أغلبية ما يسمى (الخبراء) يرون ظواهر الأشياء والمعلومات الرسمية التي ترتبط بها فقط، رغم أن الواقع الميداني يقدم أدلة قاطعة على أن مافي الخفاء يتناقض مع مافي العلن، والعلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وأسرائيل الشرقية، أي إيران، تدخل في إطار التناقض البارز بين مايعلن رسميا وما يخفى فعليا، فرغم أن هناك وثائق رسمية امريكية وبريطانية ومحللون قدموا الأدلة على أن ما يظهر في سطح العلاقات الأمريكية الإيرانية يناقض مايخفى تحته، أكدوا أن إسقاط الشاه وتنصيب خميني بدلا عنه تم بقرار من المخابرات الأمريكية والبريطانية معا،وكان الدافع الجوهري هو ان الشاه فشل في ممارسة دور الشرطي الإقليمي لصالح الغرب، فأصبح ضروريا الإتيان بمن يملك القدرة على صنع الفتن الطائفية والعنصرية داخل الأقطار العربية، ولم يكن هناك غير رجال الدين في اسرائيل الشرقية،وهكذا نصب خميني دكتاتورا مطلقا كي يمكّن من نشر الفتن الطائفية والعنصرية تمهيدا لتقسيم الأقطار العربية.
ومن البديهي أن يصنع ستار من التمويه لمنع الناس من تشخيص الدور الحقيقي لنظام الملالي فكان يجب أن يلعب دور المناهض أعلاميا فقط لأمريكا ولإسرائيل الغربية، فهل حقق نظام الملالي هذا الهدف الستراتيجي الغربي والصهيوني؟ لننظر إلى الجانب الآخر: لماذا أسست إسرائيل الغربية أصلا؟ لم تؤسس الحركة الصهيونية إلا بعد اكتشاف النفط في المشرق العربي، وكانت بريطانيا هي اللاعب الأول على مستوى قوى الاستعمار الأوروبي، ولهذا لم تكن صدفة أن يعقد المؤتمر الصهيوني الأول في عام 1897 لإعلان ولادة الحركة الصهيونية واختيار فلسطين دولة قومية لليهود، كما قال وعد بلفور لاحقا، فقد تحددت وظيفة الكيان الصهيوني في فلسطين منذ بداية القرن ال20 حينما وصف بأنه (الحارس لمصالح الغرب في الشرق الأوسط)، وهكذا تحددت الوظيفة الأساسية لإسرائيل الغربية مثلما تحدد الدور الرئيس لنظام الملالي في طهران.
والآن،وبعد مرور عقود زخرت بكثير من الأدلة التي تثبت أن هذه النظرة الاستراتيجية لدور الشرطيين الإقليميين إسرائيل الغربية وإسرائيل الشرقية لم تكن صحيحة، فرغم مرور أكثر من 70 عاما على احتلال فلسطين وتزويد الكيان الصهيوني بكل ما يحتاجه إلا أنه عجز عن تحقيق الهدف الجوهري وهو ماسمي (إحلال السلام في الشرق الأوسط) خصوصا التطبيع مع الشعب العربي الذي مازال حتى الان يرفض في مصر والأردن وغيرهما التطبيع ، وهكذا نرى أن قدرة إسرائيل الغربية على اختراق الأقطار العربية مستحيلة على المستوى الشعبي.
أما على المستوى العسكري والميداني فقد أكدت الحروب الأخيرة، خصوصا بعد عملية طوفان الأقصى، بأن الجيش الإسرائيلي هرّ ،وليس نمر، مخصي ، فبعد مرور عام وثمانية أشهر عجز عن احتلال غزة رغم أنه نفذ عمليات يعجز وصف الوحشية عن التعبير عنها، لأن الجندي الإسرائيلي ولد هو أو عائلته خارج فلسطين وجاء مستعمرا غاصبا وهو يعرف ذلك، رغم التربية التوراتية الكاذبة، وهذه الحقيقة بلورت صورة أخرى لإسرائيل الغربية غير الصورة التي أريد لها أن تكون متمتعة بها عندما تقرر تأسيسها، وهي أنها بدل أن تكون حارس المصالح الغربية والصهيونية في المنطقة أصبحت عبئا استراتيجيا مكلفا جدا ليس لموارد واستقرار أمريكا ودول أوروبية فقط بل إنه يهددها بالتمزق والعزلة عن العالم وعن شعوبها، وهذا ما نراه الآن واضحا في الانتفاضة الرسمية الأوروبية ضد إسرائيل بعد الانتفاضة الشعبية الشاملة فيها.
والتحول في الدور الإسرائيلي من ذخيرة ستراتيجية تخدم الغرب إلى عبء ستراتيجي مدمر يفقد إسرائيل الشروط المطلوبة للقيام بوظيفتها الاقليمية ، وبالمقابل ماذا نرى؟ نرى إسرائيل الشرقية تقدم الخدمات الكبرى ذات الطبيعة الستراتيجية للغرب وللصهيونية مجانا وليس اعتمادا على موارد الغرب وتدخله العسكري لصالحها، فهي بحكم امتلاكها أذرع طائفية وعنصرية داخل أقطار عربية، ونتيجة للتضليل الإعلامي الذي أظهرها بأنها معادية للصهيونية وللغرب تمكنت من تحقيق اختراقات جوهرية خطيرة داخل العراق وسوريا واليمن ولبنان،وزرعت خلاياها النائمة والمستيقظة في بقية الأقطار العربية، وهكذا انتشرت الفتن الطائفية وأصبحت تتحكم في تطور المنطقة كلها. وهذه الحقيقة الميدانية أدت إلى تحقيق أكبر انقلاب ستراتيجي في القرنين ال20 و21 وهو حلول الصراعات الدينية والطائفية محل الصراع بين الغرب الرأسمالي والشرق الاشتراكي،وهذا التحول أسقط الاتحاد السوفيتي وضرب العرب في الصميم،وهو تطبيق حرفي لمخطط بريجنسكي المعروف بإحلال الصراعات الدينية والطائفية والعرقية محل الصراعات بين الرأسمالية والاشتراكية.
وفي ضوء ما تقدم فإن الغرب أخذ يرى بوضوح أن إسرائيل الشرقية تقدم له خدمات مجانية، لانها تريد عبر تدمير الامة العربية تحقيق هدفها القومي باحتلال الاقطار العربية وتأسيس امبراطورية فارسية، بينما إسرائيل الغربية تكلفه كثيرا جدا وتهدد بضرب مصالحه،لذلك فإن التحولات الحالية في العالم الناقدة لإسرائيل الغربية والداعمة لإسرائيل الشرقية، أكدت وجود توجه واضح لإقامة علاقات رسمية طبيعية مع حكومة طهران، مقابل التقليل التدريجي للاعتماد على إسرائيل الغربية إقليميا، وذلك يفترض الاعتراف بحق إسرائيل الشرقية بتخصيب اليورانيوم كي تحل المشكلة الرئيسة بين واشنطن وتل أبيب وطهران،الأمر الذي يمكن إسرائيل الشرقية من امتلاك تسعة قنابل ذرية تستطيع فورا،كما تؤكد المصادر الإيرانية وغيرها، وذلك تحول خطير لا يهدد إسرائيل الغربية ولا أمريكا بل يهدد الأمن القومي العربي لأن التوجه الستراتيجي المركزي الإيراني هو الاحتلال الأقطار العربية وليس الاحتلال واشنطن أو تل أبيب.
إن هذه التطورات تحدد مسارات الأحداث القادمة في العراق وغيره والذين يتوقعون أن تقوم أمريكا بالقضاء على إسرائيل الشرقية وميليشياتها يجب أن ينتبهوا ويعيدوا النظر،فالقادم سيثبت إن الدور الوظيفي لإسرائيل الشرقية في المخطط الغربي والصهيوني هو المعتمد أكثر من إسرائيل الغربية وهذه الحقيقة، وليس المشروع النووي الإيراني فقط، هي التي جعلت اليمين الإسرائيلي يقف ضد هذا التطور الخطير لأنه إلغاء للدور الإسرائيلي الإقليمي أو على الأقل أنزال مرتبته ،فلننظر إلى ما يجري من هذه الزاوية لكي نفهم حقيقة ما سيحصل لاحقا ولا نقع في فخ التضليل.
