الدموع الثقافية في “تاريخ البكاء”
” لا تبكِ ابداً على شيءٍ لا يُمكنهُ البكاءُ عليكِ”
(المخرج فيتوريو دي سيكا مخاطباً الفنانة صوفيا لورين)
هذا كتاب نادر في جوهره المعرفي والجمالي، وممتع جداً في موضوعه الاستثنائي، وموضوعيته التاريخية، واستقرائه لنظريات البكاء الدامعة. يرتقي بالهامش الى المتن الثقافي ويضعه في الصدارة في بحث تاريخي- علمي- أنثروبولوجي- ثقافي متوازن. يعتمد المصدرية الشاملة والشواهد الراصدة لتاريخ البكاء والدموع عبر الفن والأدب والاجتماع والتاريخ والدين والكيمياء وعلم وظائف الأعضاء والتشريح والفسيولوجيا العصبية والكيمياء الحيوية، ونرى في استثمار المعارف الشاملة توظيفاً ذكيا لاستقطار كل مصدر دمْعي يؤسس لنظرية الدموع الشاملة التي تعتمد على السلوكيات النفسية والعقلانية والتاريخية والاجتماعية والطبية والعلمية والتشريحية، حتى ينفتح الكتاب على تاريخ مجهول تماماً من الدموع البشرية التي ذُرفت وتُذرف كل يوم في العالم. ولأنه مصمم بهذه الطريقة التسلسلية الراقية، فإنه يستطرد مع الفنون والعلوم كلها لتقريب فكرة البكاء والدموع تاريخياً ومعاصرةً.
إن كنا نعرف شيئاً ما عن رمزيات دموع التماسيح ودموع الفرح والحزن والسعادة والنجاح والفقدان والرومانسية ومظاهِر الحِداد العالمية بين الشعوب، لكننا لم نُحَط علماً بدموع الملذات ودموع الهزيمة، ودموع الندم. والشهوانية والتواصلية والزائفة والكاذبة والأصيلة والزخرفية والشهوانية والحسِنة، ودموع النعمة والحقيقة والعَوض والدموع المستبدة ودموع القداسة والتوبة؛ حتى أننا نقرأ لأول مرة بما يسمى بالدموع المنحطّة، والدموع العلمانية..!
(عندما نبكي في الأفلام
فإننا في الحقيقة نستعيد
احتفالاً طقسياً نسينا أصوله)- من الكتاب
ثقافة الدموع هي ثقافة البكاء بين الشعوب. غريزة فطرية يمارسها البشر في كل مكان وفي شتى الظروف تحت تأثير انفعالات وخسارات وهيجانات متعددة تسببها أحداث خارجية أو داخلية، بما تشكل ثقافات عامة تميز هذا الشعب عن ذاك، لا بالدموع حسب؛ فالدموع تتشابه والبكاء يتشابه؛ إنما في طرائق المراثي والطقوس والحِداد والألم البشري. أن تاريخية البشر الانفعالية تجمعها متساويات، لا نقول بأنها متكافئة لكنها من مصدر نفسي وجسدي متشابه الى حد ما. فالجسد الإنساني وإن بدا متشابهاً من خارجه، غير أنه معقد بتفاصيله كلها. والبكاء ينضغط في غدد دمعية وهي جزء في أعلى الجسد. لذلك يستنير المؤلف توم لوز بوصف ألكوين Alcuin بتقسيمه الدموع الى أربعة أنواع “بناءً على وظائفها” فالدموع الرطبة تغسل قذارة الخطيئة. والمالحة المُرّة تكبح هشاشة الجسد. والدافئة تغلب عليها برودة الخيانة، أما الدموع النقية فتُنشيء الذين تطهروا من الخطايا السابقة. وواضح من هذا التقسيم بأن فيه مسحة دينية الى حد ما، وصبغة تطهرية يحاول ألكوين من خلالها موْضعة البكاء في هذا المربع. فمفردات ” مالحة. تكبح. الخيانة. الخطايا..” هي فعل دنيوي يستدعي البكاء وذرف الدموع في توبة دينية، تسمى دموع القداسة، وأقرب تمثيل لها القديس فرنسيس الاسيزي، الذي أصيب بالعمى في شيخوخته بسبب فرط بكائه. وليست هذه مبالغة توصيفية بقدر ما هي حالة تنويرية للآخرين من المؤمنين لفهم مثل هذا النوع من الدموع المفرطة. لكننا نلتقي في القرن الرابع عشر باليزابيت توز التي بكت خطاياها بمرارة، في بكاء التوبة وطلب الغفران من السماء. إنه بكاء شخصي يجد الانسان فيه طمأنينة وراحة نفسية أكثر من المعتاد، حينما يتوحد مع السماء من أجل المغفرة.
يذكر القديس اغناطيوس لويولا ؛مؤسس المذهب اليسوعي في القرن السادس عشر؛ في مذكراته من انه بكى 175 مرة (كان لدي وفرة من الدموع) وقد يكون هذا توصيفاً بولغ فيه، لكنه يمثل لوناً من ألوان البكاء التطهري ودليلاً عليه. فالوفرة الدمعية طاقة شخصية على كل حال.
كل هذه التسميات المبتكرة وغيرها، تفصّل، ولا تختصر، تاريخ العواطف وانفعالات “البُكاة” من البكّائين والبكّاءات. عندها نجد أن بين الفطرة والعاطفة والضغط النفسي ما يمكن أن يكوّن حالة هامشية في يوميات الإنسان أينما يكن. لكن توم لوتز في هذا الكتاب الحافل بالشواهد والمشاهد الواقعية والمصدريات الأدبية القديمة والحديثة يجعل منه سِفْراً عظيماً، ومتناً من متون التداعيات البشرية في أيامها الباكية. فالبكاء والدموع والنحيب والصراخ والنشيج والعويل، تشكّل عِلماً قائماً بذاته، كما يصفه الكتاب بطريقة إيراد الشواهد التاريخية. وحتى تصنيف الدموع (ومتابعة سِيرها) فيها نوع من أنواع الأداء الثقافي الشعبي والطقوسي.
أن التخلص من المشاعر المكبوتة هو تعبير (عن رغبات معقدة ومتناقضة) والدموع بوصفها (تجربة) حياتية هي أشبه بـ (نظام تبريد بسيط للعيون) و(تخلق لذة جمالية) كما إنها (شكل من أشكال المتعة) لهذا فبعض المؤمنين الحقيقيين (يبكون اثناء الصلاة) ويتضرعون الى السماء تكفيراً عن خطاياهم. إذ تنفتح غددهم الدمعية بإفراط طلباً للمغفرة ومن ثم تعقبها السكينة كما عند القديس اغناطيوس لويولا.
**
(لسوء الحظ،
كان هوميروس رضيعاً
لم يُعرف عنه البكاء
في دار الايتام ابداً) – من الكتااب
التعبير الفني الآخر (الدموع هي الموسيقى في شكل مادي) تغلب عليه الرومانسية، وتُقارِبه صوتياً مع الموسيقى، كما لو أن الدمعة نوتة صغيرة توضع في سلم موسيقى، وعندما تتتابع فأنها تشكل أداء صوتياً مريحاً. وبما أن الدموع هي ظاهرة عالمية وفطرية وعاطفية في الأغلب الأعم فأنها (تكرّم الطبيعة البشرية) لكن بعضها (يحط من قدرها) و(هذا التمييز هو احد الادوات الدائمة في تاريخ البكاء الثقافي) وقد ظهر في الخرافات القديمة والأطروحات الرهبانية القروسطية وثقافة البلاط ومن ثم الكتابات الأدبية من رواية وملحمة وأسطورة وأناشيد دينية تطهرية عبر العصور والحقب. وبما أن هذا الكتاب به حاجة الى إيراد شواهد بكائية كبرى لها وقْعٌ تاريخي، فالمؤلف يستحضرها لتعزيز أفكاره في هذا الهامش المنسي من التاريخ.
بكى النبي داود عند موت ابشالوم، وبكى النبي ابراهيم عندما ماتت سارة، وبكى النبي يوسف عند لقاء بنيامين، وبكى يسوع عند موت لعازر. وهذه شواهد من التاريخ القديم في متابعة هذا الأثر الانساني الفطري، في استنفار الجسد وتحفيز البكاء والدموع للتعبير عن مكبوتات نفسية طارئة، لذلك يتبنى شليغل فكرة إن البكاء أفضل من الكلمات، والدموع وسيلة لتكريس الفضيلة في العالم، فعندما تعجز الكلمات عن إيصال فكرتها، فالدموع المُطهّرة بديل عنها، وهذه الحاجة الدمعية التي ترتبط بالبكاء لا تقف على فلسفة معينة، فقد (ظهرت نظرية الدموع التطهرية منذ ما قبل أرسطو) وسجل البكاء الأدبي الهائل وضعه المحاربون والرهبان في القرون الوسطى. ولهذا فكلما عاد توم لوتز الى التاريخ البكائي والدمعي يجد شواهد أخرى في ذرف الدموع.
اقدم سجل مكتوب عن الدموع كان على ” الواح طينية كنعانية” والكتاب المقدس تأثر بطقوس البكاء التي تبناها المهاجرون العبرانيون الى كنعان من عبدة بعل. وفي ما يُسمّى بـ ملذات البكاء عثر على طقوس تحويلية في المصادر اليونانية عند هوميروس، وتوما الأكويني الذي استنتج ان الدموع تفعّل المعاناة، ويستنهض لوتز كتابات قديمة في الموضوع ذاته، فيذكر بروبرتيوس الذي كتب “سعيد هو الرجل الذي يستطيع أن يبكي أمام عيني عشيقته لَكَم يبتهج الحب في فيضان الدموع” حتى وُصف البكاء على نوعين : بكاء خاص وبكاء عام. فالأخير تتسبب به قوى الطبيعة كالزلازل والكوارث والحمم والبراكين والحروب، ويكون ضرره جماعياً، فـ ” البكاء الجماعي شكل من أشكال الحداد” تترتب عليه طقوس دينية واجتماعية ومناخ عام يجمع السكان في انتداب الدموع والبكاء والعويل، وقد يكون الصراخ هو أعلى درجات البكاء. بينما تكون الحالة الأولى ذاتية وشخصية ؛ لتبدو ثقافة الدموع تتعلق بسيكولوجية الفرد واستعداداته للأنباء غير السارّة؛ فعندما توفيت والدة أوغسطين في العصور الوسطى كان الرجل يريد البكاء، لكنه أجبر نفسه على ان لا يفعل ذلك لأن ” البكاء الخاص قربان صادق يتوجه به الى الله.” وكان عليه أن يكبح انفعالاته الداخلية. لأنه ليس بكاءً جماعياً ولا طقسياً.
أن فردية البكاء شخصية واختيارية. بينما تكون الجماعية بكاءً طقسياً وشعبياً له دلالاته الدينية على الأرجح.
(كلما كبرت الوصية كبرت الجنازة) – من الكتاب
الدموع الدينية أو شبه الدينية عُرفت قديماً منذ عصور الآلهة البشرية أو الرمزية، لكنها لقد تطورت تدريجيا من معانيها في العهد القديم. ففي القرن الميلادي الأول كتب ببليوس سيروس أن” النساء تعلمن ذرف الدموع من اجل ان يكذبن بشكل افضل” وكتب كاتو في القرن الثاني “عندما تبكي المرأة فإنها تصنع فخاً بدموعها” بل ذهبت الأمثال القديمة الى أن كل امرأة مخطئة “حتى تبكي” فالبكاء التطهري بمسحته الدينية العامة، يشجع الخطّائين والخطّاءات على التوبة والراحة النفسية والشروع بحياة أقل وطأة وشحناً سلبياً.
لم تقف البحوث والدراسات والأمثال والمشاهدات الدمعية عند حد، بل انضمت اليها الآداب والفنون لتكريس الدموع بوصفها نشاطاً عضلياً له ضروراته في غالب الأحيان، مثلما له طقوسه الأسطورية والدينية والاجتماعية، ولعل أميل برونتي وديكنز واليزابيث فيليبس و شكسبير ومولير وجوزيف رو ساهموا من خلال الكتابة برفد الدموع معاني أدبية وفنية وصورية، اقترب بعضها من الأمثال، كمقولة أوسكار وايلد “البكاء يفسد الجميلات” مستنيرين بالملاحم البطولية اليونانية المفعمة بالبكاء والرثاء والندب لأسباب كثيرة.
**
(لم يكن الادب الخيالي والدراما والسينما
هي السجل الأثبت لدموعنا فحسب، بل ربما
كانت أهم تأملاتنا الجمعية)- من الكتاب
**
(4)
اليابانيات يبكين بسبب الحب، وقبائل الغابات الأفريقية لهم مؤثراتهم الطوطمية الدينية التي يحافظون فيها على طقوسهم ويذرفون الدموع على آلهتهم الصورية والغيبية والرمزية جماعياً، والعربيات يبكين بسبب الحروب والظلم الاجتماعي التاريخي، أما أبو عبدالله الصغير، آخر ملوك غرناطة من بني الأحمر فقد قيلت بحقه أروع مقولة تاريخية من والدته عائشة الحرة: ” إبكِ مثل النساء مُلكاً لم تحافظْ عليه مثل الرجال” بعدما تم تسليم الأندلس إلى الملكين الكاثوليكيين فرناندو الثاني وإيزابيلا الأولى عام 1492 وهذا البكاء السياسي هو بكاء الخوف والندم والحصار الذي وضع نفسه فيه.
كتب الطبيب البريطاني تيموثي برايت في منتصف القرن الخامس عشر بأن الدموع عبارة عن رطوبة يطرحها الدماغ. بينما اعتقد الاطباء الابقراطيون بأنها تأتي مباشرة من الدماغ، وابقراط رأى في الدموع أخْلاطاً تفيض من الدماغ، لكن جالينوس اعترض على الجميع ووجد بأن الدموع تُنتج عن طريق الغدد.
في العصر الحديث يقول شوارسكوف بأن الجنرالات لا يبكون اثناء المعركة ولكن بعد نهايتها. ويفسر جراح العيون اللندني أبراهام ورب الدموع على أنها ” شطيرة السوائل”. ولا ننسى البكاء العلني لبيل كلينتون- الرئيس الأمريكي الأسبق- في فضيحة مونيكا الشهيرة. فهو بكاء الندم والتوبة. وكانت دموعه الشقراء تعتذر للشعب الأمريكي عن فعلته الجنسية الطائشة.
