق بما لا يقل عن ١٠ مليارات دولار سنوياً من مبيعات النفط بالعملة الصعبة. وتمرر كثير من هذه الأموال إلى البنوك التجارية تحت ذريعة استخدامها لعمليات الاستيراد، ضمن مخطط تمت السيطرة عليه منذ وقت طويل من قبل عصابات غسيل الأموال. وفي الوقت نفسه تقوم الولايات المتحدة بتطبيق العقوبات على إيران وسوريا اللتين يتشارك معهما العراق بحدود سهلة الاختراق، وهو ما يشكل بيئة مثالية للفساد.
قد تكون إدارة الرئيس دونالد ترامب قد صدمت الميليشيات العراقية باغتيالها غير المتوقع لرئيس الاستخبارات الإيراني ذي النفوذ القوي قاسم سليماني أثناء تواجده في مطار بغداد في كانون الثاني من عام ٢٠٢٠. لكن حلفاء إيران مثل كتائب حزب الله لا يبدون قلقين، فهم يعلمون أن الرئيس ترامب لا يحبذ خوض حرب خصوصاً في ظل عجز الميزانية الحكومية المتزايد الذي تسببت به جائحة كورونا. لذا فإن أهم أولوياتهم هي الحفاظ على نظام عراقي يكون فيه كل شيء قابل للبيع.
لقد دفعت جائحة كورونا العراق إلى حافة أزمة وجودية إذ أدى انهيار الطلب العالمي على النفط إلى انخفاض سعره وبالتالي صعق هذا البلد الذي يعتمد اقتصاده الكلي تقريباً على عائدات النفط. إلا أن ذلك قد يقدم فرصة غير مسبوقة لرئيس الوزراء العراقي الجديد مصطفى الكاظمي ليواجه أكبر معضلة في البلد. يمكن أن يعتبر الفساد الآن مسألة حياة أو موت: ينبغي للعراق أن يختار بين إطعام شعبه أو إغناء لصوصه. ولقد وعد الكاظمي أن يواجه هذا التحدي، لكنه قد لا ينجح مالم تستغل الولايات المتحدة هذه الفرصة لإصلاح بعض الدمار الذي تسببت به في العراق ومشاركة المتظاهرين أهدافهم المتمثلة في إعادة بناء وطنهم على أسس جديدة.
طالما كان الفساد في سجل الدبلوماسية الأمريكية يحمل معنى مبهم: فهو مستهجن في العلن لكن يتم غض النظر عنه في الواقع، بل ويعد شراً لا بد منه. إذ للولايات المتحدة تاريخ طويل في دعم الكليبتوقراطيين (الحكام اللصوص) الذين طالما كانوا بجانب أي منافس سياسي استراتيجي. إلا أن ثمن هذه الصفقات الذي عادة ما يكون بالدم، قد أدى إلى إعادة تقييم الأوضاع. “ الفساد ليس معضلة سياسية أساسية فحسب، بل هو أكبر مسبب للمشاكل الأمنية التي يتوجب علينا مواجهتها” وفق ما أخبرتني به سارا تشايس في شهر أيار. يوثق كتاب تشايس الذي تم نشره عام ٢٠١٥ تحت عنوان “لصوص الدولة” التأثير المدمر للفساد في عدة دول في إفريقيا وآسيا.
لقد استندت في كتابها على تجربتها في أفغانستان حيث عاشت هناك لسنوات قبل أن تصبح مستشارة للبنتاغون ورأت كيف أن الابتزاز الكبير الذي تمارسه الحكومة المدعومة أمريكياً قد دفع الناس ليرتموا في أحضان طالبان.
ويمكن اعتبار العراق درساً ومثالاً واضحاً من هذه الناحية، حيث كان الفساد في حقبة الثمانينات نادراً، وكان معظم وزراء نظام صدام الشمولي نزيهين ومراقبين بشكل جيد. حدث التحول خلال التسعينات عندما فرضت الأمم المتحدة العقوبات عقب غزو صدام للكويت. فخلال فترة سبع سنوات انخفض دخل الفرد الوسطي إلى ٤٥٠ دولاراً بعد أن كان ٣٥٠٠ دولار. ومع انخفاض المرتبات المعيشية، لم يتمكن المسؤولون الحكوميون من العيش دون تلقي الرشاوي والتي أصبحت عملة تداول يومية. وقد تأزم الموقف بعد عام ٢٠٠٣ حيث بدأ الضباط الأمريكيون بتسليم رزم الدولارات من فئة ١٠٠ محاولين خلق صداقات وتحفيز الاقتصاد العراقي. وقد كانت نواياهم حسنة في تلك الفترة إلا أن تسرعهم كان كارثياً. فقد اصطفت مجموعة من الانتهازيين ومن ضمنهم العراقيون العائدون من الخارج من أجل الحصول على العقود الحكومية الكبيرة. عندها اختفت المليارات، وازدادت السرقات بعد ارتفاع أسعار النفط في عام ٢٠٠٨، وكان المسؤول عن ذلك هي الشبكة المسيطرة التي يدعمها نوري المالكي.
وبعد أن سيطر تنظيم داعش على شمال غرب العراق عام ٢٠١٤، هب أفراد الجيش البالغ عدد أفراده ٣٥٠ ألف عنصر للدفاع، وهو أكثر عدداً من الكتائب الجهادية. ولكن في الحقيقة كان الجيش مسلوب القوة بسبب اختلاق “الجنود الأشباح” غير الموجودين فعلياً، ما أتاح للقادة اختلاس مئات بل آلاف الرواتب. وقد دمرت هذه التصرفات المعنويات داخل الجيش واستشاط المدنيون في الموصل غضباً وعلى وجه الخصوص هؤلاء الذين أصبحوا أكثر تقبلاً لتنظيم داعش فقط لهذا السبب. ووجدت دراسة قامت بها مبادرة هارفرد الإنسانية أن أبناء الموصل يعتقدون بأن الفساد كان العامل الأساسي في ظهور تنظيم داعش.
إن عملية احتساب ما تم سرقته من العراق ليست بالأمر اليسير، فقد أٌبرمت الصفقات بشكل نقدي وأصبح من الصعب الحصول على الوثائق التي تثبتها، كما أن الإحصاءات الحكومية عادة ما تكون غير دقيقة. ومع ذلك فإن المعلومات المتاحة تشير إلى أنه تم نهب ثروات العراق بشكل غير قانوني لخارج البلاد أكثر من أي دولة أخرى. هذا ما بينه أحد رجال الدولة الكبار وهو صاحب خبرة طويلة بالأمور المالية أنه قد جمع تقييمات سرية لصالح المجلس الأطلسي، وهي مؤسسة بحثية أمريكية، بناء على أحاديثه مع مصرفيين ومحققين ومصادر في عدد من الدول الأجنبية. فقد استنتج بأن مبالغ تتراوح من ١٢٥ الى ١٥٠ مليار دولار أمريكي تتواجد حالياً بين أيدي عراقيين في الخارج، وأن هؤلاء حصلوا على معظم هذه الأموال بطرق غير قانونية. وتشير بعض التقديرات إلى وصول هذا المبلغ إلى ٣٠٠ مليار دولار. وقد أشار إلى استثمار ما يقارب ١٠ مليار دولار من الأموال المسروقة في عقارات في لندن. كما يتعدى التقدير الكامل لهذه الأموال، هذا الجانب المالي ليشمل الضرر الحاصل للإرث الثقافي والمجتمعي العراقي، وهو موضوع غالباً ما حدثني عنه العراقيون كبار السن بنبرة حزن عميقة عندما كنت أعيش هناك.
بالنسبة لغير العراقيين، قد تبدو الحياة السياسية العراقية مثل حرب العصابات، لكنها في معظم الأوقات تتم تحت غطاء هذا الصراع سرقات بمنتهى الهدوء. ففي كل وزارة حكومية يكمن الفساد في اتفاقيات غير مكتوبة مع أحد الفصائل. الصدريون يملكون وزارة الصحة ومنظمة بدر طالما سيطرت على الداخلية بينما يسيطر تيار الحكمة على النفط. وعادة ما يواجه بعض القادمين الجدد صعوبة في التأقلم مع هذه الأوضاع. إذ أن أحد الوزراء التكنوقراط السابقين ممن أمضوا عقود في الخارج قد اكتشف حين تسلم منصبه أن الوزارة تتعاقد لشراء لقاحات بقيمة ٩٢ مليون دولار، لكنه وجد طريقة أخرى لشراء ذات اللقاح بقيمة ١٥ مليون دولار. وقد أخبرني قائلاً “عندما قمت بذلك، تم شن حملة ضدي.” لقد كان يحاول أن يسد الفجوة بين ثروة العراق النفطية والنظام الصحي المتهالك، بينما كان معارضوه مهتمين بمصالحهم الحزبية فقط. ووجد الوزير في النهاية أن هاتين الفلسفتين لا يمكنهما التماشي معاً، لذا قام بالاستقالة من منصبه. (مثل معظم الذين تحدثت إليهم في هذا المقال فقد أخبرني بأنه يدلي بهذه المعلومات شريطة ألا أذكر اسمه. يعتبر الفساد في العراق هو السمة الجديدة الثالثة للسياسة العراقية. التحدث عنه في العراق يعرضك أنت أو أفراد عائلتك للقتل)
إن الزعماء السياسيين الذين يسيطرون على هذه العملية معروفون. فبعضهم حلفاء لأمريكا مثل عائلتي البرزاني والطالباني الذين سيطروا على عقود هذه المنطقة ومصرفها المركزي حتى أصبحوا فاحشي الثراء. وهناك المالكي وحلفائه الذين لايزالون يسيطرون على المشهد السياسي، ومقتدى الصدر رجل الدين الشيعي المتقلب المزاج، الذي يعد أيضاً عراباً آخراً يشتهر أتباعه بطلب الرشاوى. كان ينبغي معالجة النظام عام ٢٠١٤ عندما كادت داعش أن تسيطر على البلد. ولكن بدلاً من هذا كانت النتيجة ظهور نوع جديد من الطفيليات: الميليشيات التي ساعدت في هزيمة داعش والتي تعرف بشكل عام بالحشد الشعبي، وهي اتحاد فضفاض للجماعات المسلحة التي كان بعض منها قائما منذ عقود. ففي عام ٢٠١٦ قام رئيس الوزراء حيدر العبادي بالاعتراف بهم كجزء من القوات الأمنية وهم الآن يتسلمون رواتب منتظمة كباقي أجهزة الجيش والأمن.أحد اقوى هذه الفصائل هي كتائب حزب الله المتهمة بشن هجوم على قاعدة جوية عراقية في كانون الأول والتي قتلت متعاقداً أمريكياً وأدت بعد أسبوع إلى اغتيال سليماني الذي يعد الراعي الأكبر لها. وبالرغم من أنها ذائعة الصيت إلا أنها محاطة بالغموض. إذ يقول مايكل نايتس المحلل في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى والذي تعقب هذه الجماعة منذ تأسيسها: نكاد لا نعرف شيئا عن قيادتها. إنها أشبه بالماسونية. إذ يمكن لأحدهم إن ينتمي لها وأن يكون في حركة أخرى في نفس الوقت.
لقد بنت لنفسها إمبراطورية اقتصادية من خلال اقتحامها في أعمال تجارية مشروعة وعقود حكومية.
من أقل الأمور المعروفة والخطيرة التي قامت بها هذه الميليشيا هي سيطرتها التدريجية على مطار بغداد. بدأ ذلك قبل سنوات عندما قامت كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق المدعومة أيضاً من إيران بتعيين موظفين مواليين لهم في المطار، وفقا لما أفاد به مسؤول رفيع هناك. وتمكنوا أيضاً من تعيين الموظفين في شركة G4S وهي شركة بريطانية لطالما تم التعاقد معها لإدارة أمن المطار (لم تقم الشركة بالتعليق على هذا الموضوع). ونتيجة لذلك لدى هاتين الميليشيتين إمكانية الوصول إلى كاميرات المراقبة في المطار فضلاً عن الوصول إلى طريق يدعى بالكيلومتر واحد والذي يربط المدارج بمحيط المطار متجاوزين بذلك الحواجز الأمنية، حسبما أخبرني ذلك المسؤول. (تم قصف قاسم سليماني وموكبه من قبل طائرة بدون طيار أمريكية في كانون الثاني الماضي عندما كانوا على هذا الطريق). وقد باتت نشاطات هذه المليشيات أكثر عدائية منذ سنة حسبما ذكر المسؤول، فقد قام منتسبوها بتهديد مدير سلطة الطيران المدني وأجبروه على تعيين نائب له من الموالين لهم. وفي أواخر شهر تشرين الأول حصلت إحدى الشركات التابعة لكتائب حزب الله على عقد لمدة ١٢ سنة في مطاري بغداد والبصرة بقيمة ملايين الدولارات بالسنة الواحدة على الرغم من أن تلك الشركة المسماة بالخليج لم تتواجد لأكثر من شهرين في ذلك الوقت، ولم تملك التراخيص اللازمة، كما أن مؤسسها كان قد منع من العمل بالمطار. لقد أوقف العقد منذ ذلك الحين لكن الشركة التي استولت على صالة كبار الزوار والفندق من حسين اللقيس مازالت في مكانها.
إن مطار بغداد ما هو إلا أحد المنافذ الاقتصادية التي تسيطر عليها الميليشيات الآن، كما استخدموا ذريعة داعش ليكون لهم مقرات على معظم حدود البلاد، فقد قاموا باستغلال تهديد داعش لتثبيت أنفسهم في معظم الحدود البرية. وسيطرت الميليشيات على التجارة من خلال الموانئ البحرية في الجنوب لأكثر من عقد من الزمن، وفي الواقع فإن الميليشيات تقوم بدور دولة رديفة في الظل حيث تفرض على المستوردين أجوراً أعلى من أجل تسريع عمليات إيصال البضائع. ولديهم لجان اقتصادية ومكاتب في بغداد يمكن للشركات الخاصة أن تعقد معهم الصفقات التي تتجاوز القنوات القانونية للبلد. فعلى سبيل المثال، أخبرني مسؤول في المطار أنه إذا قام باستيراد ١٠٠ سيارة من دبي فسيستغرق التخليص الجمركي القانوني شهرين، لكن إذا ما دفع لكتائب حزب الله ١٠ إلى ١٥ ألف دولار فإن هذه العملية ستستغرق يومين فقط.
إن المصدر الرئيسي للعملة النقدية التي ساهمت في انزلاق العراق نحو حكم اللصوص البيروقراطي هو البنك الاحتياطي الفيدرالي الواقع في شرق راذيرفورد بولاية نيوجيرسي حيث يتم حراسته بشدة. ففي كل شهر تقريبا تأتي شاحنة معبأة بأكثر من ١٠ طن من العملة الامريكية تبلغ قيمتها ١من إلى ٢ مليار دولار أمريكي. ويتم نقل الأموال لاحقاً إلى قاعدة جوية ومن ثم إلى بغداد. تعود هذه المبالغ إلى الحكومة العراقية كريع لبيع النفط عبر حساب مصرفي لدى بنك نيويورك الفيدرالي. إن هذا الاتفاق غير الاعتيادي ما هو إلا أحد تبعات الاحتلال الأمريكي عندما سيطرت مباشرة على الحكومة العراقية ومصادر تمويلها. وقد بقي هذا الوضع كما هو عليه لأنه مناسب للطرفين، إذ يحصل العراقيون على الدولار بشكل امتيازي بينما تبقى الولايات المتحدة مهيمنة على اقتصاد العراق. إن شحنات الدولار التي ترسل على نحو دوري (وهي تشكل جزءاً صغيراً من العائدات النفطية الإجمالية للبلد) تلبي احتياجات مكاتب تحويل العملات العراقية والمستوردين الذين يحتاجون الى العملة الصعبة. ولكن من الناحية العملية فقد ذهبت الكثير من هذه المبالغ الى أيادي العاملين بغسيل الأموال والجماعات الإرهابية والحرس الثوري الإيراني، ويعود ذلك إلى إجراء خاص لدى البنك المركزي لا يعرفه إلا قلة وهو ما يسمى بمزاد الدولار.
يعرف مزاد الدولار “بنظام الصرف الصحي للفساد العراقي”، لكن قلما كُتب عن آليات عمله الداخلية. إن مخططات التزوير التي تحوم حوله طالما أوقدت الحرب الأهلية في سوريا بما فيها الحرب مع داعش. لقد بذلت وزارة الخزانة الأمريكية ما في وسعها لإبعاد مزاد الدولار عن أيدي داعش وإيران لكنها غالباً ما تغاضت عن الأنواع الأخرى من غسيل الأموال. وطالما وجد الإرهابيون شركات وطرق جديدة ليخفوا ورائها مشاركتهم في المزاد يحدث ذلك غالباً بتواطؤ من مسؤولي البنك المركزي.
بل حتى إطلاق اسم مزاد عليه يعتبر مضللاً، فهي عملية يومية يقدم فيها البنك المركزي الدولارات لعدد محدود من المصارف التجارية مقابل الدينار العراقي. وقد قامت سلطات الاحتلال الأمريكية بتأسيسه عام ٢٠٠٣ ليخدم غرضين: جمع ما يكفي من الدينار العراقي لدفع الرواتب نقداً للعدد الهائل من الموظفين الحكوميين ومساعدة البلد في دفع مستحقات الاستيراد بالدولار. فهو من الناحية الأساسية مشابه للعملية التي تقوم بها بعض الدول لتسهيل التجارة الأجنبية. الهدف الأساسي من هذه العملية هو التالي: تنوي شركة ما استيراد الأحذية من الهند فتذهب إلى مصرف عراقي محلي حاملة فاتورة الشركة الهندية، فيقوم البنك بالمصادقة على العملية المصرفية وإيداع المبلغ المطلوب بالدينار العراقي لدى البنك المركزي والذي يقوم بدوره بتحويل المبلغ بالدولار إلى حساب بنكي تملكه الجهة المصدرة.
لقد بدأت المشكلة بتراكم مبالغ كبيرة من الأموال غير القذرة: كان العراقيون الذين سرقوا مبالغ ضخمة من خلال العقود المزيفة أو الرشاوى متعطشين لاستبدال الدينار بالدولار ليتمكنوا من استخدامها في الخارج. ولتلبية هذه الحاجة ظهرت طبقة جديدة من الانتهازيين وقامت بتسجيل شركات وهمية وإعداد الفواتير المزيفة اللازمة لإبرام صفقة الاستيراد التي ستمول لاحقاً من خلال مزاد الدولار. خلال أيام فقط يمكن لشخص احتال على بلده بالملايين أن يصبح مالكا لأحد البيوت الفخمة في لندن. أما المواد المستوردة الوهمية فلن تترك آثاراً كبيرة لأنها كانت قد وثقت ببطاقات تعريفية وصور لأشخاص حقيقيين وافقوا أن يؤدوا دور مسؤولي الشركات مقابل حصولهم على الرشوة.
وفي كل مرة تشك فيها سلطات البنك المركزي العراقي أو البنك الفيدرالي في نيويورك، يقوم المزورون بتحديث لعبتهم من جديد.
حسب مصدر مصرفي ومسؤول عراقي سابق، ثمة مكاتب صغيرة يديرها شبان تقوم بتزوير الوثائق على نحو احترافي، فمثلاً لكي يتجنبوا دفع ضرائب البضائع المستوردة بشكل غير شرعي، يقوم غاسلو الأموال بتسجيل عشرات الشركات ومن ثم يهملونها ويختلقون شركات جديدة كلما استحق دفع الضرائب. وقد أشركوا سلطات الحدود في هذه العملية حيث يدفعون الأموال للمسؤولين ليحصلوا على شهادات استيراد مزورة ذات أختام حقيقية. وبذلك سيطر غاسلو الأموال على مبيعات البنك المركزي اليومية للدولار والتي بلغت حسب إحصائيات البنك أكثر من ٥٠٠ مليار دولار منذ عام ٢٠٠٣. (يعد الرقم أعلى بكثير من المبالغ التي يتم نقلها من البنك الاحتياطي الفيدرالي إلى العراق لأن معظم الدولارات التي يبيعها البنك المركزي ترسل عبر حوالات إلكترونية من عوائد العراق النفطية.)
في بعض الأحيان يكون التزوير مكشوفاً على نحو مثير للضحك. ففي عام ٢٠١٧ استورد العراق رسمياً كميات من الطماطم بقيمة ١٫٦٦ مليار دولار من إيران، وهو أكثر بألف مرة من المبلغ الذي استورد به في عام ٢٠١٦. كما استورد بطيخ بقيمة ٢٫٨٦ مليار دولار من إيران بينما كان رقم السنة الماضية ١٦ مليون دولار. إن هذه الارقام ستكون مثيرة للسخرية حتى لو لم يتمكن العراق من زراعة ما يكفيه من الطماطم والبطيخ. لقد أخبرني بعض رجال الاقتصاد بأن أرقام الاستيراد الرسمية التي لا تزال تظهر على موقع وزارة التخطيط ما هي إلا غطاء رديء لغسيل الأموال عبر مزاد الدولار.
لقد ساعد هذا المزاد على تدفق مليارات الدولارات إلى جيوب سماسرة العراق ذوي النفوذ، ويستند هذا الغش على الفرق الموجود بين سعر الصرف الثابت الذي يوفره البنك المركزي المرتبط بالدولار ومعدل السوق المتذبذب الذي عادة ما يكون أعلى بكثير. وحالما بدأ المزاد في العام ٢٠٠٣، أدرك غاسلو الأموال بأنهم إذا ما حصلوا على صفقات استيراد يمكنهم عندها إعادة بيع الدولار الذي حصلوا عليه من البنك المركزي ليكسبوا ربحا فورياً. وحالما أدرك الزعماء السياسيين العراقيين مقدار المال الذي يجنى من هذه العملية، سرعان ما بسطوا سيطرتهم على عملية المزاد.
أما الشركات والمصارف الاعتيادية التي تريد القيام بأعمال الاستيراد أو الاقتراض المشروعة فقد وجدت نفسها محاصرة من قبل أولئك المدعومين من قبل الأحزاب السياسية والميليشيات. ومن أجل التغطية على هذه السيطرة قام هؤلاء حديثو الثراء بشراء معظم البنوك المتبقية وحولوها إلى مجرد وسائل خاصة بهم لأغراض المزاد.
ومن الاستحالة بمكان معرفة كمية المليارات المسروقة من خلال عملية بيع وشراء العملة، إلا أن الكثير من المصرفيين السابقين والمسؤولين العراقيين أخبروني بأن مثل هذا النوع من الحسابات المزورة المستخدمة للاستيراد يتم تمويلها عن طريق مزاد الدولار منذ عام ٢٠٠٨. وفقاً لتخميني الشخصي (المبني على أرقام من موقع البنك المركزي ومعلومات من مصرفيين عراقيين) سُرق ما مقداره ٢٠ مليار دولار، كلها من أموال الشعب العراقي. فرجال الأعمال الذي يديرون هذه العملية يقومون بطباعة العملة الخاصة بهم لأن تكلفة ما يقومون به تعد منخفضة، وتكمن في دفع الأموال مقابل الحصول على فواتير مزورة وتقديم رشى للبنوك والمسؤولين الحكوميين. إن بعض البنوك التي تحصل على فوائد عالية من المزاد ما هي إلا واجهات لمكاتب صغيرة تكاد تخلو من الموظفين.
أخبرني برلماني كان يحقق في قضية فساد بأن أحد البنوك اشترى أربع مليارات دولار في المزاد وهو ما يحقق له ٢٠٠ مليون دولار من الأرباح. وتبين بعد التحقق من هذا البنك أنه لم يكن يحتوي سوى على غرفة واحدة وحاسوب واحد وبعض الحراس.
إن الضرر الناجم عن الغش في المزاد لا يقتصر فقط على الفوائد غير المشروعة. إذ وجدت الشركات الاعتيادية نفسها غير قادرة على الحصول على القروض التي تحتاجها. كما لم يتمكن بعض المستوردين بشكل قانوني من الحصول على الدولار من المزاد فاضطروا للجوء إلى المصارف الأجنبية. ويصعب معرفة الضرر الذي ألحقته هذه العملية بالاقتصاد، لكن معظم المحللين الذين تحدثت معهم قالوا إنه مدمر للقطاع الخاص، ما يجعل العراق أكثر اعتمادا على عوائد النفط التي انخفضت إلى النصف في الأشهر الأخيرة.
حاول قائد عراقي واحد فضح الجرائم المحيطة بعملية مزاد الدولار بجدية، ففقد شعبيته. فقد قام أحمد الجلبي المصرفي والسياسي الذي ساعد إدارة بوش على تبرير غزو العراق بتحقيق برلماني حول مزاد الدولار عام ٢٠١٤. وكشف وثائق تبين تورط أكبر مصارف البلد وأصحابها في عمليات تزوير واسعة. وقبل أن يقوم بكشف المزيد حول هذه الفضيحة في تشرين الثاني ٢٠١٥، توفي الجلبي جراء أزمة قلبية. (وعلى الرغم من التوقيت المشكوك فيه إلا أن تشريح الجثة لم يكشف عن وجود دليل لسبب آخر للوفاة). أما المصرفيين الذين كشفهم الجلبي في تحقيقاته فلم يواجهوا أية عواقب ومازالوا يمارسون أعمالهم.
ولا يزال المزاد قائماً حتى اليوم إلى جانب غسيل الأموال والسرقة المرتبطة به. ففي أواسط شهر آذار سجل موقع البنك المركزي مبيعات الدولار التي تجاوزت ٢٠٠ مليون دولار- أكثر من مليار دولار خلال أسبوع واحد- كان يفترض أن تذهب كمدفوعات للاستيراد. وفي الوقت الذي أُغلق فيه الاقتصاد العراقي بسبب جائحة كورونا كان من المفترض أن تكون بعض هذه المواد المستوردة شرعية، لكن بعض المصرفيين أخبروني بأن هذه الأرقام تشير إلى عمليات غسيل أموال واسعة النطاق. أحد الدلالات الأخرى الفاضحة للفساد تتمثل في مبيعات الدولار اليومية إلى مكاتب صرف العملات والتي يفترض أن تستخدم فقط من قبل العراقيين المسافرين إلى الخارج. وقد بلغ المعدل الوسطي لهذه الأرقام في منتصف شهر تموز الماضي ما يقارب ١٠ ملايين إلى ١١ مليون دولار يومياً، على الرغم من أن مطار بغداد مغلق منذ شهر آذار حتى ٢٣ تموز، ومازالت قيود السفر قائمة حتى الآن.
وثمة دليل آخر على أن المزاد لايزال يزود الجماعات الارهابية بالأموال. ففي تشرين الأول بعث البنك الاحتياطي الفيدرالي كتاباً إلى البنك المركزي العراقي يطلب فيه منع مصرفين إلى جانب مكتب للصرافة من استخدام مزاد الدولار، مبرراً ذلك باعتقاده بأن ثمة ثلاث كيانات مرتبطة بداعش أو تقوم بتعاملات مادية مع داعش. يملك هذه المؤسسات الثلاثة رجل أعمال يدعى حسن ناصر جعفر اللامي، المعروف في الدوائر المالية بملك الفواتير المزورة. وفي شهر كانون الثاني صرح موظف في البنك المركزي العراقي لمحطة تلفزيونية لبنانية أن اللامي لا يزال يستخدم مزاد العملة من خلال بنوك أخرى تختلف عن تلك التي أشار إليها البنك الفيدرالي.
وفي بعض الحالات يبدو أن البنك المركزي يحاول بشكل مقصود عرقلة الجهود التي يبذلها البنك الفيدرالي أو وزارة الخزانة الأمريكية. ففي عام ٢٠١٨ أصدرت وزارة الخزانة عقوبات ضد آراس حبيب كريم وهو سياسي متهم بتمويل الحرس الثوري وحركة حزب الله في لبنان. وفرضت عقوبات على البنك الذي كان يديره والذي يحمل اسم مصرف البلاد الإسلامي. وبدلاً من تجميد أموال كريم، وجه البنك المركزي بأن ما قيمته ٤٠ مليون دولار من أسهم مصرف البلاد المملوكة لكريم وعائلته ينبغي أن تعود لهم وفقاً لوثيقة من البنك المركزي كنت قد حصلت عليها. وعندما سألت مسؤولي الخزانة حول قرار البنك المركزي أجابوا بعبارة جاهزة: إن الخزانة مستمرة في العمل عن كثب مع الحكومة العراقية لتطبيق العقوبات.
يعد العراق حكاية تحذيرية لباقي العالم. حكاية تلخص كيف يمكن أن يتحول أبسط أنواع الفساد بسرعة إلى آفة وكيف يصعب إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه. لن يستغرق الأمر طويلاً حتى يغطي غبار الزمن هؤلاء المشتركين في شبكات الفساد، كما حدث في أفغانستان والصومال وفنزويلا. يقول ريتشارد ميسك الذي أمضى عقوداً يدرس هذا الموضوع: إنه يصبح نظام مستدام ذاتياً. لا يمكن التدخل في قطاع واحد فقط لأن جميع القطاعات مرتبطة ببعضها البعض، لذا ينبغي تغيير عدة مؤسسات في وقت واحد. يكتب ريتشارد ميسك كمساهم رفيع المستوى ويكتب في مدونة شهيرة ترصد الجهود العالمية لمكافحة الفساد.
ويصعب عمل ذلك بدون وجود قوة خارجية. فقد كانت الحكومة الأمريكية أساسية في اجتثاث الفساد في شيكاغو الذي وصل ذروته في العشرينيات من القرن الماضي عندما سيطر رجل العصابات آل كابون على عمدة المدينة بالمال. لا يوجد هناك أمثلة عديدة على إصلاح دول بأكملها في العصر الحديث عدا عن الدول الأوتوقراطية الصغيرة مثل سنغافورة عندما أطيح برئيس الوزراء السنغافوري الأسبق لي كوان يو في ستينيات القرن الماضي.
إن أحد أكبر معضلات الإصلاح في العراق تكمن في اعتماده على السيولة النقدية التي يصعب تعقبها وتكون أكثر عرضة لغسيل الأموال. لذا فإن تحويل العراقيين إلى نظام المصارف حيث تكون ثمة سجلات تبين عمليات الدفع التي يمكن التحقق منها أصبح هدفاً يطالب به أنصار مكافحة الفساد لسنين. إلا أن عملية الانتقال من النقد محفوفة بالمخاطر، إذ أن التقنيات الحديثة تكون عرضة للسيطرة عليها من قبل أفراد قلة بإمكانهم استغلال هذه العملية كأداة لغسيل الأموال.
أحد أجرأ عمليات الاختلاس في العراق تعطينا فكرة شبه كاملة عن الخطر الناجم عن هكذا عمليات. هذه العملية تستخدم جهاز يدعى بطاقة كي كارد، وكان الهدف منه نقل البلد في اتجاه الدفع الإلكتروني. تم تطوير هذا الجهاز من قبل شركة تدعى البطاقة الذكية الدولية. وهو يسمح للموظفين والمتقاعدين باستلام رواتبهم الشهرية نقداً من آلاف المراكز المنتشرة في عموم البلاد. وقبل ظهور هذه البطاقة في العام ٢٠٠٧ كان على الموظفين الانتظار لساعات خارج المصارف الحكومية ليستلموا أموالهم. و تتنافس الشركة الآن مع شركات أصغر وتنشر إعلانات ضخمة تحمل شعار: انضموا إلى أكبر عائلة. فهي تقدم نفسها على أنها شركة تقنية محلية تساعد بنقل العراق إلى عصر المعلومات مع صور تنشر على موقعها الرسمي تظهر عملية التسجيل البايومترية والزبائن السعداء الذين يقومون بعمليات الدفع غير النقدي. إلا أن ارتباط الشركة بالرواتب الحكومية قد منحها سلطة كبيرة. ففي عام ٢٠١٩ ووفقاً لتقرير نشره البنك المركزي دفعت الحكومة ما يقارب ٤٧٫٥ مليار دينار للموظفين والمتقاعدين، وهو مبلغ ضخم بالنسبة إلى حجم العراق، ومعظم هذه الأموال قد صُرفت عبر هذه البطاقة.
يسمح كل ذلك للشركة بالعمل تقريباً دون رقابة وفقا لما أفاد به مسؤولون تحدثت إليهم ووثائق حصلت عليها من وزارة المالية العراقية والبنك المركزي. فلقد تجاوزت الشركة أحد الشروط القانونية التي تنص على إدراج نظام الدفع الخاص بها ضمن شبكة الدفع الوطنية عبر البطاقات، ما يخول البنك المركزي مراقبة عمليات هذه الشركة. تصف الوثائق التي اطلعت عليها محاولات يائسة لجعل هذه الشركة مسؤولة عن عملياتها المصرفية فضلاً عن شكاوى المتقاعدين الذين بينوا أن نظام هذه البطاقة يقوم باقتطاع مبالغ من رواتبهم. قال الرئيس التنفيذي لشركة كي كارد الذي تواصلت معه عبر البريد الإلكتروني إن الشركة تلتزم بالتعليمات وإن تعاملاتها المصرفية تراقب من قبل البنك المركزي وتدقق من قبل مؤسسات مستقلة بشكل دوري.
وفي ظل هذا التعتيم، تستخدم هذه البطاقة من قبل ميليشيات مدعومة من إيران والتي تدير ما يعرف بالموظفين الوهميين لسرقة مئات الملايين من الدولارات من الدولة حسبما أخبرني بعض المسؤولون الحكوميون ومن ضمنهم شخص مقرب من الدائرة المالية للحشد الشعبي. فقد أخبرني هذا المسؤول بأن الحشد قام بتسجيل ٧٠٠٠٠ جندي ضمن عملية الدفع الإلكتروني من خلال بطاقة الكي كارد (لم يكن واضحاً إن كان هذا الإجراء قد تم بعلم مدراء شركة كيو آي). طالما كان الجنود الوهميين مصدراً لإثراء كبار الضباط في الجيش والشرطة العراقية لسنين. ولكن يبدو أن طريقة الدفع ببطاقة الكيو آي قد نقلت الاحتيال إلى مستوى أعلى. إن متوسط راتب عنصر من الحشد الشعبي يبلغ ألف دولار شهريا تقريباً ويعني ذلك أن عائدات هذه الخديعة تبلغ ٨٠٠ مليون دولار سنوياً. لقد أديرت هذه العملية بسرية تامة من قبل شخصيات نافذة مرتبطة بإيران ارتباطاً وثيقاً ومن ضمنهم أبو مهدي المهندس الذي اغتيل مع قاسم سليماني في كانون الثاني.
تحصل كي كارد على أرباح هائلة من الأجور التي تفرضها على التعاملات الإلكترونية، وبعض هذه الأرباح حسبما أبلغني مسؤول رفيع آخر يتم مشاركتها مع شخصيات أخرى مدعومة إيرانياً.
وحسبما أخبرني به المسؤول رفيع المستوى، قام مؤسس شركة كيو آي وهو رجل أعمال يدعى بهاء عبد الهادي بتحصين نفسه من الرقابة والانتقاد لسنوات طويلة عن طريق علاقاته التجارية مع أكثر الأشخاص نفوذاً ومن بينهم قادة الميليشيات المرتبطة بإيران. أحدهم هو عمار الحكيم رجل الدين الثري والسياسي البارز. وشخص آخر هو شبل الزيدي أمين عام ميليشيا تدعى كتائب الإمام علي، وقد أصدرت وزارة الخزانة بحقه عقوبات في العام ٢٠١٨ بسبب تعاملاته المالية مع الحرس الثوري وحزب الله. فضلا عن ناصر الشمري وهو قائد لميليشيا حزب الله النجباء. أخبرتني المتحدثة باسم كيو آي أن عبد الهادي ليس له علاقة بالحكيم أو الزيدي أو الشمري.
وفي الوقت نفسه يبدو أن كي كارد حاولت التقرب من المسؤولين الأمريكيين ونجحت في ذلك بعض الشيء، ففي بداية العام ٢٠١٨ اقترح أحد المسؤولين المعينين من قبل ترامب ويدعى ماكس بريموراك، على الأمم المتحدة أن تستخدم شركة كي كارد في التعاملات المصرفية وفقاً لتقرير نشر في أيار من قبل موقع بروببليكا. لقد كان بريموراك يقوم بأعمال استشارية في ذلك الوقت مع مؤسسة ماركيز العراقية الأمريكية. لم تقم الأمم المتحدة بالعمل مع كي كارد لكن موقف بريموراك قد تسبب بتحريك شكوى تتعلق بأخلاقيات العمل من قبل وزارة الخارجية الأمريكية. (وعندما تم سؤاله عن هذه الشكوى رد بريموراك بإرسال مذكرة، أشار فيها الى أن تحقيقاً لم يفتح في هذا الموضوع) ثم أصبح بعد ذلك مساعداً لنائب الرئيس الأمريكي مايك بنس.
يذكرنا تغلغل كي كارد في النفوذ الأمريكي بأن الفساد لا يقتصر فقط على الرشاوى أو التهرب الضريبي. إن أزمة عام ٢٠٠٨ المالية العالمية التي كشفت العلاقات بين السياسيين ومضاربي الأسهم قد ساعدت في إيقاد الحركات الشعبوية التي لا تزال نشطة في أوروبا، وانتخاب دونالد ترامب جعل الفساد صفة لحياتنا السياسية حتى وهو يتهم خصومه بهذه الكلمة.
في ظهيرة أحد أيام شهر شباط، ذهبت بالسيارة الى موقع عمراني في شرق بغداد يدعى بصدر القناة. وهو مضيق فارغ من الأرض يمتد لمسافة ٢٤ كيلومتراً بين جانبي طريقين سريعين رئيسيين في الطرف الغربي من مدينة الصدر ويحتوي على قناة في الوسط. لقد تحدثت سلطات مدينة بغداد لسنوات عن مشروع طموح يحول هذا المكان إلى منطقة ترفيهية تشمل ملاعب رياضية وحدائق ومطاعم. فضلاً عن بناء جسور فوق القناة حيث يمكن للزوار أن يركبوا القوارب من تلك المنطقة. وفي عام ٢٠١١ وقعت الحكومة المحلية عقداً مع ثلاث شركات إنشاءات بقيمة ١٤٨ مليون دولار. أما اليوم فهذا المكان عبارة عن مكب للنفايات لا يبدو أن أي مبلغ من المال قد أٌنفق عليه. فبعد ما عبرت الطريق السريع ووطأت العشب وجدت قدمي غارقتين بالنفايات البلاستيكية. مشيت بعدها لمدة عشرين دقيقة ولم أر سوى علامات معدودة تدل على البناء: ملعب رخيص للأطفال وأكوام من التراب و مستودعين من الإسمنت المسلح لم يكتمل بنائهما. أما ماء القناة فقد بدا راكداً.
يبدو أن لا أحد يعلم ما هو مصير الأموال التي أنفقت على صدر القناة لكن تقرير هيئة النزاهة كان يشير إلى ملاحظات مألوفة: تأخير وخلافات ورئيس بلدية سابق كان قد فر من البلاد مع نائبه متسبباً بأضرار متعمدة بلغت ١٢ مليون دولار. ذهبت معظمها إلى جيبه الخاص. وثمة مشاريع مشابهة في عموم العراق: رافعات صدئة متروكة بجانب جوامع نصف مشيدة ومشاريع إسكان. والكثير منها لا يزال قيد النزاعات القانونية والسياسية. مليارات الدولارات قد أنفقت على الكهرباء لكن العراق لا يزال يعاني من انقطاع في الطاقة الكهربائية تصل مدته إلى عشرين ساعة يومياً.
يطلق والعراقيون رجال الأعمال المشبوهين الذين أصبحوا أغنياء على حساب البلد اسم الحيتان، فهم دائماً فوق القانون. وقد تم تحذيري وأنا أعد هذا المقال بأن حياتي ستكون في خطر إذا ما واجهت اي منهم حول هذه النشاطات غير المشروعة، لكني نجحت أخيراً في التحدث مع أحد “الحيتان”. هو أحد اقطاب البناء وأخبرني أنه أمضى سنوات وهو يقدم الرشوة للسياسيين لتأمين عقود تبلغ قيمتها ملايين الدولارات. وصف الرجل عالماً مليئاً بصفقات الغرف المظلمة التي يكون التنافس المميت فيها أمراً مألوفاً، فضلاً عن التحالفات السياسية المتغيرة بسهولة حيث تكون العملة المستخدمة فيها دائما الدولار النقدي الذي يدفع مقدماً. وكان واضحاً بأنه قد قبل بالابتزاز المالي كجزء من واقعه اليومي. ولم يشعر بأي ذنب حيال هذا الشيء. لديه مكاتب ومنازل في عدة دول وتحدث بالعامية العراقية كرجل لم يحصل على قدر كبير من التعليم الرسمي.
لقد تعرفت على ذلك الشخص عن طريق أحد المسؤولين الحكوميين كان قد التقاه عن طريق صديق آخر. كان من المحال ان أتحقق من صحة تفاصيل القصص التي رواها لكنها كانت تتطابق مع كل ما سمعته من المسؤولين والمصرفيين حول الطريقة التي يصنع بها الفساد عالي المستوى. تحدثنا عبر الهاتف لمدة ساعتين تقريبا، وأخبرني عن إحدى الصفقات التي أدارها وكانت عبارة عن مشروع بناء كبير خصصت له الحكومة مبلغ ٤٠ مليار دينار، أي ما يعادل ٣٣ مليون دولار تقريباً.
قال لي أنه في الحقيقة أنفقت حوالي ١٠ مليار دينار فقط على البناء. ذهب الباقي كرشى للمسؤولين والاحزاب أما المبلغ الباقي البالغ خمسة مليار دينار فقد كان صافي الربح.
لقد أخبرني بأن انتخاب المحافظين في السنوات الست أو السبع الماضية الذين يكون لهم تأثير كبير على العقود قد تم عبر صفقات مع رجال الأعمال الذين يدفعون الأموال لأعضاء مجالس المحافظات الذين ينتخبون المحافظ مقابل حصة في عقود المحافظة. وقال إن أي شخص يمتلك المال يمكن أن يتلاعب بهذه الأمور. إذ يتم تنسيق الصفقات مع نواب المحافظين الذين يكون ولاؤهم لأحزاب مختلفة ويقتسمون عوائد العقود المتضخمة. حسبما أخبرني هذا الرجل، يمكن لعقد ضخم أن يوفر رشاوي تغطي تكاليف انتخاب المحافظ.
إن المسؤولين الحكوميين ليسوا مجرد متلقين للرشوة كما أخبرني، إذ إن أعضاء مجلس المحافظة يطرقون أبواب رجال الأعمال ويسألونهم: كيف بإمكانهم تقديم المساعدة؟ هل هناك أحد ما يتوجب عليهم تلطيخ سمعته؟ هل هناك تآمر ما يتوجب عليهم تعزيزه؟ هل هناك أحد يجب إخبار لجنة النزاهة عنه؟ إن مثل هذه الفنون الملتوية يكون المال فيها اللاعب هو الأول. فمثلا إذا ما أردت أن تتآمر ضد حزب الدعوة سيقوم أعضاء من مجلس المحافظة بالتعاون معك إذا ما دفعت لهم المال، حسبما قال لي.
ويقف خلف كل تلك الصفقات الميليشيات التي توفر الحماية وتأخذ حصتها من المال. قال لي إن أي رجل أعمال أو بنك بدون جماعة مسلحة تدعمه لن يتمكن من العمل.
لا يعد ذلك مفاجأة بالنسبة للعراقيين حيث يمكن لهم أن يروا كيف أن أجهزة مكافحة الفساد أصبحت وسائل لانتشار الرشوة. وللأسف فإن هذه لا تعد مجرد اتهامات بدون دليل. فعندما كنت في بغداد ذهبت للقاء مشعان الجبوري رجل الأعمال والسياسي الذي يبلغ من العمر ٦٣ سنة بارز العينين وأصلع الرأس. كان رجل أعمال في الثمانينات وهرب خارج العراق في نهاية ذلك العقد لينضم إلى المعارضة. وفي عام ٢٠٠٦ هرب من العراق مرة أخرى بعدما أتهم بالتخطيط لهجمات استهدفت أنابيب النفط. ثم عاد إلى العراق وانتخب في البرلمان وأصبح عضواً في لجنة النزاهة. أخبرني بينما كنا جالسين في منزله في الحارثية أن الجميع متورط ومن ضمنهم المتدينين والعلمانيين في القرى والمدن، من القادة حتى أصغر الأعضاء رتبة. أصبحت ثقافة يفتخر بها الناس.
وفي عام ٢٠١٦ أحدث الجبوري ضجة صحفية عالمية عندما أخبر صحيفة الجارديان أنه هو نفسه متورط بالفساد حيث أخذ رشوة بقيمة ٥ مليون دولار من شخص أراده أن يسقط تهمة فساد عنه. حيث أوضح للصحفي أنه على الأقل هو صادق فيما يقول.
ولكن عندما التقيته في شهر شباط تراجع الجبوري عن هذا الاعتراف مدعياً أنه اخترع قصة الرشوة هذه، فحدقت فيه على نحو يوحي بعدم التصديق وحدق هو الآخر قائلاً: أردت إحداث هزة في المجتمع، أما الآن فلا حاجة لمثل هذه الأمور لأن المتظاهرين يقومون حالياً بمثل هذا الدور. وبالنسبة للمراقبين الذين يشاهدون الوضع من قارات أخرى فإن المظاهرات في الشوارع التي اندلعت في المدن العراقية بدت كأنها ثورة مفاجئة، لكنها في الحقيقة كانت تغلي منذ سنوات في عموم العراق. لقد أخبرني أحد المتظاهرين الشباب وكان قصير القامة يبلغ من العمر ٢٨ سنة من إحدى قرى السماوة يدعى موسى (طلب عدم ذكر اسمه الأخير خوفا من الانتقام) حول اقتصاد العصابات الموجود في العراق حيث تكون فيه المؤهلات الحقيقية مستبعدة ولا تأتي عروض العمل إلا بأسعار باهظة تعادل رواتب عدة أشهر. فبعدما أمضى خمس سنوات في دراسة علم البيطرة لم يجد سوى فرصة عمل واحدة وهي عقد لمدة سنة براتب ٢٠٠ دولار في الشهر، والذي طرد منه لأنه لم يلب رغبة مديره بانضمامه إلى إحدى الميليشيات. ولم يكن لديه خيار آخر سوى القبول بوظيفة في أحد دوائر الكهرباء المحلية براتب ٣٧٥ دولار في الشهر.
لقد بدأ تمرده قبل أكثر من سنتين عندما عثر على وثائق تبين تورط مدير دائرة الكهرباء بتلقي رشاوي في عقود حكومية. لقد ساعد موسى في تنظيم احتجاجات تطالب بطرد المدير. (وقد تم طرده بالفعل حسب رواية موسى). وفي السنة التالية بدأ موسى التواصل مع شباب آخرين في عموم العراق ممن كان لديهم تجارب مشابهة ويحملون نفس المشاعر، إذ يعتقد الكثير منهم أن بلدهم أصبح وعاءً لإيران وعصاباتها المحلية. وبحلول صيف عام ٢٠١٩ بدأت شبكة من الاحتجاجات المحلية بالاتساع أكثر فأكثر وكان موسى من بين المنظمين الذين دعوا إلى العصيان الذي بدأ في ١ تشرين الأول.
وبعد قرابة أسبوع وجد نفسه جالساً على أريكة مقابل رئيس الوزراء عادل عبد المهدي حين كان البلد يغلي. لقد قتل أكثر من ١٠٠ شخص في صدامات فوضوية مع الشرطة وكان الاقتصاد راكداً. كان عبد المهدي يائساً بشأن استعادة النظام فدعي موسى وثمانية آخرين من قادة الاحتجاجات ليسمع منهم. وقد سلمه موسى ورقة تتضمن مطالب المتظاهرين التي قرأها الأخير بسرعة وبصمت. وكان التصدي للفساد أحد هذه المطالب وبعد حوار قصير سأل أحد مستشاري عبد المهدي قائلا “أعطونا قائمة بأكثر المسؤولين فسادا”.
اندهش وارتبك موسى الذي كان يتسم بالصبر من هذا الطلب على ما أخبرني، فهو كان يعلم أنه مطلوب بالفعل للاعتقال من قبل قوات الأمن، وعليه الاختباء بعد فترة قصيرة مثل الكثيرين من قادة الاحتجاج الآخرين. لقد كان يعلم أيضاً أن من المرجح أن الكثير من الشخصيات الفاسدة جلسوا على نفس الأريكة! وكان جوابه على السؤال: “هذا ليس من اختصاصنا إنما هو عملكم”، وانتهى اللقاء بعد عشر دقائق. أعلن عبد المهدي بعد ذلك بفترة قصيرة أن المظاهرات تفتقد إلى الزعامة وكان يمكن قول نفس الشيء بشأن حكومة عبد المهدي! لذا وبعد أقل من شهرين وبعد تصاعد التمرد أعلن عبد المهدي استقالته.
لقد فاجئت المظاهرات العارمة الجميع ووقفت الميليشيات لأول مرة في موقف الدفاع منذ سنوات بعدما استهزأ بهم بعض المتظاهرين بنعتهم باتباع الإيرانيين. وشارك فيها حتى بعض أعضاء الحشد.
لقد مرر البرلمان قانوناً يسمح لهيئة النزاهة بالتحقق من مدخولات الموظفين العموميين وفرض غرامات أو سجن على كل من لا يتمكن من إثبات مصادر دخله المالي. التقيت في بغداد بالمحامية مروى عبد الرضا التي أطلعتني على هاتفها الخلوي كيف أنفقت نقابة المحامين العراقية أموال طائلة على إنشاء حوض سباحة. لقد كُشفت الفضيحة قبل أن يتمكن أي محام من السباحة في هذا الحوض! قالت لي: لقد أُنفق الكثير في الماضي ولم يتكلم أحد من المحامين، أما الآن فالوضع مختلف.
إن روح عدم التنازل هي ما أبقى تلك المظاهرات متقدة، على الأقل لحين ظهور جائحة كورونا، فبعد أشهر من المظاهرات رفض المحتجون تسمية أي شخصية لمنصب الرئاسة وقد علق المتظاهرون على هذا الموقف: أرادوا أن يغيروا النظام لكن أي شخص يحاول الاقتراب من التغيير حتى وإن كان من بينهم يصبح مشتبهاً به. كان الأبطال الوحيدون هم القتلى من زملائهم المتظاهرين الذين تظهر صورهم في الساحات.
وثمة صراع في صلب حركة المظاهرات يحاول أن يتحرر من تاريخ البلد العصيب. إذ يدرك الكثير من الشباب أن العراق، كباقي المستعمرات القديمة في آسيا وإفريقيا، غالباً ما كان يرفع العسكريين ورجال الدين إلى مرتبة الآلهة لكنهم كانوا يتحولون إلى وحوش وهذا أحد الأسباب التي تكمن خلف رفض المتظاهرين أن يكون لهم قيادة معينة تمثلهم. فهم يعلمون أن ما يهم الآن هو بناء المؤسسات وليس تسمية المنقذين. لكنهم أيضاً يتوقون إلى إيجاد شخصيات عامة مرموقة تقودهم وتلهمهم.
لقد بزغ في بداية التظاهرات قائد بدى أنه بطل من النوع غير العادي. عبد الوهاب الساعدي يعد من كبار ضباط جهاز مكافحة الإرهاب وهو شخصية محبوبة في عموم العراق ليس فقط بسبب سجله العسكري في محاربة داعش، وإنما يقال بأنه يكاد يكون الوحيد من بين كبار الضباط ممن لا ينحازون إلى حزب معين ولم يستلم أية رشوة. وفي أيلول الماضي قرر رئيس الوزراء فجأة عزل هذا القائد مما دفع بالمتظاهرين إلى اعتباره شهيداً سياسياً خسر المعركة لأنه رفض أن يلعب اللعبة. لقد بدؤوا برفع صوره هاتفين باسمه. والبعض نادى بأن يكون بديلاً لعبد المهدي. لكن الساعدي أجاب على هذه النداءات بشيء من عدم الثقة. فقال إنه رجل عسكري غير مؤهل لمنصب سياسي. فخاب أمل بعض المتظاهرين بينما اعتبر البعض هذا الموقف كوسام شرف.
الساعدي رجل ذو قامة طويلة يبلع من العمر ٥٧ سنة، ذو شخصية رزينة وشعر أشيب. على الرغم من انتمائه إلى الطائفة الشيعية إلا أن أهل الموصل، وأغلبهم من السنة، يعتبرونه المحرر من طغيان داعش فنصبوا له تمثالاً هناك. (لكن الحكومة شعرت بخطر هذه الحركة فقامت بإزالة التمثال قبل أن يُدشن) وعندما التقيته في شهر شباط كان لايزال يشعر بالاهتمام الذي تلقاه شعبياً وأخبرني عن عدد المكالمات التي تلقاها من الأحزاب السياسية التي أملت أن ينحاز لها أو أن تتبناه. إذ قال في هذا الصدد وهو يدخن سيجارته إن رئيس الوزراء يريد أن يستخدمه ليحصل على دعم الرأي العام.
لم يكن الساعدي مرتاحاً في الحديث عن نفسه فقد كان يتسم بتواضع المتقشف وعادة ما كان يضع يديه في جيوبه وينظر بعيداً كأنه يقيم وضع إحدى المناورات العسكرية في الميدان على عكس سلوك الشخصيات السياسية العراقية التي دائما ما تشعر بأهميتها. فعادة ما يكون السياسيون ممتلئي الجسم و ثرثارين في الحديث بينما كان هو نحيلاً ومتواضعاً. وغالباً ما يمتلكون المنازل المرفهة في لندن وعمان بينما يعيش الساعدي في شقة ببغداد. أنا لا أمتلك دليلاً على أن الساعدي لم يستلم رشوة لكن كثير من العراقيين يتمنون احراجه ومع ذلك لم يظهر أي دليل ضده. إنه نزيه لدرجة أنه رفض مساعدة ابنه الذي انضم للجيش وهو مستوى من النزاهة رأى بعض زملائه أنه غير طبيعي. وعندما سألته عن هذا قال لي إن والده توفي وهو صغير السن وأن أخاه الأكبر قد أعدم على يد صدام حسين فكان على الساعدي أن يشق طريقه بنفسه وساعده ذلك في عدم الانزلاق في الترهل العسكري. وقد أراد نفس الشيء لابنه الذي قال له “يجب أن تعتمد على نفسك”. وقال: “لم أساعده في منح الرتب أو الإجازات أو الامتيازات”.
وفي مساء أحد أيام الجمعة، التقيت الساعدي في أحد المقاهي “مقهى رضا علوان” في أحد أحياء الطبقة الوسطى التي تعج بالحياة. جلسنا على طاولة في الخارج تحيط بنا رائحة القهوة ونكهة التبغ. وعلى الرغم من أنه كان يتسم بقلة الكلام إلا أنه قد بدا مرتاحاً في الحديث عن السياسة والتاريخ وقد تمت مقاطعة الحديث مراراً بسبب الزبائن الذين كانوا يريدون مصافحته والتقاط الصور مع بطل الموصل. كان يستجيب لهم جميعاً بابتسامة خجولة وعندما سألوه إن كان سيؤدي أي دور في الحكومة الجديدة كان يلوح لهم ويقول “إن شاء الله” (بعد لقائنا الأخير قام رئيس الوزراء الكاظمي بإعادة تعيين الساعدي وترقيته).
وعندما حاولنا مغادرة المقهى. تعرف عليه الناس في الشارع حالما وقف وتجمهروا حوله. ووقف برحابة صدر يلتقط الصور ويصافح الناس. بينما كانت السيارات تبطئ في مسيرها لإلقاء نظرة عليه وسمعت أحدهم يصرخ “انظر! إنه الساعدي” وبدأت إحدى النساء تزغرد. شعر حراسه بالتوتر لكن لم يكن بوسعهم فعل شيء فقد أراد الجميع أن يحظى بلحظة معه.
وبعد ١٥ دقيقة وبينما كان لا يبعد سوى مسافة أقدام عن المقهى، أصبح الشارع مكتظاً. وبدأ رجل متوسط العمر بإنشاد أهازيج حول بطولة الساعدي وعن دوره في إنقاذ العراق من داعش. بينما صفق الناس مبتهجين وهم يلتقطون الصور. ثم تدافع سائق أجرة شاب يرتدي جلابة سوداء بين الحشود وراح يخبر الساعدي كيف أن أخاه قد قتل في ساحة الاحتجاجات في بغداد. وشكر الساعدي على جميع ما قدمه ثم أفسح المجال لمعجبين آخرين بالدخول. جاء بعد ذلك جندي يعتمر خوذة ويرتدي درعاً واقياً وبدأ يناشد الساعدي أن يكون وزير الدفاع المقبل. ثم ظهر رجل شرطة وهو يقول “نريده وزيرا للداخلية”.
وبينا كنت واقفا في الظلام، تأثرت عند رؤية تلك الوجوه التواقة المليئة بالأمل. إن كل ما يطلبونه هو ما يعتبره الكثيرون منا، المحظوظين كفاية، من الأمور المسلم بها، على الأقل في هذا الوقت: بيروقراطيين نزيهين نسبياً، شوارع نظيفة، ضباط شرطة لا يطلبون الرشوة. إنهم يريدون بلداً.
روبرت إف وورث كاتب مساهم في المجلة والذي فاز كتابه “الثورة من أجل النظام” حول الثورات العربية التي انطلقت عام ٢٠١١ بجائزة ليونيل غيلبر لعام ٢٠١٧. كتب مؤخراً عن زعيم الإمارات العربية المتحدة محمد بن زايد. موزيس سامان هو مصور لمؤسسة ماغنوم من ليما في البيرو. وهو حالياً مقيم في الأردن، وقد قام بتغطية العديد من النزاعات حول العالم، بما في ذلك في كوسوفو والعراق وأفغانستان. كانت آخر مهمة قام بها للمجلة هي تصوير العائلات اليابانية في عطلة في مقاطعات غونما وكاجوشيما وكاناغاوا
“في أوائل أكتوبر الماضي، أثناء العمل في مكتبه في بغداد، تلقى رجل أعمال يدعى حسين لقيس مكالمة هاتفية من رقم لم يسبق له رؤيته من قبل. قال المتصل “نحن بحاجة إلى التحدث”. كان صوت الرجل واثقًا من نفسه، ومهددًا قليلاً. طلب أن يأتي “لقيس” للقائه لكنه رفض ذكر اسمه.
تردد لقيس، وانتهت المكالمة. ربما يكون قد نسي المكالمة بأكملها، لولا مكالمة لاحقة من أحد الزملاء بعد بضع دقائق حملت أخباراً مقلقة. المتصل الغامض كان من كتائب حزب الله، وهي ميليشيا عراقية قوية لها علاقات قوية مع الحرس الثوري الإيراني، كان لديهم اقتراح عمل للمناقشة.
عندما اتصل عناصر الميليشيا مرة أخرى، وافق لقيس على مضض على عقد اجتماع. جمع بضع زملاء، وتوجهوا جميعًا إلى منزل بالقرب من شارع السعدون وسط مدينة بغداد، في الداخل، اقتيد إلى مكتب خافت الإضاءة، وقُدِّم إلى شخص أصلع، قال الرجل الأصلع: “أنت بحاجة إلى العمل معنا، وليس هناك خيار آخر، يمكنك الاحتفاظ بموظفيك، ولكن يجب أن تفعل ما نقول”. وأوضح أن كتائب حزب الله ستأخذ 20 بالمائة من إجمالي عائدات شركة “لقيس”، حوالي 50 بالمائة من أرباحه.
رفض “لقيس”، كان لشركته، “بالم جيت” عقد حكومي مدته خمس سنوات لإدارة صالة “في آي بي” في مطار بغداد الدولي، إلى جانب فندق قريب؛ كما أنها تعمل بشكل روتيني مع شركات الطيران الغربية مثل .Lockheed Martin
لم يكن لديه أي تعاملات مع جماعة مثل كتائب حزب الله، التي أدرجتها الحكومة الأمريكية كمنظمة إرهابية أجنبية (كما هو الحال مع الجماعة اللبنانية غير ذات الصلة التي تسمى أيضًا حزب الله).
رد الرجل الأصلع بأنه إذا رفض “لقيس”، فسيستولي على كل ما يملكه في بغداد. حدّق لقيس بالرجل الأصل، وقال له “أنا مستثمر، هناك قانون”
رد الرجل الأصلع: “نحن القانون”. وطلب من لقيس أن يجيبه ظهرًا في اليوم التالي.
بعد ظهر اليوم التالي، توجهت خمس سيارات شيفروليه وخرج منها اثنا عشر رجلاً يرتدون ملابس شبه عسكرية سوداء ويحملون أسلحة. وجدوا “لقيس” في مقهى فندق المطار، كان يجري اتصالات مع الحكومة منذ الليلة السابقة، إلى جانب رؤساء أقسام المطار. لا أحد منهم أعاد الإتصال به، كان الأمر كما لو أنهم قد تم تحذيرهم، أو ربما استلموا حصصهم.
أخذت الميليشيا هاتف “لقيس” وأمروه بالتوقيع على وثيقة تتخلى عن عقده. لقد توقف لبعض الوقت. تسلل أحد موظفيه إلى الخارج لالتقاط صورة عبر الهاتف المحمول لمركبات عناصر الميليشيات، لكنهم أمسكوا به وحطموا هاتفه وضربوه.
كان “لقيس”، وهو لبناني، يعمل في العراق منذ عام 2011. كان يعلم أن البلد يعاني من الجريمة والفساد، لكنه يعتقد أن المطار، مع مئات من مسؤولي الهجرة والأمن النظاميين، كان مختلفًا.
قال لي “لقيس” في وقت لاحق: “انتظرت 20 دقيقة، ربما سيأتي شخص ما، الشرطة .. شيء”. وأخيرًا، سار إلى صالة المغادرة وذهب في رحلة إلى دبي.
بعد أيام، قامت كتائب حزب الله بتثبيت مقاولها المفضل في مكانه. ولم يعد “لقيس” إلى العراق منذ ذلك الحين.
وقعت حادثة المطار هذه بعد أربعة أيام فقط من بدء الاحتجاجات المناهضة للحكومة العراقية (1 تشرين الأول 2019)، حيث كان آلاف المتظاهرين الشباب يغمرون شوارع بغداد ومدن أخرى، وهم يرددون شعارهم المؤثر: “نريد وطن” أو “نريد دولة”.
ملأ المتظاهرون بسرعة ميدان التحرير في قلب بغداد، وأقاموا الخيام وخاضوا مواجهات ضارية مع الشرطة. على الرغم من أن الفوضى تسببت بإغلاق الطرق في المدينة، إلا أنها اكتسبت تعاطف العرب في جميع أنحاء المنطقة، مما أشعل حركة احتجاج قوية في لبنان.
بالنسبة لأولئك الذين شاركوا في المسيرات، فإن مجموعات مثل كتائب حزب الله ليست مجرد وكلاء إيرانيين. إنها أحدث وجوه كليبتوقراطية أثرت نفسها على حساب شباب العراق الذين تركوا عاطلين عن العمل ومعوزين بأعداد متزايدة باستمرار.
في غضون ذلك، انضم بعض قادة الميليشيات إلى صفوف أغنى رجال العراق، وأصبحوا مشهورين بشراء مطاعم راقية، ونواد ليلية ومزارع غنية على نهر دجلة.
لقد كونت الميليشيات طبقة سياسية عراقية جديدة، أخلاقياتها الوحيدة هي إثراء الذات. على مر السنين ، أتقنت هذه العصابة عبر الطوائف الحيل على جميع المستويات: عمليات التضليل الروتينية لنقاط التفتيش، والاحتيال المصرفي، والاختلاس من الرواتب الحكومية.
كان عادل عبد المهدي، الذي تم الترحيب به باعتباره مصلحًا محتملاً عندما أصبح رئيسًا للوزراء عام 2018، يأمل في إخضاع الميليشيات للدولة، لكن بدلا من ذلك، تمكنت الميليشيات من التغلب عليه، وضمت حكومته أشخاصاً لهم صلات ببعض أسوأ مشاريع الكسب غير المشروع التي ابتليت بها البلاد.
الولايات المتحدة متورطة
إن الولايات المتحدة متورطة بشدة في كل هذا، وليس فقط لأن غزواتها دمرت البلاد وساعدت على تدمير الاقتصاد. بل تقدم أمريكا الأموال.
ما يزال الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك يمد العراق بما لا يقل عن 10 مليارات دولار سنويًا بالعملة الصعبة من مبيعات النفط في البلاد. وقد تم تمرير الكثير من ذلك إلى البنوك التجارية، ظاهريا للواردات، في عملية اختطفتها منذ فترة طويلة عصابات غسل الأموال في العراق.
في الوقت نفسه، تفرض الولايات المتحدة عقوبات على دولتين – إيران وسوريا – تشترك معهما العراق حدودياً، إنها أرض خصبة للفساد.
ربما تكون إدارة ترامب قد صدمت الميليشيات العراقية بالاغتيال غير المتوقع في كانون الثاني / يناير لقاسم سليماني في مطار بغداد. لكن الوكلاء الإيرانيين مثل كتائب حزب الله لا يبدون قلقًا مفرطًا.
إنهم يعرفون أن الرئيس ترامب ليس لديه شغف كبير للحرب، خاصة في ظل كوفيد 19. إن أولويتهم القصوى هي الحفاظ على نظام عراقي يتم فيه بيع كل شيء حرفيا.
لقد دفعت جائحة الفيروس التاجي العراق الآن إلى حافة أزمة وجودية. أدى الانهيار العالمي للطلب على النفط إلى انخفاض الأسعار بشكل تاريخي، مما أدى إلى صدمة رهيبة لبلد يعتمد اقتصاده بالكامل تقريبًا على عائدات النفط. لكنها قد توفر أيضا فرصة استثنائية لرئيس الوزراء العراقي الجديد مصطفى الكاظمي لمواجهة أكثر مشاكل بلاده صعوبة.
يمكن الآن اعتبار الفساد قضية حياة أو موت، يجب على العراق أن يختار بين إطعام شعبه أو إثراء اللصوص الحاكمين.
لقد وعد الكاظمي بمواجهة هذا التحدي. من غير المرجح أن ينجح ما لم تغتنم الولايات المتحدة هذه الفرصة لإلغاء بعض الأضرار التي ألحقتها بالعراق، ولخلق قضية مشتركة مع المتظاهرين الذين يأملون بإعادة بناء بلدهم على أساس جديد.
في سجلات الدبلوماسية الأمريكية، كان للفساد وضع ملتبس منذ فترة طويلة: إستنكار في العلن، ولكن في الممارسة العملية يُنظر إليه غالبًا على أنه مقبول ومفيد.
أخبرتني سارة تشايس في مايو / أيار أن “الفساد ليس مجرد مشكلة سياسية أساسية، ولكنه المحرك الأهم لمعظم المشاكل الأمنية التي من المفترض أن نحاول معالجتها”.
يوثق كتاب تشايس، عام 2015 ، “Thieves Of State” ، الآثار المدمرة للفساد عبر مجموعة من البلدان في إفريقيا وآسيا.
اعتمد الكتاب على تجاربها في أفغانستان، حيث عاشت لسنوات قبل أن تصبح مستشارًا في البنتاغون ورأت كيف ساعد الابتزاز المتفشي وزرع حكومة مدعومة من الولايات المتحدة في دفع السكان المحليين إلى أحضان طالبان، وقد يكون العراق درسًا أكثر تجسيداً.
نمو الفساد: من صدام إلى المالكي
في الثمانينيات من القرن الماضي، كان الفساد نادرًا، وكانت الوزارات في حكومة صدام حسين الاستبدادية نظيفة ومعظمها جيدة.
جاء التغيير خلال التسعينات، عندما فرضت الأمم المتحدة عقوبات معوقة بعد غزو صدام للكويت. وخلال سبع سنوات فقط، انخفض دخل الفرد في العراق من حوالي 3500 دولار إلى 450 دولارًا.
مع انهيار قيمة رواتبهم، لم يستطع المسؤولون الحكوميون البقاء دون تلقي رشاوى، والتي أصبحت عملة الحياة اليومية.
ازداد التعفن سوءًا بعد غزو عام 2003، عندما بدأ الضباط الأمريكيون بتوزيع الأموال في محاولة لتكوين صداقات ودفع الاقتصاد.
ربما كانن نواياهم حسنة، لكن تسرعهم الأخرق كان كارثيًا، اصطفت مجموعة جديدة من الانتهازيين، بما في ذلك المنفيون العراقيون العائدون، للحصول على عقود حكومية كبيرة.
فُقدت المليارات واتسعت السرقة على نطاق واسع بعد الطفرة النفطية عام 2008، بفضل شبكة من الأوليغارشيين بتمكين من رئيس الوزراء نوري كمال المالكي.
عندما سيطر داعش على شمال غرب العراق منتصف عام 2014، كانت القوات العراقية المكلفة بمواجهة التنظيم قوامها 350.000 جندياً، وهي أكبر بكثير من الألوية “الجهادية” المهاجمة.
في الواقع، تم تدمير الجيش من خلال “الفضائيين” ، حيث كان القادة يحصلون على مئات، بل آلاف، من الرواتب.
دمرت هذه الممارسات الروح المعنوية داخل الجيش وغذت الغضب الشعبي بين المدنيين في الموصل، الذين أصبحوا أكثر تقبلاً لداعش مما كانوا عليه في السابق.
وجدت دراسة حديثة لأشخاص في منطقة الموصل، بقيادة مبادرة هارفارد الإنسانية، أنهم رأوا الفساد سبباً رئيسياً لظهور داعش.
مابين 125 إلى 300 مليار دولار!
ليس من السهل تقدير التكلفة الكاملة لما سرق من العراق. تتم الصفقات نقدًا، ويصعب الحصول على الوثائق وغالبًا ما تكون إحصاءات الحكومة غير موثوقة. ومع ذلك، تشير المعلومات المتاحة إلى أن العراق ربما يكون قد استنفد ثروته الوطنية بشكل غير مشروع في الخارج أكثر من أي دولة أخرى.
قام رجل دولة عراقي أقدم لديه خبرة طويلة في مجال التمويل بتجميع تقييم سري لمجلس الأطلنطي، وهو مركز أبحاث أمريكي، بناءً على محادثات مع المصرفيين والمحققين والاتصالات في مجموعة متنوعة من الدول الأجنبية، وخلص إلى أن ما بين 125 مليار دولار و 150 مليار دولار يمتلكها عراقيون في الخارج، معظمها “تم الاستحواذ عليها بشكل غير قانوني”. مشيراً إلى أن التقديرات الأخرى تصل إلى 300 مليار دولار، وقدر أنه يتم استثمار نحو 10 مليارات دولار من الأموال المسروقة في عقارات لندن وحدها.
إن الحساب الكامل يمتد إلى ما هو أبعد من الفاتورة المالية إلى الضرر الذي لحق بثقافة ومجتمع العراق، وهي النقطة التي سمعت في كثير من الأحيان أن العراقيين الأكبر سنا يثيرونها بحزن شديد خلال السنوات التي عشت فيها هناك.
نماذج من حصص الأحزاب.. والوزير المستقيل
قد تبدو الحياة السياسية وكأنها حرب عصابات، لكن سطحها المضطرب يخفي في معظم الأيام عملاً هادئًا ومبهجًا للنهب، في كل وزارة حكومية، يتم تخصيص أكبر الغنائم بالاتفاق غير المكتوب على فصيل أو آخر.
لدى الصدريين وزارة الصحة، ولدى منظمة بدر منذ فترة طويلة وزارة الداخلية، ووزارة النفط تابعة للحكمة.
أحيانًا يواجه القادمون الجدد صعوبة في التكيف مع هذا الوضع، اكتشف أحد الوزراء السابقين -وهو تقني قضى عقودًا في الخارج- لدى وصوله إلى منصبه، أن وزارته كانت تشتري لقاحات بعقد 92 مليون دولار، وجد طريقة أخرى لشراء نفس اللقاحات بأقل من 15 مليون دولار. قال لي “بمجرد أن فعلت ذلك، واجهت قدرا كبيرا من المقاومة، حملة شرسة ضدي”.
كانت أولويته معالجة الفجوة بين ثروة النفط العراقية ونظامها الصحي المدمر، الذي يفتقد الوصول إلى العديد من الأدوية الأساسية، أما بالنسبة لخصومه، فقد كانت الضرورة الوحيدة هي مصالحهم ومصالح أحزابهم.
قرر الوزير في النهاية أن هاتين الفلسفتين لا يمكن التوفيق بينهما، واستقال. (مثل معظم الأشخاص الذين تحدثت إليهم في هذا المقال، تحدث بشرط ألا أستخدم اسمه. الفساد هو الطريق الثالث للسياسة العراقية: لمسه يمكن أن يقتلك أنت أو أقاربك بسهولة).
الزعماء السياسيون الذين يرأسون هذا الكسب غير المشروع معروفون جيدًا. بعضهم حلفاء مخلصون للولايات المتحدة، استخدمت عائلات بارزاني وطالباني في كردستان سيطرتهم على عقود تلك المنطقة وبنكها المركزي ليصبحوا أغنياء للغاية.
المالكي وحلقة المقربين له ما زالوا يسجلون حضوراً على الساحة السياسية العراقية.
مقتدى الصدر، رجل الدين الشيعي الزئبقي، هو عراب آخر يشتهر أتباعه بمطالبتهم بعمولات ضخمة.
2014 وإثراء الفصائل
كان من المفترض أن يتلقى هذا النظام هزة عام 2014، عندما استولى داعش على المدن، لكن عوضاً عن ذلك، كانت النتيجة الرئيسية هي ظهور سلالة جديدة من الطفيليات: الميليشيات التي ساعدت في هزيمة داعش، والمعروفة مجتمعة باسم الحشد الشعبي، أو قوات الحشد الشعبي.
الحشد هو اتحاد فضفاض للجماعات المسلحة، وبعضها موجود منذ عقود. في عام 2016، اعترف رئيس الوزراء حيدر العبادي بها كجزء من قوات الأمن في البلاد، ويتقاضون الآن رواتب منتظمة مثلما يحصل عليه الجنود وضباط الشرطة.
من بين أقوى تلك الفصائل، كتائب حزب الله، التي تُتهم بشن هجوم على قاعدة جوية عراقية في ديسمبر أسفرت عن مقتل مقاول أمريكي وأدت إلى اغتيال سليماني بعد أسبوع.
على الرغم من مكانتها البارزة، إلا أنها محاطة بالغموض، يقول مايكل نايتس، المحلل في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى الذي تابع الفصيل منذ تأسيسه: “لا نعرف شيئًا تقريبًا عن القيادة”، إنهم مثل تنظيم الماسونيين، يمكنك أن تكون فيه وتكون في حركة أخرى في نفس الوقت، لقد بنت إمبراطورية اقتصادية، من خلال شق طريقها إلى الشركات الشرعية والعقود الحكومية”.
’مطار بغداد: هدف مشترك لكتائب حزب الله والعصائب’
من بين مشاريع الميليشيات الأقل شهرة والأكثر إثارة للقلق، تقدمها التدريجي للسيطرة على مطار بغداد.
بدأ الأمر قبل عدة سنوات، عندما بدأت كتائب حزب الله وميليشيا أخرى مدعومة من إيران تسمى عصائب أهل الحق في وضع العمال الموالين لهما في جميع أنحاء المطار بشكل خفي، وفقا لمسؤول كبير في المطار تحدثت معه. وتمكنوا أيضًا من النفوذ إلى G4S، وهي شركة بريطانية لديها فترة طويلة.
المسؤول قال أيضاً إن عقد الأمن في المطار ذهب لتوظيف عناصر الفصيلين. (لم توافق G4S على الإدلاء بتعليق).
ونتيجة لذلك، أصبح بإمكان الميليشيات الآن الوصول إلى جميع كاميرات CCTV بالمطار وإلى طريق محدود الوصول يسمى Kilometer One الذي يربط المدارج بمحيط المطار، متجاوزًا الحواجز الأمنية، قال لي المسؤول: عندما ضربت طائرة بدون طيار أمريكية قاسم سليماني وحاشيته في يناير/ كانون الثاني، كنت قد خرجت للتو من هذا الطريق).
وأخبرني المسؤول، عندها كانت عناصر الميليشيات تحتجز مدير مطار بغداد تحت تهديد السلاح وأجبرته على توظيف عنصر مخلص لها كنائب.
في أواخر أكتوبر، حصلت شركة هي واجهة لكتائب حزب الله، على عقد مدته 12 عامًا في مطاري بغداد والبصرة، تبلغ قيمته عشرات الملايين من الدولارات سنويًا، على الرغم من أن الشركة كان عمرها شهرين فقط ولم تحصل على الاعتماد أو الترخيص اللازم.
تم إنهاء العقد في ذلك الحين، لكن الشركة التي استحوذت على شركة صالة V.I.P. والفندق من “حسين لقيس” ما تزال في مكانها.
إن مطار بغداد ليس سوى واحدة من البوابات الاقتصادية التي تسيطر عليها الميليشيات الآن. لقد استخدموا تهديد داعش لتثبيت أنفسهم في معظم الحدود البرية للبلاد. وقد سيطرت الميليشيات على معظم التجارة عبر الموانئ الجنوبية للعراق لأكثر من عقد من الزمان.
في الواقع، تعمل الميليشيات في الظل، وتفرض على المستوردين رسومًا أعلى مقابل تسهيل الإدخال والتوصيل.
لديها لجان اقتصادية وتفتتح مكاتب في بغداد، حيث يمكن للشركات الخاصة إبرام صفقات للتحايل على القنوات القانونية في البلاد.
قال لي مسؤول المطار: “على سبيل المثال، إذا أحضرت 100 سيارة من دبي وقمت بالإجراءات القانونية، فقد يستغرق الأمر شهرين لإخلائها، أما إذا دفعت لكتائب حزب الله، على سبيل المثال، 10000 دولار إلى 15000 دولار، فقد يستغرق الأمر يومين فقط”.
الوضع “مناسب” للولايات المتحدة
الأموال التي غذت انحدار العراق إلى كليبتوقراطية، تنبع، في الغالب، من مجمع الاحتياطي الفيدرالي شديد الحراسة في شرق روثرفورد، نيوجيرسي.
هناك، كل شهر أو نحو ذلك، شاحنة محملة بأكثر من 10 أطنان من العملة الأمريكية المغلفة بالبلاستيك، أموال بقيمة 1 مليار دولار إلى 2 مليار دولار يتم نقلها إلى قاعدة جوية وتتوجه جواً إلى بغداد. وهي تابعة للحكومة العراقية، التي توجه عائدات مبيعات النفط من خلال حساب في مجلس الاحتياطي الاتحادي في نيويورك.
هذا الترتيب غير العادي هو إرث من الاحتلال الأمريكي، عندما سيطرت أمريكا مباشرة على الحكومة العراقية وأموالها. وقد بقي الحال على ماهو عليه لأنه يناسب كلا الجانبين: يحصل العراقيون على وصول سريع وتفضيلي إلى الدولارات، وتحتفظ الولايات المتحدة بنفوذ هائل على الاقتصاد العراقي.
ظاهريا، الشحنات الدورية للدولار (جزء صغير من عائدات النفط الإجمالية للبلاد) هي لتلبية احتياجات شركات الصرافة والمستوردين العراقيين، الذين يحتاجون إلى أموال نقدية. أما من الناحية العملية، وجدت الكثير من الدولارات طريقها إلى أيدي من يقومون بغسل الأموال والجماعات الإرهابية والحرس الثوري الإيراني، وذلك بفضل طقوس غير معروفة يديرها البنك المركزي العراقي تحت مسمى “مزاد بيع الدولار”.
مزاد بيع الدولار
كان مزاد بيع العملة يسمى “نظام الصرف الصحي للفساد العراقي”، ولكن نادرا ما يتم الكتابة عن أعماله الداخلية.
إن مخططات الاحتيال التي تدور حوله قد غذت كل الأطراف في الحرب الأهلية السورية، بما في ذلك داعش.
بذلت وزارة الخزانة الأمريكية جهودًا جادة لإبعاد دولارات المزاد عن أيدي داعش وإيران، لكنها غالبًا ما تغض الطرف عن أنواع أخرى من غسيل الأموال. وقد وجد الإرهابيون مرارًا وتكرارًا شركات وأساليب جديدة لإخفاء مشاركتهم في المزاد، غالبًا بتواطؤ من مسؤولي البنك المركزي.
تسمية مزاد مضللة؛ إنها عملية يومية يقدم فيها البنك المركزي العراقي دولارات لعدد محدود من البنوك التجارية في البلاد مقابل الدينار العراقي.
قامت سلطات الاحتلال الأمريكية بتأسيسها في عام 2003 لخدمة غرضين: جمع ما يكفي من الدينارات لدفع المرتبات نقدا إلى أسطول الموظفين الحكوميين في العراق ومساعدة البلاد على دفع ثمن الواردات التي تشتد الحاجة إليها بالدولار.
من حيث المبدأ، يشبه المزاد العملية التي تستخدمها بعض الدول الأخرى لتسهيل التجارة الخارجية. كان من المفترض أن تعمل على النحو التالي: شركة تعتزم استيراد الأحذية من الهند، على سبيل المثال، ستذهب إلى بنكها المحلي العراقي بفاتورة من شركة الأحذية الهندية. يقوم البنك المحلي بالتصديق على المعاملة وإيداع المبلغ المطلوب بالدينار العراقي لدى البنك المركزي، والذي يقوم بتحويل الدولارات إلى حساب جهة التصدير.
بدأت المشكلة بمد هائل من الأموال القذرة: العراقيون الذين سرقوا مبالغ كبيرة من خلال عقود احتيالية أو خطط رشاوى كانوا متعطشين لتداول دنانيرهم بالدولار، حتى يتمكنوا من استخدامها في الخارج.
من أجل هذا، بدأت فئة جديدة من الانتهازيين بتسجيل الشركات المزيفة واختلاق الفواتير المطلوبة لمحاكاة صفقة الاستيراد، والتي سيتم تمويلها بعد ذلك عن طريق المزاد بالدولار. في غضون أيام، يمكن لشخص ما قام بالاحتيال على بلده بالملايين، أن يصبح مالك منزل ريفي في لندن. تركت الواردات الزائفة أدلة شحيحة، لأنه تم توثيقها ببطاقات هوية وصور لأشخاص حقيقيين، يوافقون على لعب دور مسؤولي الشركة مقابل رشوة.
في كل مرة يشك فيها البنك المركزي العراقي أو بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، فإن المحتالين سيعدلون لعبتهم في المقابل. قال لي مصرفي عراقي سابق، وهو واحد من العديد من الممولين والمسؤولين الحكوميين السابقين، “كانت هناك مكاتب صغيرة يديرها شباب لإنتاج أعمال تزوير محترفة، ثم يتكفلون بإنهاء الملف بأكمله”.
لتجنب دفع الضرائب على الواردات المزيفة، سيسجل القائمون بغسيل الأموال عشرات الشركات، ويتركونها ويخلقون شركات جديدة كلما كانت ضرائبهم مستحقة.
قاموا بإشراك سلطات المنافذ الحدودية، ودفعوا للمسؤولين لتزويدهم بالكشوف المزيفة بأختام تبدو حقيقية.
سيطر غاسلو الأموال في نهاية المطاف على معظم مبيعات الدولار اليومية للبنك المركزي، والتي بلغ مجموعها وفقًا لأرقام البنك المركزي أكثر من 500 مليار دولار منذ عام 2003. (هذا الرقم أعلى بكثير من كمية الدولارات الفعلية التي تم نقلها إلى العراق من الاحتياطي الفيدرالي، لأن معظم الدولارات التي يبيعها البنك المركزي هي تحويلات إلكترونية من عائدات النفط العراقي).
بطيخ وطماطم إيرانية بمليارات الدولارات!
كان الاحتيال واضحا في بعض الأحيان. في عام 2017، استورد العراق رسمياً ما قيمته 1.66 مليار دولار من الطماطم من إيران – أكثر من ألف مرة الكمية التي استوردها في عام 2016. كما أدرج واردات بقيمة 2.86 مليار دولار من البطيخ من إيران، بقيمة تفوق 16 مليون دولار عن العام السابق. هذه الكميات ستكون غير منطقية حتى لو لم يزرع العراق كميات كبيرة من الطماطم والبطيخ.
أخبرني الاقتصاديون أن أرقام الاستيراد الرسمية هذه – التي لا تزال مرئية على موقع وزارة التخطيط العراقية – يبدو أنها كانت محاولة تغطية سيئة لغسيل الأموال عبر المزاد بالدولار.
وقد مكّن المزاد أيضًا مخططًا للاختلاس على نطاق واسع، قام بتمرير مليارات الدولارات إلى وسطاء نافذين في العراق.
استند هذا الاحتيال على الفرق بين سعر الصرف الثابت الذي يقدمه البنك المركزي – المرتبط بالدولار – وسعر السوق المتذبذب، والذي غالبًا ما يكون أعلى بكثير.
بعد فترة وجيزة من بدء المزاد في عام 2003، أدرك القائمون على غسيل الأموال أنهم إذا تمكنوا من تزوير صفقة استيراد، يمكنهم بعد ذلك إعادة بيع الدولارات التي حصلوا عليها من البنك المركزي، وتحقيق ربح فوري من فارق السعر.
بمجرد أن أدرك الزعماء السياسيون العراقيون حجم الأموال التي سيتم جنيها، سيطروا على حق الوصول إلى المزاد.
الشركات العادية والبنوك التي ترغب في القيام بالواردات أو الإقتراض المشروع تم طردها من قبل أولئك الذين يدعمون الأحزاب السياسية والميليشيات الرئيسية.
ولإخفاء هذا الاستحواذ، اشترى الأثرياء البلوتوقراطيون (طبقة المتسلطين الأثرياء) الجدد، جميع البنوك التجارية المتبقية تقريبًا، وحولوها إلى مجرد معابر لأموال المزاد.
من المستحيل تحديد عدد المليارات التي تمت سرقتها من خلال فارلق سعر الصرف، لكن العديد من المصرفيين السابقين والمسؤولين العراقيين أخبروني أن هذا النوع من الاحتيال يمثل معظم الواردات المزعومة التي يمولها مزاد الدولار منذ حوالي عام 2008.
وتشير التقديرات بناء على ارقام موقع البنك المركزي ومعلومات من مصرفيين عراقيين ومسؤولين ماليين، إلى نحو 20 مليار دولار، كلها سرقت من الشعب العراقي.
بعض البنوك التي تحقق أرباحًا هائلة من المزاد ليست أكثر من واجهات، مع مكاتب فرعية متداعية ونادراً ما يوجد أي موظفين في تلك الشركات.
اشترى أحد البنوك 4 مليارات دولار في المزاد، بإجمالي ربح 200 مليون دولار، قال لي أحد أعضاء البرلمان الذي حقق في قضايا الفساد: “لقد فحصنا هذا البنك، كان يحتوي على غرفة واحدة وجهاز كمبيوتر وبعض الحراس”.
لم يكن الضرر الناتج عن الغش في المزاد يتعلق فقط بالأرباح غير المشروعة.
مع تحول المصارف التجارية العراقية إلى أدوات للمراجحة (بفارق السعر)، تُركت الشركات العادية دون الحصول على القروض التي تحتاجها للنمو. واضطر بعض المستوردين الشرعيين، غير القادرين على الحصول على دولارات من المزاد، إلى استخدام البنوك الأجنبية بدلاً من ذلك.
من الصعب معرفة مقدار الضرر الذي ألحقه ذلك بالاقتصاد، لكن جميع المحللين الذين تحدثت إليهم قالوا إن ذلك كان مدمراً، ويجوع القطاع الخاص في البلاد ويجعل العراق أكثر اعتماداً على عائداته النفطية، التي تم خفضها إلى النصف خلال الأشهر الأخيرة.
“بطل غير مرغوب به”
زعيم عراقي واحد فقط بذل جهودا جادة لكشف الجرائم المحيطة بمزاد الدولار، وكان بطلا غير مرغوب به.
قاد أحمد الجلبي، المصرفي والسياسي الذي ساعد إدارة بوش في تبرير غزوها للعراق، تحقيقًا برلمانيًا في مزاد الدولار الذي بدأ عام 2014. وكشف عن وثائق تورط بعض أكبر البنوك في البلاد وأصحابها في عمليات احتيال واسعة النطاق.
وبينما كان متوقعًا أن يكشف المزيد من الفضائح، توفي الجلبي بنوبة قلبية في نوفمبر 2015. (على الرغم من التوقيت المشبوه، لم يجد تشريح الجثة أي دليل على ارتكاب خطأ).
لم يتعرض المصرفيون الذين حددهم الجلبي في تحقيقاته لأي عواقب وما يزالون يواصلون أعمالهم.
يستمر المزاد حتى يومنا هذا، وكذلك غسيل الأموال والسرقة التي تحيط به.
في بعض الأيام منتصف آذار الماضي، سجل الموقع الإلكتروني للبنك المركزي مبيعات بالدولار تجاوزت 200 مليون دولار – أكثر من مليار دولار في أسبوع عمل واحد- من المفترض أن تدفع جميعًا مقابل الواردات. في ذلك الوقت، كانت جائحة الفيروس التاجي تغلق الاقتصاد العراقي.
قد تكون بعض هذه الواردات مشروعة، لكن المصرفيين الذين تحدثت إليهم قالوا إن الأرقام تشير إلى استمرار غسيل الأموال على نطاق واسع.
ومن العلامات الصارخة الأخرى للاحتيال، إجمالي المبلغ اليومي للدولارات التي يبيعها البنك المركزي لمكاتب الصرافة العراقية، والتي من المفترض أن يستخدمها فقط العراقيون المسافرون إلى الخارج.
في منتصف تموز، كانوا متوسط البيع مستمراً ما بين 10 إلى 11 مليون دولار يوميًا، على الرغم من إغلاق مطار بغداد منذ آذار حتى 23 تموز، وما تزال قيود السفر قائمة.
هناك أيضًا أدلة على أن المزاد يواصل تقديم الأموال للجماعات الإرهابية.
في تشرين الأول / أكتوبر، أصدر مجلس الاحتياطي الاتحادي في نيويورك رسالة إلى البنك المركزي العراقي يطالبه بمنع بنكين ومكتب صرافة من استخدام مزاد الدولار، مشيراً إلى أن لديه سبب للاعتقاد بأن الكيانات الثلاثة “تابعة أو متورطة في التعاملات المادية مع داعش أو جماعة لها علاقات معها. والكيانات الثلاثة مملوكة لممول يدعى حسن ناصر جعفر اللامي، المعروف أيضا في الدوائر المالية العراقية باسم “ملك الفواتير المزيفة”.
في كانون الثاني / يناير، أجرى موظف في البنك المركزي العراقي مقابلة مع محطة تلفزيون لبنانية زعم فيها أن اللامي كان ما يزال يستخدم المزاد، من خلال بنوك أخرى غير تلك التي ذكرها الاحتياطي الفيدرالي.
في بعض الحالات، يبدو أن البنك المركزي تحايل عن عمد على جهود مجلس الاحتياطي الفيدرالي أو وزارة الخزانة الأمريكية.
في عام 2018، فرضت وزارة الخزانة عقوبات على آراس حبيب كريم، وهو شخصية سياسية مكلفة بتوجيه الأموال إلى الحرس الثوري وحركة حزب الله اللبنانية.
كما فرض عقوبات على البنك الذي يديره، والمعروف باسم بنك البلاد الإسلامي. لكن بدلاً من تجميد أصول كريم، أمر البنك المركزي العراقي في أكتوبر بإعادة 40 مليون سهم في بنك البلاد يملكها كريم وعائلته، وفقًا لوثيقة للبنك المركزي حصلت عليها.
عندما سألت مسؤولي الخزانة عن عمل البنك المركزي العراقي، قدموا بيانًا معلبًا: “تواصل الخزانة العمل بشكل وثيق مع حكومة العراق بشأن الامتثال للعقوبات الأمريكية.”
ضربة واحدة لن تكفي
إن العراق قصة تحذير واعتبار لبقية دول العالم، توضح مدى السرعة التي يمكن أن تحققها عمليات الفساد ومدى صعوبة عكس هذه العملية.
لا يستغرق غبار التواطؤ وقتًا طويلاً حتى يغطي الجميع تقريبًا، كما هو الحال في أفغانستان أو الصومال أو فنزويلا.
يقول ريتشارد ميسيك، الذي أمضى عقودًا في دراسة الموضوع وهو المساهم الأول في مدونة مؤثرة تراقب الجهود العالمية لمكافحة الفساد: “يصبح نظامًا مستدامًا ذاتيًا، لا يمكنك اتخاذ إجراء في منطقة واحدة، لأنها كلها مرتبطة ببعضها البعض، لذلك عليك تغيير مؤسسات متعددة في نفس الوقت”.
من الصعب القيام بذلك بدون قوة خارجية، كان تدخل حكومة الولايات المتحدة ضرورياً في القضاء على الكسب غير المشروع المنتشر في شيكاغو، الذي بلغ ذروته خلال عشرينيات القرن الماضي، عندما كان رجل العصابات آل كابوني يضع عمدة المدينة على جدول رواتبه.
هناك عدد قليل من السوابق التي نجحت فيها عملية تنظيف بلد بأكمله من الفساد في العصر الحديث، باستثناء بعض الدول الاستبدادية مثل سنغافورة، حيث قام رئيس الوزراء السابق لي كوان يو بالقمع بشدة في الستينيات.
كي كارد
أكبر عقبة منفردة للإصلاح في العراق هي اعتماد البلاد الساحق على النقد، الذي يصعب تتبعه وبالتالي يسهل غسيل الأموال.
إن نقل المزيد من العراقيين إلى النظام المصرفي – حيث تترك المدفوعات أثراً يمكن اقتفاؤه- كان هدفاً لدعاة مكافحة الفساد في البلاد لسنوات.
لكن الانتقال من السيولة محفوف بالمخاطر بحد ذاته، فالتقنيات الجديدة عرضة للاستحواذ أيضاً من قبل الأوليغارشية، الذين يمكنهم تحويل تلك التقنيات إلى أدوات أكثر فاعلية لغسيل الأموال.
تقدم واحدة من أكثر خطط الاختلاس وقاحة في العراق صورة شبه كاملة لهذا الخطر، حيث كان يهدف استخدام جهاز يسمى Qi Card، إلى دفع الدولة نحو المدفوعات الإلكترونية.
تم تطويره من قبل شركة تسمى البطاقة الذكية الدولية، وهو يسمح للموظفين الحكوميين والمتقاعدين باسترداد مرتباتهم الشهرية نقدًا في أي من آلاف المحطات في جميع أنحاء البلاد. إنه ابتكار مرغوب به شعبياً، فقبل ظهور بطاقة Qi Card عام 2007، كان على العمال في كثير من الأحيان الانتظار في الطابور لساعات خارج أحد البنوك الحكومية للحصول على أموالهم.
تتنافس الشركة الآن مع شركات بطاقات صغيرة أخرى، وتعلن عن نفسها عبر لوحات إعلانية ضخمة تحت شعار “انضم إلى أكبر عائلة”.
إنها تقدم نفسها كشركة تقنية محلية تساعد في إدخال العراق إلى عصر المعلومات، مع صور على موقعها على الإنترنت لعمليات التسجيل البيومترية والعملاء السعداء الذين يسددون المدفوعات النقدية، لكن ارتباطها بتوزيع رواتب موظفي الدولة منحها قوة هائلة.
عام 2019، وفقًا لتقرير صادر عن البنك المركزي، دفعت الحكومة ما يقارب 47.5 مليار دولار لموظفيها والمتقاعدين – وهو مبلغ ضخم لبلد بحجم العراق – وقد مر معظم ذلك من خلال Qi Card.
هذا يجعل الأمر أكثر جاذبية، حيث يبدو أن الشركة تعمل دون إشراف تقريبًا، وفقًا للمسؤولين الذين تحدثت معهم والوثائق التي حصلت عليها من وزارة المالية العراقية والبنك المركزي.
لقد تجاوزت متطلبًا قانونيًا لدمج نظام الدفع الخاص بها مع شبكة الدفع الوطنية للبطاقات. وهو ماكان سيسمح للبنك المركزي بمراقبة التعاملات.
تصف الوثائق الجهود المحبطة لجعل Qi Card مسؤولة عن معاملاتها، إلى جانب شكاوى المتقاعدين العراقيين الذين يقولون إن Qi Card قد استُخدمت للاقتطاع من رواتبهم. (قال الرئيس التنفيذي لشركة Qi Card، الذي تم الوصول إليه عبر البريد الإلكتروني، إن الشركة تلتزم بجميع اللوائح ذات الصلة وأن معاملاتها تخضع للمراقبة المباشرة من قبل البنك المركزي، بالإضافة إلى مراجعتها بشكل دوري من قبل المؤسسات المستقلة).
“الفضائيون في الحشد الشعبي”
تحت هذا التعتيم على البيانات، يتم استخدام بطاقة Qi Card من قبل شخصيات الميليشيات المدعومة من إيران الذين يديرون مخطط “موظفين أشباح” (فضائيين) على نطاق واسع لسرقة مئات الملايين من الدولارات من الرواتب الحكومية، أخبرني العديد من المسؤولين الحكوميين، بما في ذلك شخص قريب من المكتب المالي للحشد. أخبرني هذا المسؤول أن الحشد سجل حوالي 70.000 جندي (فضائي) للمدفوعات الإلكترونية عبر بطاقة Qi Card. (لم يكن من الواضح ما إذا كان هذا قد تم بمعرفة مدراء Qi Card أو دون علمهم).
كان (الجنود الأشباح) نموذجاً من نماذج التمويل الذاتي لضباط كبار في الجيش والشرطة العراقية لسنوات، ولكن يبدو أن Qi Card قد سمحت بنقل هذه الخدعة إلى مستوى أعلى.
يبلغ متوسط راتب أحد أعضاء الحشد حوالي 1000 دولار شهريًا، مما سيجعل إيرادات البرنامج أكثر من 800 مليون دولار سنويًا. أخبرني المسؤول أن هذه العملية تمت بسرية تامة من قبل شخصيات قوية ذات علاقات عميقة مع إيران، بما في ذلك أبو مهدي المهندس زعيم الميليشيا الذي اغتيل في يناير مع قاسم سليماني.
تحقق Qi Card أيضًا أرباحًا هائلة من الرسوم التي تفرضها على المعاملات الإلكترونية. أخبرني مسؤول عراقي كبير آخر أن بعض هذه الأرباح يتم تقاسمها مع شخصيات بارزة أخرى تدعمها إيران.
قال لي المسؤول إن مؤسس Qi Card، وهو رجل أعمال يدعى بهاء عبد الهادي، بقي بعيداً عن النقد لسنوات من خلال إقامة علاقات تجارية مع أقوى أفراد العراق، بما في ذلك قادة الميليشيات الذين تربطهم علاقات وثيقة بإيران.
واحد منهم هو عمار الحكيم، وهو رجل دين شيعي بارز وثري سياسي.
آخر هو شبل الزيدي، الأمين العام لميليشيا تدعى كتائب الإمام علي، الذي أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات عليه في 2018 بسبب تعاملاته المالية مع الحرس الثوري وحزب الله.
صلة ثالثة مع نصر الشمري، زعيم جماعة أخرى مدعومة من إيران تسمى حزب الله النجباء. (لكن متحدثة باسم Qi Card أخبرتني أن عبد الهادي لا علاقة له بالحكيم أو الزيدي أو الشمري).
في الوقت نفسه، بذلت Qi Card جهودًا للتعبير عن نفسها للمسؤولين الأمريكيين، والتي يبدو أن بعضها قد نجح.
في أوائل عام 2018، اقترح أحد المساعدين الجدد لترامب، ماكس بريموراك، على وكالة تابعة للأمم المتحدة أن تستخدم بطاقة Qi للمعاملات، وفقًا لتقرير نشر في مايو من قبل ProPublica.
كان “بريموراك” يقوم بأعمال استشارية في ذلك الوقت لشركة Markez، وهي شركة أمريكية عراقية استأجرتها شركة Qi Card.
أفادت ProPublica أن الأمم المتحدة لم تتعاقد مع شركة Qi Card، لكن عرض “بريموراك” أثارت شكوى أخلاقية من قبل مسؤول في وزارة الخارجية. (عندما سُئل عن الشكوى، رد “بريموراك” بإرسال مذكرة تشير إلى أنه لم يتم فتح تحقيق). ومضى ليصبح مساعدًا لنائب الرئيس مايك بنس.
إن محاولات Qi Card في النفوذ إلى الأوساط الأميركية الأمريكية تذكر بأن الفساد يمكن أن يشمل أكثر بكثير من المكافآت والملاذات الضريبية.
ساعدت الأزمة المالية العالمية لعام 2008، التي كشفت عن روابط مشبوهة بين السياسيين والمضاربين، في تغذية الحركات الشعبوية التي لا تزال تزعج أوروبا والتي تسببت بانتخاب دونالد ترامب، الذي جعل الفساد وصفًا مناسبًا بشكل متزايد لحياتنا السياسية الخاصة حتى عندما كان يلفظ الكلمة بشكل عشوائي على خصومه.
مشروع صدر القناة
بعد ظهر يوم دافئ في شباط / فبراير، سافرت إلى موقع بناء في شرق بغداد يسمى صدر القناة.
إنه شريط ضيق من الأراضي الشاغرة – متوسط تقريبًا – يمتد لمسافة 15 ميلًا بين جانبي طريق سريع رئيسي على الحافة الغربية من حي مدينة الصدر الفقير، مع قناة في المنتصف.
وقد تحدثت سلطات مدينة بغداد لسنوات عن مشروع طموح لتحويل الممر إلى منطقة ترفيهية واسعة في الهواء الطلق، تشمل الملاعب الرياضية والحدائق والمطاعم والملاعب. سيتم بناء الجسور المزخرفة فوق القناة، حيث يركب الزوار ذهابًا وإيابًا على متن القوارب.
في عام 2011، وقعت حكومة المحافظة عقدًا مع ثلاث شركات إنشاءات مقابل 148 مليون دولار تقريبًا.
اليوم، الموقع عبارة عن مكب نفايات كئيب مع القليل من الدلائل على أنه تم إنفاق أي شيء عليه.
عند النزول من الطريق السريع على العشب، غاصت أقدامي بالقمامة البلاستيكية.
مشيت ذهاباً وعودة لمدة 20 دقيقة أو نحو ذلك ووجدت بعض علامات البناء فقط: ملعب أطفال جاهز رخيص يجمع الغبار، واثنين من المخابئ الخرسانية غير المكتملة، في القناة المبطنة بالخرسانة، بدت المياه نتنة.
حوار مع أحد الحيتان!
يبدو أن لا أحد يعرف بالضبط ما حدث للأموال التي ألقيت في صدر القناة، لكن تقرير هيئة النزاهة العراقية يشير إلى ملاحظات مألوفة للأسف: تأخيرات وخلافات ومحافظ سابق هرب مع أحد نوابه من البلاد بعد” مما تسبب في ضرر متعمد لأكثر من 12 مليون دولار، “معظمها، من المفترض، انتهى به الأمر في جيبه.
هناك مشاريع مثل هذه في جميع أنحاء العراق. رافعات مهجورة تصدأ، مساجد نصفية ومشاريع إسكان. العديد منها مقيد في النزاعات القانونية والسياسية.
أنفقت مليارات الدولارات على الكهرباء، ومع ذلك لا يزال العراق يعاني من انقطاع التيار الكهربائي حتى 20 ساعة في اليوم.
يستخدم العراقيون مفردة في وصف رجال الأعمال المشهورين وسماسرة النفوذ الذين ينموون ويثرون على حساب بلادهم: “الحيتان”. يقال على نطاق واسع أنهم فوق القانون. لقد تم تحذيري مرارًا، أثناء كتابة هذا المقال، بأن حياتي ستكون في خطر كبير إذا واجهت أيًا منهم بشأن أنشطته غير المشروعة. لكنني تمكنت في النهاية من التحدث إلى حوت.
لقد كان عملاق بناء عراقي وأخبرني أنه قضى سنوات في الدفع للسياسيين من أجل الحصول على عقود بقيمة ملايين الدولارات. ووصف عالمًا من صفقات الغرف الخلفية التي تشترك فيها المنافسات القاتلة، وتتحول التحالفات السياسية بسهولة وتكون العملة النهائية هي “النقد، دائمًا بالدولار، مقدمًا دائمًا”.
كان من الواضح أنه وافق على الكسب غير المشروع باعتباره أمراً واقعاً، لم يشعر بأي قلق أو ذنب حيال ذلك، كان لديه مكاتب ومنازل في بلدان متعددة، لكنه تحدث باللهجة العراقية الحزينة كرجل متواضع المستوى التعليمي.
تعرفت عليه عبر مسؤول حكومي قابله من خلال صديق. كان من المستحيل بالنسبة لي التحقق من تفاصيل القصص التي رواها. لكنها متسقة مع كل شيء سمعته من المطلعين على الحكومة والمصرفيين حول طريقة عمل الفساد على مستوى عال.
تحدثنا عبر الهاتف لمدة ساعتين تقريبًا، أخبرني عن صفقة واحدة تمكن من إدارتها، وهو مشروع بناء كبير خصصت فيه الحكومة حوالي 40 مليار دينار (حوالي 33.6 مليون دولار).
“في الواقع، أنفقت حوالي 10 مليارات دينار فقط على البناء. أما بقية المبلغ، فقد ذهب معظمه إلى الدفع للمسؤولين الحكوميين والحزبيين، إلى جانب نفقات أخرى. والباقي، حوالي خمسة مليارات دينار (4.2 مليون دولار) ، كان ربحاً صافياً”.
أعضاء مجالس المحافظات يعرضون “خدماتهم”
أخبرني أنه على مدى السنوات الست أو السبع الماضية، تم انتخاب محافظي المحافظات العراقية – الذين يتمتعون بسلطة كبيرة على العقود – بشكل حصري تقريبًا من خلال صفقات مع رجال الأعمال الذين يدفعون لأعضاء مجلس المحافظة (الذي ينتخب المحافظ) مقابل حصة من عقود المحافظة.
وقال: “أي شخص لديه المال يمكنه التلاعب بهذه الأشياء”. وقد صيغت الصفقات بشكل متقن، حيث قام نواب المحافظين الموالون للأحزاب السياسية المختلفة بتقسيم العائدات المتوقعة من العقود اتضخمة. وقال إن عقدا كبيرا يمكن أن يوفر عمولات كافية لتغطية تكاليف رشوة انتخاب المحافظ.
إن المسؤولين الحكوميين ليسوا مجرد متلقين سلبيين للرشاوى. قال لي إن أعضاء مجلس المحافظة، “يطرقون أبواب رجال الأعمال ويقولون، كيف يمكننا المساعدة؟ هل لديك شخص تريد تسقيطه؟ هل هناك مؤامرة تريد الترويج لها؟ شخص تريد إحالته إلى هيئة النزاهة؟ “هذه الفنون المظلمة تتجاوز الولاء الحزبي. المال هو كل ما يهم. وقال: “إذا كنت تريد التآمر ضد حزب الدعوة، فإن أعضاء مجلس المحافظة من هذا الحزب سيتعاونون معك” إذا دفعت لهم.
وأخبرني أنه خلف كل هذه الصفقات، تتوارى الميليشيات وتقتحم تلك الصفقات، وتأخذ حصصها من المال. وقال: “إن أي رجل أعمال أو أي مالك بنك لا تدعمه ميليشيا لن يتمكن من العمل”.
لا شيء من هذا يمثل مفاجأة للعراقيين. لقد أصبحوا متشائمين لدرجة أنهم يرون الآن حتى مختلف هيئات مكافحة الفساد في البلاد كأدوات للابتزاز والرشوة. للأسف، هذه ليست تهمة لا أساس لها من الصحة تماما.
عندما كنت في بغداد، ذهبت لرؤية مشعان الجبوري، وهو رجل أعمال وسياسي مشهور بتصريحاته ضد الفساد.
الجبوري هو رجل كبير عمره 63 عاما وله رأس أصلع وعيون بارزة وأصبح أيقونة لصراع بلاده مع الفساد.
كان رجل أعمال في الثمانينيات وهرب من البلاد في نهاية العقد للانضمام إلى المعارضة. في عام 2006، اضطر الجبوري إلى الفرار من العراق مرة أخرى بعد اتهامه بمخطط ابتزاز متقن يتضمن هجمات على أنابيب النفط.
لكنه استعاد وضعه، وانتخب في البرلمان وانضم إلى لجنة مكافحة الفساد البرلمانية.
قال لي الجبوري بينما كنا نجلس في منزل يمتلكه في حي الحارثية: “الكل متورط، متدين، علماني، في القرى، في المدن، من كبار القادة إلى الحمالين، أصبحت ثقافة، إنه شيء يفخر به الناس”.
في عام 2016، تصدّر الجبوري عناوين الصحف في جميع أنحاء العالم بإخبار أحد مراسلي الجارديان بأنه فاسد أيضًا. أخذ رشوة بقيمة 5 ملايين دولار من رجل أراد منه أن يتخلى عن تحقيق في الاحتيال. وقال للصحيفة “على الأقل أنا صريح بشأن ذلك”.
عندما رأيته في فبراير، تخلى الجبوري عن اعترافه، مدعيا أنه اخترع قصة الرشوة البالغة 5 ملايين دولار. حدقت به بعدم ثقة.
رد علي: “كنت بحاجة إلى هز المجتمع”. وأضاف أن مثل هذه الأكاذيب لم تعد ضرورية الآن، “إن الاحتجاجات الحالية تفعل ذلك”.
تظاهرات تشرين
بالنسبة لأولئك الذين يراقبون من قارة أخرى، كانت التظاهرات التي انتشرت في مدن العراق أكتوبر الماضي، تبدو وكأنها انفجار مفاجئ للغضب.
في الواقع، كان هذا الغضب يغلي لسنوات في المدن والبلدات في جميع أنحاء البلاد. أحد قادة الاحتجاجات الذين التقيت بهم كان موسى البالغ من العمر 28 عامًا، ترعرع في أسرة زراعية فقيرة في مدينة السماوة جنوب العراق.
(طالبني ألا أستخدم اسمه الأخير لأنه لا يزال مختبئًا ويخشى التداعيات) مثل العديد من الآخرين الذين تحدثت إليهم.
اصطدم موسى مرارًا بوحشية اقتصاد العصابات في العراق، حيث تكون المؤهلات الحقيقية غالبًا غير مهمة، وتأتي معظم عروض العمل بسعر رشوة كبير، يعادل راتب عدة أشهر.
بعد أن أمضى خمس سنوات في الحصول على درجة متقدمة في العلوم البيطرية، لم يتمكن من العثور على وظيفة بيطرية، باستثناءعقد لمدة عام واحد يستلم لقاءه 200 دولار شهريًا، تم فصله منه بعد أن رفض عرض رئيسه بالانضمام إلى ميليشيا.
لم يكن لديه خيار سوى الحصول على وظيفة في مديرية الكهرباء، التي كانت تدفع 375 دولارًا في الشهر.
بدأ تمرد موسى قبل أكثر من عامين، عندما أخبرني أنه وجد وثائق تشير إلى أن مديره في وزارة الكهرباء أصبح ثريًا من خلال الحصول على رشاوى على العقود الحكومية.
ساعد موسى في تنظيم احتجاجات تطالب بإقالة رئيسه. على مدار العام التالي، بدأ في إجراء اتصالات مع شبان آخرين في جميع أنحاء العراق لديهم تجارب مماثلة ويبادلونه الهموم.
يعتقد الكثير منهم أن بلادهم أصبحت تابعة لإيران والبلطجية المسلحين المحليين.
بحلول صيف عام 2019، كانت مجموعات من شبكات الاحتجاج المحلية تتحول إلى شيء أكبر. كان موسى من بين المنظمين الذين دعوا إلى ثورة وطنية تبدأ في الأول من أكتوبر.
بعد أسبوع، وجد نفسه جالسًا على أريكة أمام رئيس الوزراء عادل عبد المهدي. خارج أبواب الوزارة الخشبية العالية، كانت البلاد مشتعلة. وقتل أكثر من 100 شخص في اشتباكات مع الشرطة، وكان الاقتصاد في حالة جمود.
كان عبد المهدي يائساً من استعادة النظام، ودعا موسى وثمانية قادة احتجاج آخرين للاستماع إليهم. أعطاه موسى قصاصة ورقية تحدد مطالب المحتجين، قرأها بسرعة وصمت. كانت مكافحة الفساد إحدى المطالب، بعد حوار قصير، قال أحد مستشاري عبد المهدي: “أعطنا قائمة بأكثر الشخصيات فساداً”.
قال لي موسى إنه كان محتاراً وغاضبًا بسبب الطلب، كان يعلم بالفعل أنه مطلوب للقبض عليه من قبل الأجهزة الأمنية.
بعد ذلك بوقت قصير، سيُرغم على الاختباء، مثل العديد من قادة الاحتجاج الآخرين.
كان يعلم أيضًا أن بعض الشخصيات الأكثر فسادًا في البلاد قد تم الترحيب بهم على الأريكة نفسها.
أجاب: “هذه ليست وظيفتنا، هذه وظيفتك”. توترت الأجواء، وانتهى الاجتماع بعد 10 دقائق فقط.
أعلن رئيس الوزراء بعد فترة وجيزة أن الحركة الاحتجاجية كانت بلا قيادة. الشيء نفسه ربما قيل عن حكومة عبد المهدي المتعثرة.
بعد أقل من شهرين، من مواجهة احتجاجات أوسع نطاقا وارتفاع حصيلة القتلى، أعلن عبدالمهدي استقالته.
الميليشيات في وضع الدفاع للمرة الأولى
لقد فاجأ عمق حركة الاحتجاج وغضبه الجميع. كانت الميليشيات في وضعية الدفاع للمرة الأولى مرة منذ سنوات، حيث سخر منها بعض المتظاهرين ووصفوها بالعمالة لإيران. حتى أن بعض أعضاء الحشد الشعبي شاركوا في الحراك.
وصف لي أحدهم مكالمة هاتفية متوترة أخبر فيها رئيسه السابق: “إنها ثورة ضدك”.
في كانون الأول / ديسمبر، أقر البرلمان العراقي قانونًا تاريخيًا يسمح لهيئة النزاهة في البلاد بالتحقق من دخل الموظف العام مقابل أصوله وفرض غرامات كبيرة أو حتى السجن إذا لم يتمكن من إظهار مصدر شرعي للحصول على المال.
كان هناك طلب جديد على المساءلة يتسرب إلى جميع أنواع الأماكن غير المتوقعة. في بغداد ، قابلت محامية شابة تدعى مروة عبد الرضا، أخرجت هاتفها الخلوي وعرضت لي وثائق عن فضيحة صغيرة غريبة في نقابة المحامين العراقيين، والتي قدمت نفقات عالية للغاية لبناء حمام سباحة.
تم الكشف عن الاحتيال قبل يوم واحد فقط، قبل أن يتاح لأي من المحامين فرصة ارتداء ثوب السباحة. وقالت: “في الماضي، كان هناك الكثير من الإنفاق ولا شكاوى”. “الآن، المحامون يتحدثون بصراحة.”
ساعدت روح الحركة الاحتجاجية التي لا هوادة فيها في إبقائها على قيد الحياة – على الأقل حتى تفشي الوباء – لكن تأثيرها أصبح محدوداً مع مرور أشهر، رفض المتظاهرون بشدة ترشيح أي شخص للمنصب. وبدا أنهم عالقون في حلقة مفرغة.
أرادوا تغيير النظام، لكن أي شخص يقترب من هذا النظام، حتى نيابة عنهم، يصبح مشبوهًا على الفور.
أبطالهم الوحيدون هم رفاقهم الشهداء، الذين تظهر وجوههم في الكتابة على الجدران والملصقات في جميع أنحاء ساحات الاحتجاج.
في قلب حركة الاحتجاج في العراق، هناك صراع من أجل التحرر من تاريخ البلاد المعذّب. يفهم الكثير من الجيل الأصغر سنًا أن العراق – مثل العديد من المستعمرات السابقة الأخرى عبر إفريقيا وآسيا – رفع في كثير من الأحيان رجاله العسكريين ورجال الدين إلى آلهة، ليتحولوا إلى وحوش. وهذا أحد أسباب رفض المتظاهرين تفويض أي زعيم لتمثيلهم.
إنهم يعرفون أن ما يهم الآن هو العمل الدؤوب لبناء المؤسسات، وليس فكرة وجود منقذين. لكنهم أيضًا توّاقون لشخصيات عامة رائعة. مثل أي شخص آخر، يريدون أن يكون لهم مصدر إلهام وقيادة.
عبدالوهاب الساعدي
ظهر أحد القادة في وقت مبكر من الاحتجاجات، عبد الوهاب الساعدي هو أحد كبار مسؤولي مكافحة الإرهاب في العراق.
إنه محبوب في جميع أنحاء البلاد ليس فقط بسبب سجله العسكري – فقد قاد سلسلة من المعارك الحاسمة ضد داعش – ولكن أيضًا لأنه، وحده تقريبًا بين الضباط العراقيين، ليس متحزباً، ويقال إنه غير متورط بالفساد والرشاوى.
في سبتمبر الماضي، قام رئيس الوزراء العراقي بتهميشه فجأة. سرعان ما اعتبره المحتجون ضحية تم التخلص منه لأنه لم ينخرط في يلعب اللعبة. (كان هذا صحيحًا جزئيًا، على الرغم من أن التنافسات بين الفصائل لعبت دورًا أيضًا).
بدأ المحتجون بحمل صور الساعدي وهم يرددون اسمه. وطالب البعض بترشيح الساعدي خلفا لعبد المهدي رئيسا للوزراء.
كان رد فعل الساعدي مثيراً، قال إنه رجل عسكري غير مؤهل لشغل منصب سياسي. أصيب بعض المتظاهرين بخيبة أمل، لكن البعض آخرين كانوا مسرورين، حيث اعتبروا تخليه إشارة إلى رفعته.
الساعدي يبلغ من العمر 57 عامًا ، وله ملامح نحيفة، وله جو من الرصانة المنعزلة وشعر رمادي. على الرغم من كونه شيعياً، إلا أن أهالي الموصل – وهم أغلبية سنية – يعتبرونه المحرر من داعش، وفي العام الماضي أقيم تمثال له هناك. (قامت الحكومة، -التي شعرت أنها مهددة- بإزالة التمثال قبل أن تتم إزاحة الستار عنه).
عندما التقيت به في فبراير، بدا الساعدي مستمتعاً بشكل اعتيادي بالاهتمام الذي كان يحظى به.
أخبرني عن سلسلة من المكالمات الهاتفية التي تلقاها من أصحاب النفوذ السياسي، وجميعهم يأملون في تجنيده أو الحصول على تأييده. قال باستخفاف وهو يسحب سيجارة: “يريد رئيس الوزراء أن يوظفني لكسب الرأي العام”.
بدا الساعدي غير مرتاح في الحديث عن نفسه. لديه نوع من التواضع الصارم، وكثيرا ما تكون يداه محشورتان في جيوبه، ونظرته ثابتة كما لو كان يقيم بهدوء مناورة ميدانية. بالنسبة لأي شخص معتاد على أخلاق الشخصيات السياسية العراقية، يشكل الساعدي نقطة فارقة.
وحيث أنهم غالبًا ما يكونون ممتلئين بالحيوية بالثراء، فهو هزيل ومتذمر.
غالبًا ما يمتلكون الساسة العراقيون منازل في لندن وعمان؛ لكن الساعدي يعيش في شقة في بغداد.
ليس لدي دليل على أن الساعدي لم يتورط بالفساد من قبل. ولكن هناك الكثير من الناس في العراق الذين يرغبون في إحراجه، ولم تظهر أي أدلة مساومة.
إنه غير فاسد لدرجة أنه عندما انضم ابنه إلى الجيش، رفض استخدام منصبه الخاص لمساعدة الصبي بأي شكل من الأشكال – وهو مستوى من النزاهة الشخصية التي اعتبرها بعض زملائه غير طبيعية.
عندما سألته عن ذلك، أخبرني أن والده توفي وهو صغير، وأعدم صدام حسين شقيقه الأكبر، واضطر إلى شق طريقه الخاص، أراد أن يمر ابنه بالتجربة ذاتها، قال لي الساعدي: “قلت له، عليك الاعتماد على نفسك، ولا علاقة لي بذلك”. “لم أساعده أبداً في الرتبة والعطلات والامتيازات”.
ذات مساء يوم الجمعة، التقيت الساعدي في مقهى يدعى رضا علوان، في حي من الطبقة المتوسطة. جلسنا على مائدة في الهواء الطلق، محاطة بمسودات دافئة من القهوة والهيل والتبغ المنكه. لديه سلوك قاسٍ وصامت، لكنه استرخى قليلاً عندما تحدثنا عن السياسة والتاريخ، مع انقطاع متكرر من الزبائن الذين أرادوا مصافحة أو صورة شخصية مع بطل الموصل.
منحهم الساعدي ابتسامة خجولة، وعندما سألوه عما إذا كان سيلعب دورًا في الحكومة الجديدة، كان يلوح لهم بعبارة “إن شاء الله” غير الملزمة. (بعد لقائنا، أعاد رئيس الوزراء العراقي الجديد مصطفى الكاظمي ترقية الساعدي).
ثم حاولنا مغادرة المقهى. وبمجرد وقوفه، تعرف عليه الناس في الشارع، وكان محاطًا بحشد كبير من المعجبين. صبر على الصور الشخصية وصافح. تباطأت السيارات للحصول على نظرة. “مرحبًا، انظر، إنه الساعدي!” سمعت شخصاً يصرخ، بدأت امرأة بالهتاف،. كان حراسه الشخصيون يبدون متوترين، لكن لم يكن بإمكانهم فعل شيء. الكل أراد لحظة مع الساعدي.
بعد 15 دقيقة، كان ما يزال على بعد أمتار قليلة من المقهى، وكان الشارع غير سالك. بدأ رجل في منتصف العمر بارتجال أهزوجة عن الساعدي ودوره في إنقاذ العراق من داعش، صفق المتفرجون على وسعدوا بها. ركض سائق تاكسي شاب يرتدي جلابية سوداء، وشق طريقه وسط الحشد وبدأ يخبر الساعدي أن شقيقه قتل في ساحة الاحتجاج في بغداد. وشكر الساعدي على كل ما فعله.
صعد جندي يرتدي خوذة وسترة واقية من الرصاص وبدأ يتوسل الساعدي ليصبح وزير الدفاع المقبل. ثم دخل ضابط شرطة قائلاً: “نريده وزيراً للداخلية”.
وقفت في الظلام، تأثرت بمشاهدة تلك الوجوه الطموحة المليئة بالأمل. كل ما يطالبون به هو أمور مسلّم بها، على الأقل في الوقت الحالي: موظفون صادقون نسبيًا، شوارع نظيفة، وضباط شرطة لا يطلبون الرشاوى، إنهم يريدون دولة.
——–
روبرت ف. وورث، كاتب وصحفي أميركي، غطى النزاعات حول العالم، بما في ذلك في كوسوفو والعراق وأفغانستان.