1 مَنْ الذي أنهى «داعش»؟
محمد السبتي الراي الكويتية
لا أي خطاب للبغدادي ولا لأحد من أمراء الولايات المعينين من قبل «أمير المؤمنين»، لا بيانات صحافية تنتشر في مواقع «النت» كما تنتشر النار في الهشيم تهدد وتوعد بأن «الدولة» باقية وتتمدد، لا حفلات إعدام مصورة بأحدث الطرق الإخراجية، لا فيديوهات لأفراد من «داعش» تنبئ أنهم ما زالوا فاعلين في كثير من الدول، فجأة انتهى أو غاب كل هذا أو أغلبه ولم يتبق من «الدولة» إلا بعض العمليات التي تقوم بها الذئاب المنفردة والذين ربما لا ينتمون تنظيميا ل «داعش» ولعل كل ما يجمعهم هو الفكر لا التنظيم.
أين اختفى كل هذا الهرج والمرج- الذي ملأ أسماع العالم في وقت سابق وعجز العالم كله – حتى عن مجرد إيقافه؟ قبل أيام تم الإعلان رسميا في العراق عن هزيمة تنظيم «داعش» وطرده من كل المناطق التي لا أحد يعلم كيف سيطر عليها، لكن لم يشاهد أحد أي عملية لانهزام هذا التنظيم ولم يتم أسر أي فرد من أفراده ولم يتم تصوير أي قتيل له، ولم يتم العثور على أي من مخلفات هذا التنظيم… أوراق… مركبات… مدرعات… مستندات… أي شيء يدل على أن «داعش» مرت من هنا! كل هذا لم يحدث أبدا… حتى في سورية – التي يقال إن أفراد «داعش» هربوا إليها وأنهم كانوا يسيطرون على أجزاء كبيرة منها – لم يعد أحد يسمع عن هذا التنظيم وكأنه لم يكن يوما يرعب العالم أجمع.
عندما ظهر هذا التنظيم وفجأة بدأ في الانتشار غير المعقول، ساورت كثير من الشكوك كثيرا من المتابعين، وبدأت بعض الأسئلة المهمة تبرز على السطح، لكن لم يكن أحد يجيب عليها، ولم يكن أحد يصمم على هذه الإسئلة لهول أفعال «داعش» التي خرست معها الألسن، وتعود هذه الأسئلة اليوم بصورة أخرى عن كيفية انهزام هذا التنظيم بطريقة أيضا لا معقولة.
إن كانت الدول الإسلامية والعربية، التي على الأقل اكتوت بنار هذا التنظيم، كانت تخجل أحيانا من طرح الأسئلة المنطقية عن كيفية انتشار «داعش» وسر قوته غير المفهومة، اعتقد أنها اليوم من واجبها أن تجعل هذه الأسئلة محل بحث خاصة على «بساط» لقاءات بعض القوى الإقليمية والعالمية، أظن أنه لا يجب أن نتنازل عن طرح هذه الأسئلة في غمرة الفرح الذي نشعره عندما ينهزم «داعش»، كان خجلنا من أن يُفهم أننا ندافع عن التنظيم يمنعنا من طرح الأسئلة المنطقية عن انتشاره، واليوم يُستخدم الفرح لذات السبب وهو ما لا يجب أن يمنعنا عن طرح هذه الأسئلة، على أجهزة استخباراتنا أن تسأل «أصدقاءنا» كيف انهزم «داعش»؟ أين هم أفراده وقوته؟ إن لم نجد إجابة فلا أقل من أن نوثق دور القوى العالمية والإقليمية في وجود «داعش»!
2 الفرصة الكردية ـ العراقية المُضاعة
عدنان حسين
الشرق الاوسط السعودية
يبدو أن الحراك الاحتجاجي في إقليم كردستان العراق الذي اندلع الأسبوع الماضي، قد فوّت في وقت قصير جداً على نفسه وعلى مجمل الحركة الاحتجاجية في العراق المتواصلة منذ صيف 2015، فرصة ذهبية للإصلاح في الإقليم وحتى في العراق كلّه.
شرارة الاحتجاج أطلقها، في مدينة السليمانية وبلدات كردية أخرى، موظفو الدولة الذين لم يتسلّموا رواتبهم منذ مدة بسبب توقّف الحكومة الاتحادية في بغداد عن صرف مستحقات الإقليم من الموازنة العامة، على خلفية نزاع حول عائدات نفطية وجمركية تتقاضاها حكومة الإقليم ولا تسجّلها في واردات الموازنة العامة، إضافة إلى عامل جديد يتعلّق بشرط حكومة بغداد على حكومة الإقليم، لصرف المستحقات، أن تعلن البراءة من استفتاء حقّ تقرير المصير الذي أُجري في 25 سبتمبر (أيلول) الماضي، وأن تتعهّد علناً بعدم السعي للتعبير عن هذا الحق في المستقبل، فضلاً عن العمل على تحقيقه.
مطالب الحراك الكردي لم تنحصر في أمر الرواتب المعطّل صرفها، إنّما تعدّته إلى الإصلاح السياسي والإداري ومكافحة الفساد الإداري والمالي، فالمحتجّون طالبوا أيضاً باستقالة حكومة الإقليم وأعضاء البرلمان الكردستاني، وإجراء انتخابات جديدة نزيهة لاختيار ممثلين جدد لشعب الإقليم وتشكيل حكومة جديدة.
الخطأ القاتل الأول الذي وقع فيه الحراك أنه سمح لمندسّين من ذوي الأغراض والغايات الخاصة بأن يخترقوه ويحرفوا مساره السلمي إلى مسار عنفي، بمهاجمة مقار حكومية وحزبية وتدمير البعض منها. والخطأ القاتل الثاني تمثّل في أن الحراك أظهر تعويلاً على العامل الخارجي (الحكومة الاتحادية في بغداد خصوصاً)، فقد كان بعض المحتجين يدعون صراحة الحكومة الاتحادية للتدخّل في الإقليم. وهذا ينمّ عن جهل؛ فمن جهة أن الدستور لا يمنح الحقّ للحكومة الاتحادية وقواتها لأجل التدخل في الإقليم لحل مشكلة داخلية، ومن الجهة الأخرى، لو كانت حكومة بغداد تمتلك العصا السحرية التي يتطلّع إليها حراكيو السليمانية، لحلّت قبل ذلك مشكلاتها الكثيرة ولبّت مطالب رعاياها خارج الإقليم، وفي مقدمها قضية الإصلاحات السياسية والإدارية التي تعهّدت بها حكومة حيدر العبادي عند تشكيلها في خريف 2014، ثم أعلنت حزمتين لها في صيف 2015، من دون نتيجة ذات قيمة على هذا الصعيد. كما أن السيد العبادي ما فتئ يتعهد المرة تلو الأخرى بمكافحة الفساد الإداري والمالي المتفشي في كيان الدولة العراقية كله، من دون تحقيق شيء يتجاوز الكلام المعاد المكرر.
لولا هذان الخطآن اللذان قد يرجعان إلى أن حراك إقليم كردستان لم تقدْه أو تنصرْه حركة سياسية رصينة، لأمكن للحراك الكردي أن يشكّل بداية لمرحلة عراقية جديدة، هي مرحلة اضطراب اجتماعي – سياسي واسع النطاق يُمكنه إرغام الطبقة السياسية المتنفذة في العراق، بما فيها الطبقة الحاكمة في الإقليم، على إعادة النظر في العملية السياسية وتعديل مسارها باتجاه تحقيق بعض الإصلاحات السياسية والإدارية قبيل حلول موعد الانتخابات التشريعية المقرّر إجراؤها في مايو (أيار) من العام المقبل، أو من خلال هذه الانتخابات.
الطبقة السياسية المتنفذة في أربيل والسليمانية، وكذا في بغداد، هي الآن في أضعف حالاتها، ولو مضت الحركة الاحتجاجية الكردستانية في الاتجاه الصحيح، السلمي غير المعوِّل على العوامل الخارجية، لكان لذلك دور في تنشيط الحركة الاحتجاجية العراقية وتجديد دمائها، فالمظاهرات الأسبوعية الجارية في العاصمة بغداد وثماني مدن أخرى في الوسط والجنوب رفعت صوتها عالياً في الأيام الأخيرة، تضامناً مع حراك السليمانية والمدن الكردية الأخرى، لكنّ تعويل هذا الحراك على حكومة بغداد لا يمكنه أن يجد له صدى داخل الحركة الاحتجاجية العراقية التي ترفع المطالب نفسها تقريباً: الإصلاح السياسي والإداري، وإلغاء نظام المحاصصة، وإجراء انتخابات حرّة ونزيهة، والمكافحة الجادّة للفساد الإداري والمالي في عموم العراق.
من الواضح أن حراك الإقليم الأخير لم يكن صناعة كردية مائة في المائة، رغم أن الكثير من الأسباب الدافعة إلى التظاهر وإعلاء صوت الاحتجاج قائمة بالفعل منذ زمن. أطراف فاعلة في الحكومة الاتحادية وقوى سياسية متنفذة ومؤسسات إعلامية حزبية في بغداد لعبت دوراً غير قليل في التحريض وإذكاء نار الاحتجاج، بيد أن هذا لم يكن العامل الحاسم في إثارة الاضطراب الأخير. المشكلة أن الإدارة الحكومية في إقليم كردستان، كما في العراق كله، قد تعرّضت إلى عملية تآكل بنيوية بسبب الفساد الإداري والمالي الناجم عن نظام المحاصصة الذي تقاسمت بموجبه بعض الأحزاب كل مصادر السلطة والنفوذ والمال، فكان أن نمت في وقت قياسي طبقة فاحشة الثراء من بيروقراطيي الحكومة والأحزاب، وهو نمو كان على حساب قوت الناس الذين تُركوا للفقر والبطالة ولانهيار نظام الخدمات العامة.
مع ذلك، فإن الاضطراب الاجتماعي الحاصل في الإقليم الآن، كما في بغداد، هو انعكاس للأزمة البنيوية التي تواجهها العملية السياسية، إنْ في الإقليم أو في العراق… نظام المحاصصة تآكل تماماً وأظهر بشاعته على نحو واضح وفاضح، بيد أن الطبقتين السياسيتين المتنفذتين في بغداد وأربيل والسليمانية ليستا فقط تكابران ولا تريدان الاعتراف بهذا، بل إنهما تعملان على تفادي الانصياع للاستحقاق اللازم، وهو التخلّي عن نظام المحاصصة وقطع دابر الفساد تماماً.
حتى لو فشل الحراك الكردي الحالي في تحقيق مطالبه الآن، فإنه كما الحركة الاحتجاجية العراقية العامة يُنذر بانفجارات اجتماعية مزلزلة بعد حين، قد يصعب السيطرة عليها… وهذا ما يتعيّن أن تعيه جيداً أربيل والسليمانية… وبغداد كذلك.
3 «الدعوة» أمام استثمار نجاح العبادي أو التمسّك بإخفاقات المالكي
حميد الكفائي
الحياة السعودية
لم يبقَ سوى ستة أشهر تقريباً على موعد إجراء الانتخابات المقبلة في العراق، والتي لا بد من أن تُجرى في الموعد المحدّد دستورياً، لأنه ليس هناك أي سند دستوري يبيح التأجيل. نعم، هناك أطراف عدة تريد التأجيل لأنها خائفة من احتمالات الانتخابات وترغب في تمديد فترة الوضع الحالي لتحقيق المزيد من المكاسب. لكن التأجيل ليس في صالح رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي يرجح أن يكون الأوفر حظاً في الانتخابات المقبلة لأسباب كثيرة.
لقد تمكن العبادي خلال ثلاث سنوات من تحقيق إنجازات مهمة على الأصعدة كافة، فتمكّن من دحر الإرهاب واستعادة المناطق التي سقطت في أيدي الجماعات الإرهابية في عهد سلفه نوري المالكي، ومكّنته الحاجة الماسة إلى الدعم الدولي من أن ينسج علاقات متطورة مع الولايات المتحدة في عهد رئيس لم يُبدِ وداً للعرب والمسلمين. كما تمكن من كسب الاتحاد الأوروبي إلى جانبه، خصوصاً الدول الثلاث الكبرى، ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، إضافة إلى بريطانيا، إذ أصبح التعاون معها معتاداً وممنهجاً. وتمكّن من تحسين علاقات العراق في العالم العربي، خصوصاً السعودية ومصر، التي ساءت كثيراً في عهد سلفه بسبب نهجه الانعزالي وانفراده بالسلطة وتعنّته الذي كلف العراق غالياً. إضافة إلى ذلك تمكنت حكومة العبادي من التفاهم مع تركيا وإيران واستقطبت دعمهما للعراق في مرحلة حرجة جداً.
على المستوى الاقتصادي، تمكّن العبادي من إدارة دفة الاقتصاد العراقي بكفاءة واضحة وفي مرحلة تدنت فيها إيرادات العراق إلى ما دون النصف. فقد تمكن من تقليص رواتب المسؤولين الكبار وتمرير قانون التقاعد الذي كان أكثر إنصافاً للناس العاديين إذ جعل الجميع متساوين أمام القانون. كثيرون ظنوا أن العبادي لن يتمكن من دفع رواتب موظفي الدولة ومتقاعديها الذين يقارب عددهم السبعة ملايين، وأنه سيفشل وستسقط حكومته، لكنه نجح عبر اتباعه الإدارة الكفوءة وعدم التفريط بالمال العام ومكافحة الفساد والحصول على قروض ميسرة من المؤسسات الدولية والدول الصديقة، إضافة إلى إقناعه الجهات الدائنة بتأجيل دفع الديون المستحقة على العراق، كما في حالة تعويضات غزو الكويت.
وفي ما يتعلق بالوضع الداخلي، تمكنت حكومة العبادي من تحقيق الأمن في العاصمة ومعظم المحافظات العراقية ليس بالقوة فحسب، بل بزيادة كفاءة القوى الامنية والتفاهم مع القوى السياسية الأخرى، التي وجدت التعاون مع حكومته مجدياً لتحقيق الأمن بعدما رأت وطنيته وجديته في معالجة مشكلات العراق الحقيقية، خصوصاً بعد أن تيقّنت أن تدهور الأمن سيضر جميع العراقيين على حد سواء، إضافة إلى تهديده الدولة بأكملها.
أهم إنجاز حقّقه العبادي هو أنه تمكن من طرح نفسه زعيماً عراقياً غير منتمٍ لطائفة بعينها، فأدار العراق كعراقي وتعامل مع العراقيين جميعاً وفق القانون ولم يميّز بينهم، وهذا ما كان العراق يفتقر إليه منذ عهد الزعيم عبدالكريم قاسم. المواطن العراقي يشعر الآن بأنه مواطن في دولة لا تميّز ضده على أساس ديني أو قومي، على رغم أن البلد ما زال يزخر بمسؤولين يمارسون التمييز، لكنهم يعلمون أنهم غير قادرين على مواصلة هذا العمل المشين طويلاً وأن البلد سيلفظهم قريباً.
لقد تمكّن العبادي خلال ثلاث سنوات من تحقيق قبول وطني واسع وأصبح موثوقاً به عربياً ودولياً، وهذه تُسجّل له شخصياً، ولقيادة حزب الدعوة التي ساندته بقوة في هذا المسعى، وكذلك للقوى السياسية التي ساندته لسبب أو لآخر، على رغم أن بعضها سانده، لأنه رأى فيه «زعيماً ضعيفاً» ومهَدَّداً واستغل فعلاً هذا الجانب في النصف الأول من ولايته ومارس الفساد في شكل واسع في الوزارات التي أدارها. لكن العبادي يعرف هؤلاء جيداً وأحسب أنه ينتظر الفرصة المناسبة لتعريتهم، وسوف يحين هذا الوقت في الانتخابات المقبلة.
لكن حزب الدعوة، وهو الحزب الإسلامي الوحيد الذي يمتلك قاعدة شعبية واسعة ولا تقوده عائلة، ما زال منقسماً بسبب بقاء المالكي في زعامته. المالكي لم ييأس من العودة إلى الحكم، سواء في شكل مباشر أو غير مباشر عبر أقاربه وأتباعه المنتشرين في البرلمان والوظائف العامة. وما زال هناك من يؤيده من طاقمه القديم والمستفيدين منه، على رغم علمهم بأنه قاد البلد نحو الهاوية والحرب الأهلية والانهيار الاقتصادي والعزلة الدولية.
يحتاج الحزب أن يتخذ قراراً حاسماً خلال الأيام المقبلة. فإما أن يبقى منقسماً مقدّماً بذلك صورة غامضة للشعب العراقي في وقت يحتاج فيه الشعب إلى الوضوح والحزم، أو يلتف حول قيادة العبادي، وهو أول زعيم عراقي ناجح إدارياً واقتصادياً وسياسياً في فترة ما بعد 2003. فعلى الحزب أن يطوي صفحة الفشل والطائفية والعزلة والتدهور الأمني والفساد التي رافقت قيادة المالكي العراق. كان يمكن أن تؤدي تلك الإخفاقات إلى تدمير الحزب كلياً وإقصائه عن صدارة الأحداث لولا المبادرة الشجاعة للقيادة بإشراك السيّد السيستاني في مسألة بقاء المالكي في السلطة، بعد أن أدركت بأنه يقود الحزب والبلد نحو الهاوية، الأمر الذي «أقنع» المالكي بالتخلي عن منصبه.
لقد كان المالكي زعيماً فاشلاً بكل المقاييس، وهو لم ينفع إلا نفسه وأقاربه والمتملقين له. صحيح أن له مؤيدين وما زال هناك من يؤمن بأنه «زعيم قوي»، لكن على هؤلاء وغيرهم أن يدركوا أن المستقبل أهم من الماضي، مهما كان ذلك الماضي «تليداً». العبادي قاد البلد نحو النجاح والانفتاح والتماسك الوطني، بينما قاده المالكي نحو الفشل والانعزال والتفكّك. الموقف الوطني لحزب الدعوة ومؤيديه هو الوقوف مع العبادي وتسديده ودعمه بقوة كي يستمر ويبني على منجزاته، وليس التمسك بالماضي وإخفاقاته، بل إن في مصلحة الحزب أن يطوي هذه الصفحة كلياً ويدعو رموزها إلى التقاعد والتواري عن الأنظار لأن وجودهم ليس في مصلحة الحزب ولا العراق.
لا وقت للمجاملات، فالقيادة التي اتسمت بالشجاعة في آب (أغسطس) 2014 مدعوة اليوم لاتخاذ قرار لا يقل خطورة أو شجاعة عن قرارها بإقصاء المالكي عن السلطة، ألا وهو «إقناعه» بالتقاعد كي يسمح للبلد أن يعيش أجواء وطنــية وديموقراطية مستقرة.
4 إخفاق الربيع الكردي… بعد العربي
عمر قدور الحياة السعودية
لو اندلعت التظاهرات في إقليم كردستان قبل سنوات، لكان سهلاً ضمُّها إلى موجة الربيع العربي. تعاطي قيادات الإقليم مع التظاهرات قد يغري بالمقارنة بتعاطي الأنظمة العربية، إلا أن التظاهرات «من ضمن عوامل أخرى» تغري أكثر بالنظر إليها كدلالة على تفسخ الوضع الداخلي من ضمن تداعيات فشل مشروع الاستقلال. قد تدعم التظاهرات حجة من رأوا في مغامرة الاستقلال هروباً من استحقاقات داخلية، إلا أن ما تبع الاستفتاء كان أكبر وأشد من مجرد الرد عليه، وهو أشبه بإعادة الإقليم إلى أيام الحظر الجوي في عهد صدام حسين، مع تجريده من المكتسبات التي راكمها بعد إسقاطه.
حتى أشهر قليلة خلت، كان يمكن الظن بأن الربيع العربي أتت ثماره كردية. ففي بلدين عربيين، هما سورية والعراق، كانت الأمور تسير نحو الإجهاز على الثورة في الأول، وإعادة إحكام السيطرة على المكون السني في الثاني. بينما كانت قوة الأمر الواقع الكردية في سورية تتقدم لتحظى بدعم أميركي، إلى جانب تحالفها مع النظام وطهران موسكو، وفي العراق تقدمت قوات البيشمركة للسيطرة على المناطق المتنازع عليها، وصولاً إلى الإعلان عن الاستفتاء على الاستقلال.
على الجبهة الكردية، ازدهر الرأي القائل بإمكان استغلال الصراعات الداخلية لمصلحة المشروع الكردي. ضمن هذه البراغماتية، التي تبدو مبرَّرة لأسباب حقيقية ومصطنعة، أتى التحالف مع سلطتَيْ طهران في سورية والعراق مبرراً أيضاً، وانعدم النقاش حول أخلاقيته، أو حول جدواه على المدى البعيد.
أبعد من ذلك، اتجهت المسوغات لتأخذ طابعاً بنيوياً تجسده أسئلة من نوع: إذا كان قدر الثورات العربية التعفن بين استبداد الأنظمة واستبداد التطرف الصاعد، فلماذا لا ينجو الأكراد المتمايزون عن الطرفين؟ وإذا كان كلٌّ من الطرفين لا يعِد الأكراد بمستقبل أفضل، فما وجه المفاضلة بينهما كردياً؟… أسئلة تتجه عموماً إلى وصم العرب بعنف وإرهاب وبعثية، كلها ذات طابع بنيوي غير قابل للتبديل. وفي النقيض منها ستبرز الإشادة بالقيادات الكردية دونما تمييز، وفي خلط بين حق أصيل وتجليات سياسية قابلة للخطأ والصواب وللنجاح والفشل، وربما يكون بعضها قابلاً لطعن حقوق الأكراد عن وعي وتصميم.
بالاستسهال الفكري ذاته، من جانب أكراد وحتى عرب، وصم عربٌ مناهضون لسلطات البلدين ولـ «داعش» إما بـ «الدعشنة» أو بالبعثية. على المقلب الكردي، كانت صور المقاتلات الكرديات في سورية نقيضاً زاهياً، مع الصمت أو الجهل إزاء تجنيد قاصرات ومقتلهن بخلاف رغبة ذويهن وبخلاف الأعراف والمواثيق الخاصة بالأطفال. كانت حملات التجنيد القسري تمضي بمباركة صور المنتصرين على «داعش»، مع صمت أو جهل إزاء موجات النزوح الكردي من معاقل تلك الميليشيات، قبل الصمت والتجاهل إزاء مصير ووضع المناطق التي حررتها.
في إقليم كردستان أيضاً، ظهر الإقليم على النقيض من عراق المالكي، من دون النظر في تقاسمه بين سلطتي أربيل والسليمانية المتنافستين، ومن دون التفكر في الميليشيات المسيطرة على جبال قنديل بأجندتها المختلفة عن طموحات الأهالي المحليين والمرتبطة إلى حد كبير بالحليف الإيراني، أو الانتباه إلى القوى السياسية الناشئة ومنها القوى الإسلامية. فوق شبهات الفساد هنا وهناك، يجوز الزعم بأن المكانة المعنوية لزعامة بارزاني لم تكن راسخة سياسياً عشية الاستقلال، باستثناء الاتفاق العام معه على حلم الدولة، الحلم الذي تفترق المصالح قبل تحققه.
سورياً وعراقياً، كان ثمة أمل كردي كبير باستثمار الحرب على «داعش» لمصلحة القضية الكردية، أمل يناقض استخدام التنظيم نفسه لوأد تطلعات سوريين وعراقيين. الأمل بدا ممكناً من خلال التحالف مع القوى العظمى، ومن خلال التحالف مع سلطات البلدين في لحظة ضعفهما. بقوة الحرب والأمل فقط، كبر الطموح الكردي إلى حد السيطرة النهائية على المناطق موضع النزاع في العراق، وإلى السيطرة على الشمال السوري كله، بما فيه مدن ومناطق شاسعة ذات غالبية عربية ساحقة، بصرف النظر عن الفوارق التفصيلية بين الحالتين.
لكن، في الواقع، لم يكن في مخططات الإدارة الأميركية توزيع المكافآت على الحلفاء، فهي أولاً ترى في «داعش» خطراً مشتركاً على الجميع، وتالياً لا تريد التورط في مشاكل المنطقة الأخرى. سيكون من المفيد استرجاع محاولة إدارة أوباما بناء ميليشيا من عرب سورية لقتال التنظيم، حيث اشترطت على المقاتلين توقيع تعهد بعدم قتال قوات بشار. هذا هو نموذج الانكفاء الأميركي عن قضايا المنطقة وقد استمر مع الإدارة الحالية، وإذا كانت السياسة عموماً لا تعترف بتحالفات ثابتة فهذا المبدأ مورس مؤخراً برعونة وخفة أفقدا الإدارة الأميركية صدقيتها خارجياً وداخلياً.
وكي لا نعلّق الإخفاق على عاتق السياسات الأميركية، لا بأس في استعراض الأسئلة المقابلة لما سبق. أكان وارداً مثلاً أن تتخلى طهران عن جزء من هيمنتها على العراق بعد الانتهاء من «داعش»، بخاصة مع حساسيتها إزاء الموضوع الكردي؟ وهل كان من المنتظر أن تدعم واشنطن الأكراد ضد طهران مع رسوخ نفوذ الأخيرة في العراق، بينما فوتت واشنطن أثمن فرصة لمحاربة النفوذ الإيراني انطلاقاً من سورية؟ فضلاً عن ذلك، ألا يتفق الظن بوجود عداء أميركي جوهري للمركّب (العربي السني) يمكن استثماره كردياً مع أيديولوجيا «داعش» التي تشرب من النبع نفسه؟
قد لا يُلام الأكراد على حسابات خاطئة وقع فيها جميع المهزومين في السنوات الأخيرة، لكن (بتفحص حالة المهزومين معاً) يزداد ثقل الخسارة مع إحساس كل طرف بالخذلان نتيجة الحروب في ما بينهم، أو نتيجة استخدام هذه الأطراف كأدوات لقوى خارجية. التربة جاهزة لتبادل الشماتة بين المهزومين، وهذا أيضاً ما تراهن عليه قيادات تتملص من مسؤوليتها عن الخسارة. قبل سنوات، لم يكن الحديث بمنطق تلازم الحرية لكافة شعوب ومكونات المنطقة ليؤخذ سوى على محمل الأماني المنفصلة عن الواقعية السياسية. اليوم، مع الارتدادات السلبية للهزائم، لا يُتوقع أن يكون حظ الدعوة إلى الاستفادة من الدرس أفضل مما سبق، ولا يُستبعد أن نراوح زمناً إضافياً بين أنظمة لا ترحل إلا مرغمة و «نُخب» سياسية لا تتعلم إلا بعد أن لا يبقى أمامها خيار آخر.