منذ بداية التأسيس للدول والحكومات والممالك، تم تسجيل أحداث كانت بمثابة محطات مفصلية في تاريخ الشعوب والأوطان، هذا التاريخ الذي يسجل في صفحاته ثورات وانتفاضات أطاحت بأنظمة استمرت لعقود طويلة من الزمن، وغرّبت حكاما وملوكا ورؤساء، وجعلتهم أمام خيار الفرار هربا من غضب شعوبهم وعدالة التاريخ.
حسب باحثين في الشؤون السياسية في إحدى الجامعات الأمريكية، فإنه بين عامي 1946 و2012 أجبر أكثر من 180 رئيس دولة على مغادرة أوطانهم، منهم من كان محظوظا باختيار منفاه، ومنهم من بقي لساعات في الجو ينتظر الهبوط في إحدى العواصم، ومنهم من لم يكن محظوظا كفاية للنجاة بجلده من الانتقام الشعبي. وبفرار الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، فجر اليوم الأحد إلى موسكو التي منحت له اللجوء، بعد الإطاحة بنظامه من قبل القوات المسلحة المعارضة، ارتأينا أن نستعرض أشهر وأبرز حالات الهروب لحكام وملوك ضاقت بهم أوطانهم وصدور شعوبهم.
لويس السادس عشر وزوجته أنطوانيت
لعلّ قصة هروب الملك الفرنسي لويس السادس عشر، وزوجته ماري أنطوانيت، من أهم قصص الهروب عبر التاريخ، فقد كان فرار الملكين في ليلة 20 إلى 21 جوان 1791 حلقة مهمة ومنعرج حاسم في الثورة الفرنسية، المناهضة للنظام الملكي الاستبدادي.
لقد حاول الملك لويس السادس عشر وزوجته ماري وعائلتهما المباشرة الفرار من قصر فرساي في باريس من أجل بدء ثورة مضادة على رأس القوات الموالية بقيادة الضباط الملكيين المتمركزين في مونتميدي قرب الحدود، لكن وبمجرد وصولهم إلى بلدة فارين الصغيرة حتى قبض عليهم بعد التعرف عليهم في محطتهم السابقة في سانت-مينهولد، ولأن العداء الشعبي تجاه الملكية الفرنسية ورموزها، أكثر وضوحا في ظل الظلم والظلمات التي كانت تعيشها فرنسا في كنفها، اتُّهم الملك لويس السادس عشر بالخيانة لمحاولته الفرار، ما أدى في النهاية إلى إعدامه عام 1793.
وقد فشل هروب الملك بسبب سلسلة من الصدف السيئة والتأخيرات وسوء التفسير والأحكام الخاطئة التي حدث معظمها بسبب تردد الملك في اتخاذ قرار الهروب، ولكن بالرغم من ذلك نجح شقيقه في الهرب في نفس الليلة، الأخير الذي سلك وجهة أخرى، وقضى مرحلة الثورة في المنفى، قبل أن يعود ويتوّج ملكا على فرنسا.. هو الملك لويس الثامن عشر.
الشاه الإيراني رضا بهلوي
كان محمد رضا بهلوي الابن الأكبر لرضا بهلوي الذي حكم إيران في الفترة ما بين (1925-1941) آخر شاه يحكم إيران قبل قيام الثورة الإسلامية عام 1979، واستمر حكمه من 1941 إلى 1979 وكان يلقب بـ (شاهن شاه) أي ملك الملوك.
ففي 16 جانفي 1979 دفعت تظاهرات شعبية بالشاه بهلوي إلى الفرار إلى مصر لينتهي بذلك النظام الامبراطوري، فاتحا الطريق أمام عودة آية الله الخميني في الفاتح من فيفري من ذات السنة، وما هي إلا عشرة أيام حتى انتصرت الثورة الإسلامية، ليعيّن الخميني زعيما سياسيا ودينيا لإيران مدى الحياة.
غادر الشاه بهلوي وزوجته الإمبراطورة فرح أولا إلى أسوان في مصر، ثم أمضى فترات وجيزة لاحقا في المغرب وجزر الباهاماس والمكسيك والولايات المتحدة وبنما، قبل أن يموت بسبب إصابته بالسرطان في القاهرة في 27 جويلية عام 1980.
وبمجرد وجود الشاه المخلوع في الولايات المتحدة لتلقي العلاج الطبي أدى إلى اقتحام السفارة الأمريكية في طهران، وبرزت أزمة الرهائن المعروفة، حيث تم احتجاز الدبلوماسيين الأمريكيين لأكثر من 400 يوم، قبل تحريريهم بموجب “إعلان الجزائر”، الأخيرة التي تدخلت بخيرة ديبلوماسييها، وعلى رأسهم وزير الخارجية الأسبق الراحل محمد الصديق بن يحي، وتوجت جهود الجزائر بتحرير الرهائن بالعاصمة الإيرانية طهران.
عيدي أمين دادا
كان عيدي أمين قائدا عسكريا استولى على السلطة في أوغندا في عام 1971، ولبقية ذلك العقد أخضع أمين البلاد لدكتاتورية وحشية اتسمت بالمذابح وطرد جميع سكان البلاد الآسيويين.
ولكن على الرغم من ذلك تمكن من إيجاد طريق للفرار عندما أطاحت به القوات التنزانية والأوغنديون المنفيون في عام 1979، وهنا تدخلت المملكة العربية السعودية لإيواء الزعيم المسلم، على الرغم من الاتهامات بأنه أشرف على مقتل ما يصل إلى 400 ألف أوغندي خلال فترة وجوده في السلطة. عاش الزعيم الإفريقي السابق في رفاهية في المملكة حتى وفاته عام 2003.
بيبي دوك
كان جون كلود دوفالييه، المعروف باسم “بيبي دوك” الرئيس الاسبق لدولة هاايتي في الـ 19 عاما من عمره عندما ورث لقب الرئيس مدى الحياة عن والده فرانسوا أو “بابا دوك”، الذي كان يحكم هايتي منذ عام 1957. وكما والده اعتمد بيبي دوك على ميليشيا وحشية تعرف باسم “تونتونز ماكوتس” Tontons Macoutes للسيطرة على البلاد، ويقدر أنهم قتلوا ما بين 20 ألف و30 ألف هاييتي خلال حكم عائلة دوفالييه، واتهما بسرقة نحو 300 مليون دولار.
وبعد إجباره على التنحي خلال انتفاضة شعبية في عام 1986، أمضى 25 عاما في المنفى، وكانت البداية في جنوب فرنسا، لكن تم تجميد نحو ستة ملايين دولار كان يحتفظ بها في حسابات بنكية سويسرية في عام 1986، وخسر معظم ثروته بعد طلاقه المرير في عام 1993. في السنوات الأخيرة من منفاه، اعتمد دوفالييه على الدعم المالي من أتباعه، ليعيش في شقة صغيرة في باريس، قبل أن يسمح له بالعودة في 2011 للعيش في إحدى ضواحي بورت أو برنس، وكان يتجول بحرية وكما يحلو له في العاصمة حتى وفاته بنوبة قلبية في عام 2014.
“بن علي هرب..”
تربع الرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي على كرسي الرئاسة لمدة 23 سنة، قبل سقوط نظامه عام 2011، على أعقاب أولى ثورات الربيع العربي المشتعل فتيلها في البلاد بعد حادثة البوعزيزي، التي أذنت لموجة غير مسبوقة من الاحتجاجات الشعبية.
ولعلّ المثير في حادثة فرار بن علي وزوجته ليلى الطرابلسي، هو خروج أحد المتظاهرين في وقت متأخر من الليل ليصرخ بين شوارع تونس الرئيسية “بن علي هرب.. بن علي هرب”، ثم خبر بقائه لساعات طويلة على متن طائرته ينتظر الإذن للهبوط في واحدة من العواصم، إلى غاية أخذه الإذن من السلطات السعودية للهبوط في جدة، أين استقر وعائلته إلى غاية وفاته.
وإنه لجدير بالذكر، أنه وبعد ستة أشهر من خلع بن علي، أدانته محكمة تونسية غيابيا هو وزوجته بتهمة الاختلاس وإساءة استخدام الأموال العامة، وحكم عليهما بالسجن 35 عاما.
وفي عام 2012، حكمت عليه محكمة منفصلة غيابيا بالسجن المؤبد لقتله متظاهرين.
معمر القذافي على عكس الملوك الذين آثروا الفرار إلى برّ الأمان، رفض الرئيس الليبي الراحل معمّر القذافي، التوصيات العديدة للذهاب إلى المنفى كوسيلة لوقف الأعمال العدائية التي تفاقمت مع امتداد شرارة ثورة الربيع العربي إلى البلاد في 2011.
وبدلا من ذلك، اختار القذافي القتال حتى الموت، ليقتل الأخير في النهاية على يد حشد في مسقط رأسه في مدينة سرت.
إن عدم هروب القذافي في ذلك الوقت، أرجعه المتابعين للشأن الليبي لعدم قدرة الأخير على إيجاد ملاذ آمن له ولعائلته أمام العجز العربي في ظل امتداد الثورات الشعبية في بلد تلو الآخر، ورفض دول أخرى قبوله إما لداعي المصلحة أو تحت ضغط القوى الإقليمية والدولية التي كانت سببا مباشرا في الأحداث الليبية الدامية التي تستمر تداعياتها إلى يومنا هذا.