شاهد العالم بأجمعه برنامج «رموز» الذي بثّته قناة «الجزيرة» عن قاسم سليماني، في محاولة منها أن تغرس له صورة البطل الخالد في وجدان المشاهد العربي العادي وفي قلوب الناشئة، وتنوّعت ردود الأفعال المعترضة على تصرّف القناة المذكورة؛ وهذا جعلَها تحذف الحلقة من وسائطها.

وإذا كانت الدقة غابت بعض الشيء عن بعض وسائل الإعلام في شأن حقيقة الجنرال قاسم سليماني، فإن البحوث والدراسات الموثقة اضطلعت بتلك المسؤولية، وأدّتها على الوجه المطلوب، وفيما يأتي نعرض عدداً من تلك الدراسات.

الجنرال الإيراني قاسم سليماني.. دوره التخريبي في البلاد العربية

صدرت هذه الدراسة المحكّمة في العدد الأول من مجلة مكاشفات الصادر في مارس عام 2017م، التي تصدر في الرياض، وهي مجلة فصلية تُعنى بشؤون المملكة والعلاقات الدولية. وأعد البحث الدكتور عائض بن محمد آل ربيع، وأحال المعلومات الواردة فيه على مصادرها الأصلية باللغة الفارسية.

وبدأ الدكتور عائض دراسته بالتعريف بمولد قاسم سليماني في مدينة رابر، التابعة لمحافظة كرمان، جنوب شرق إيران عام 1955م، وعمله في مهنة البناء، ثم التحاقه بقوات التعبئة (الباسيج) التابعة الحرث الثوري، وقتاله مع فيلق «ثأر الله»، ومشاركته في معارك مثل: «الفجر8» (فتح الفاو كما يسميها الإيرانيون)، و «كربلاء 4و5»، و»شلمجة»، وتدرجه في الرتب العسكرية حتى قلّده المرشد الإيراني علي خامنئي رتبة «جنرال» عام 1998م، ثم توليه قيادة «فيلق القدس» الذي تتمثل مهمته الرئيسة في تحقيق مبدأ تصدير الثورة الإيرانية، والعمليات الخاصة خارج حدودها.

وانتقلت الدراسة بعدها إلى توضيح علاقة سليماني بقداة النظام الإيراني، وشدة قربه من خامنئي، وأن نفوذه العسكري مكّنه مبكّراً من معارضة الجنرال محسن رضائي المقرب من رفسنجاني في إحدى المعارك مع العراق.

بعد ذلك يتجه الحديث إلى دور سليماني القمعي وعلاقته بتجارة المخدرات، وتوضيح أن المهمة الأولى له كانت إخماد انتفاضة أكراد إيران في مهاباد، التي اندلعت بعد شهرين من قيام الثورة الإيرانية عام 1980م، وراح ضحية هذه العملية عشرة آلاف كردي، وتلك هي بداية قاسم سليماني التي أسست له رصيداً طيباً عند القيادة الإيرانية، ثم ارتفع هذا الرصيد بعد إسهامه في قمع المظاهرات الطلابية في جامعة طهران عام 1999م، وإدارته مهمة ظاهرها محاربة تهريب المخدرات وتجارها في الحدود الشرقية لإيران، ثم سيطرته عليها واحتكاره إياها وتوزيعها، ثم توليه الإشراف على إنتاج المخدرات ونقلها من أفغانستان إلى بقية دول المنطقة وأفريقيا وأوربا وأمريكا.

وفي مرحلة الاحتلال الأمريكي للعراق سعى سليماني إلى تحقيق إستراتيجيات إيران المبنية على اكتساب القوة السياسية بالتحالف بين الشيعة والأكراد، وإخراج أمريكا، وإبعاد العلمانيين والشيعة المعتدلين عن الساحة السياسية، وقتل المجموعات السنية وتشريدهم وإقصائهم. بعد ذلك صُنعت لقاسم سليماني «أسطورة» مفادها أنه هو من ينقذ العراق من التنظيمات الإرهابية، مثل «داعش»، وأنه هو صمام الأمان و»السوبرمان» المنقذ الدائم للحكومتين العراقية والسورية وللميليشيات الطائفية التابعة لإيران في هذين البلدين ولحزب الله، من جميع المخاطر والتهديدات، على جميع الأراضي العراقية والسورية واللبنانية، وأنه هو حامل لواء تحرير «القدس»، وهو من سينقذها، وأن الطريق إلى «القدس» يمر عبر شعار أساسي هو: «محاربة الإرهاب»، لكنه في حقيقته يقوم على عنصرين أساسيين هما: نصرة الأنظمة والأحزاب والميليشيات الطائفية، وتحطيم المكون السني وإضعافه في العراق وسورية ولبنان واليمن. وعزز الإعلام الإيراني هذه «الأسطورة»، وأسهم الإعلام العربي «المغرض» أو «الساذج»، ثم الإعلام الأمريكي والبريطاني في تضخيمها وترسيخها عبر وسائل الإعلام المرئية والتقارير الأمنية ووسائل التواصل الاجتماعي.

وتحت تأثير هذه «الأساطير» أصبح قاسم سليماني الأب الروحي العسكري بلا منازع لجميع ذوي الميول الطائفية الصفوية أو التوجهات المعادية لاستقرار البلدان العربية في جميع أنحاء العالم، واندرجت تحت قيادته وتوجيهه قيادات وفصائل وميليشيات طائفية ومتطرفة في جميع البلدان التي تنتشر فيها الحروب والقلاقل، ومنهم: واثق البطاط زعيم حزب الله العراقي وقائد جيش المختار، وهادي العامري قائد منظمة بدر، وعمار الحكيم رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، وأخيراً: جماعات الإخوان المسلمين وجميع فروعها في العالم العربي والإسلامي، خصوصاً منظمة «حماس» في فلسطين.

ومن أهم ما رصدته هذه الدراسة أن سليماني لولا الدعم الذي وجده من جميع الميليشيات الطائفية ورموز الصفوية في المنطقة لما استطاع تجسيد مشروعه على الأرض؛ فقد دعمه «حزب الله اللبناني»، وسلم إليه «الحشد الشعبي» العراقي مقاليد أموره، وسوّدته منظّمة «بدر» العراقية، وكان يتلقى الدعم المباشر من رؤوس السياسيين والتجار الذين يدورون في فلَك خامنئي وأنظمة الاستخبارات التي تسعى إلى تفكيك العالم العربي.

ووثّق الباحث اعتراف قاسم سليماني بنفسه بأن الدول العربية وغير العربية المنكوبة اليوم كان له دور كبير في حصول ما حل بها من قتل وخراب ودمار، ففي رسالة من سليماني إلى الجنرال الأمريكي ديفيد بترايوس رئيس CIA قال له: «عزيزي بترايوس، يجب أن تعلموا أنني من أتحكم في سياسات إيران في العراق ولبنان وغزة وأفغانستان، وفي الحقيقة إن السفير في بغداد من أعضاء فيلق القدس، والشخص الذي سيخلفه سيكون مثله».

سيناريوهات المواجهة بعد مقتل سليماني

أعد الأستاذ عبدالرحمن مرشود هذا التقرير، وسرد فيه تسلسل الأحداث منذ يوم 27 من ديسمبر عام 2019م، وشنَّ الفصائلِ العراقية الموالية لإيران هجوماً على قاعدة عسكرية في كركوك وقتلها مدنياً أمريكياً وإصابة بعض العسكريين، ثم هجومَ جموع مرتبطة بالفصائل العراقية التابعة لطهران الحاملين أعلام الحشد الشعبي وحزب الله العراقي على سفارة أمريكا في بغداد، وإضرامَ النار فيها، وتأييدَ الرموز العراقيين الطائفيين لذلك علناً على وسائل الإعلام، وردّ أمريكا على ذلك في 02 يناير عام 2020م بقتل الجنرال قام سليماني، وما تلا ذلك في 07 يناير من إطلاق إيران صواريخ بعلى قاعدة «عين الأسد» غرب العراق، وقاعدة أخرى في أربيل، وإعلانها مقتل عشرات الأمريكيين من جراء ذلك، على حين نفت الولايات المتحدة مقتل أيٍّ من جنودها.

وتوقع مرشود انحصار ردود الأفعال المتوقعة من إيران في خيارات محدودة، الدبلوماسية والتهدئة، أو الرد الحقيقي الذي لم يأت بعد، أو الرد بواسطة أذرع إيران الإقليمية، أو تصفية المدن الشيعية العراقية من المتظاهرين من طريق العنف، أو الانتقام بواسطة الذراع الحوثي لإيران في اليمن، أو الاتجاه إلى محاولة اختطاف رهائن إيرانيين والضغط بهم على الولايات المتحدة للتفاهم معها. أما أمريكا فتوقّع التقرير أنها لن تبادر إلى صدام عسكري غير ضروري، خصوصاً أن المؤشرات تشي بأنها ماضية في فرض مزيد من العقوبات الاقتصادية على إيران، غير أن التقرير نبّه على أن الضغط المفرض على إيران قد يدفعها إلى اتخاذ قرار متهوّر تتحمل المنطقة كلفته.

قاسم سليماني.. دوره التخريبي وأقنعته المتعددة

هذه دراسة موسّعة أعدها الدكتور حسين بن محمد الحسن لمركز البحوث والتواصل المعرفي، عن شخصية قاسم سليماني والأطوار المختلفة التي مر بها في مسيرته منذ أن كان عامل بناء حتى أصبح أهم رمز معنوي لتصدير الثورة الإيرانية إلى الخارج، وإسهامه في تخريب العراق وسورية ولبنان، ثم مقتله، وردود الأفعال عليه.

وشملت الدراسة توضيح أن الرموز السياسيين في العراق من شتى الطوائف، مثل: مقتدى الصدر، يصفونه بأنه هو الحاكم الفعلي للعراق، ويقر بذلك موفق الربيعي السياسي العراقي، ومستشار الأمن الوطني العراقي السابق، بقوله: «سليماني له القول الفصل في الملف العراقي».

وعرضت دراسة الدكتور الحسن أبرز ردود الفعل في العالم على مقتل سليماني، بدءاً من إعلان رئيس الحرس الثوري الإيراني أنه سيثأر لسليماني في شتى أنحاء العالم، مروراً بتأكيد رئيس الجمهورية العراقية آنذاك برهم صالح إدانة قتله سليماني، لكنه دعا إلى «إعلاء صوت العقل والمنطق، ومحاولة الآثار المترتبة». وأما مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري فقد وصف استهداف الجنرال الإيراني بأنه «استهداف للجهاد والمعارضة والروح الثورية»، وشدّدت ميليشيات الحوثي بلسان محمد البخيتي المتحدث باسمها على أن أمريكا «ستندم على هذه العملية». وعدّتها وزارة خارجية روسيا «خطوة متهوّرة». وتبعتها على ذلك الخارجية السورية، فقالت إن استهداف سليماني «تصعيد كبير»، وتوعّد الأمين العام لـ»حزب الله» اللبناني حسن نصر الله، بأن «العقاب العادل سوف يستهدف الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة»، إضافة إلى تهديدات زينب ابنة قاسم بأن زعيم حركة «حماس» إسماعيل هنية وغيره من حلفاء أبيها «سيوصلون الرسالة المناسبة إلى ترمب».

1
2

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

صحيفة العراقوكالة الاستقلال      |  العرب في اوروبا  |  IEGYPT  | سعر الدولار في بغداد