بعد 20 عاما … رفيق الحريري ينتصر في ضريحه وأعداؤه يتساقطون مقالا للكاتب طوني يونس

مقالات

اغتيل رفيق الحريري في محاولة لإحكام السيطرة الإيرانية – السورية على لبنان ضمن مشروع “الهلال الشيعي”، لكن بعد عقدين انهار المشروع الإيراني وسقط المتورطون في الاغتيال واحداً تلو الآخر، وصولاً إلى مقتل حسن نصرالله وسقوط بشار الأسد وسط انهيار نفوذ إيران في المنطقة، فيما يثبت الزمن أن الحريري انتصر، بينما أعداؤه يتساقطون تباعاً في عدالة تاريخية حتمية.

قبل 20 عاماً دوى انفجار في قلب بيروت، لم يكن مجرد جريمة اغتيال سياسي، بل كان زلزالاً هز الشرق الأوسط بأسره. كان استهداف الرئيس رفيق الحريري في الـ14 من فبراير (شباط) 2005 حلقة في مشروع أكبر هدفه إعادة رسم موازين القوى في المنطقة وفق رؤية “إيرانية – سورية” تسعى إلى فرض الهيمنة الكاملة على لبنان وجعله محوراً أساساً في “الهلال الشيعي” الممتد من طهران إلى بيروت عبر العراق وسوريا.

لم يكن رفيق الحريري زعيماً عادياً، بل كان رمزاً لنهضة لبنان، ورجل التوازنات الذي جمع بين الدعم العربي والدولي، وحاول إبقاء لبنان خارج دائرة النفوذ الإيراني – السوري. أدرك النظامان السوري والإيراني أن الحريري يمثل عقبة كبرى أمام مشروعهما التوسعي، إذ كان يقود مساراً سياسياً واقتصادياً يهدف إلى إعادة لبنان إلى دوره العربي، متجاوزاً الهيمنة العسكرية والاستخباراتية للنظام السوري، التي كانت ممثلة آنذاك بوجود جيش الأسد في لبنان وبالتنسيق مع “حزب الله”.

لم يكن اغتياله مجرد تصفية حساب داخلي، بل كان قراراً استراتيجياً استهدف إعادة هندسة التوازنات في الشرق الأوسط. فبإزاحته كانت إيران تسعى إلى إحكام قبضتها على لبنان وتحويله إلى قاعدة متقدمة لمشروعها الإقليمي، الذي بدأ يتمدد عبر العراق بعد سقوط صدام حسين عام 2003.

لكن ما لم يكن في حسبان القتلة آنذاك أن اغتيال الحريري فجر “ثورة الأرز” التي جمعت اللبنانيين ضد الاحتلال السوري، وأجبرت جيش نظام الأسد على الخروج من لبنان في الـ26 من أبريل (نيسان) 2005، بعد صدور القرار الدولي 1559، منهيةً بذلك عقوداً من “الوصاية السورية”. كان هذا التحول كارثياً على دمشق وطهران، اللتين وجدتا نفسيهما أمام واقع جديد فرضه الشارع اللبناني بدعم عربي ودولي غير مسبوق.

إلا أن إيران سارعت إلى ملء الفراغ الذي تركه النظام السوري عبر “حزب الله” الذي بات القوة المهيمنة في لبنان سياسياً وأمنياً، مستخدماً سلاحه ونفوذه لتعطيل التحقيقات الدولية في اغتيال الحريري وعرقلة العدالة. كما نفذ عمليات اغتيال ممنهجة طاولت شخصيات لبنانية سياسية وأمنية بارزة كانت جزءاً من انتفاضة الاستقلال، مثل جبران تويني وسمير قصير ووليد عيدو وبيار الجميل واللواء وسام الحسن واللواء فرنسوا الحاج، وغيرهم.

على رغم محاولات “حزب الله” وحلفائه تعطيل العدالة، فإن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان دانت أعضاءً في الحزب بارتكاب جريمة الاغتيال، وعلى رأسهم سليم عياش الذي أصبح من أكثر المطلوبين للعدالة الدولية.

وعلى رغم أن الأحكام لم تنفذ عملياً، فإن العدالة تحققت بإرادة إلهية، إذ لحقت لعنة العدالة بالمتورطين، وسقطوا في ظروف غامضة، سواء في سوريا أو لبنان، وكان آخرهم سليم عياش الذي قُضي عليه في غارة إسرائيلية خلال الحرب الأخيرة.

ما بين 2005 و2025 تغيرت المعادلة الإقليمية بالكامل. فالمشروع الذي أراد منفذو الاغتيال ترسيخه انهار على رؤوسهم. إيران اليوم تعاني أزمات اقتصادية وسياسية خانقة، ونفوذها يتراجع في العراق وسوريا ولبنان. أما “حزب الله” الذي كان الطرف الأقوى بعد اغتيال الحريري، فيجد نفسه اليوم محاصراً داخلياً وخارجياً، بعدما تحول من “مقاومة” إلى ميليشيات متهمة بالإرهاب دولياً، وفقد قدرته على فرض إرادته في لبنان بعد الضربات القاصمة التي تلقاها خلال الحرب الأخيرة، من تدمير معظم ترسانته العسكرية، إلى مقتل كبار قادته، وعلى رأسهم الأمين العام حسن نصرالله.

لكن المفاجأة الأكبر التي يمكن اعتبارها عدالة سماوية وسخرية من القدر هي أن الرجلين اللذين كانا في قلب قرار اغتيال الحريري، الرئيس السوري بشار الأسد وزعيم “حزب الله” حسن نصرالله، سقطا بعد 20 عاماً، ليشهد الشرق الأوسط سقوط رأس المشروع الذي استهدف الحريري.

بشار الأسد الذي تحول من “ديكتاتور دمشق” إلى مجرد ورقة في يد الروس والإيرانيين انتهى به المطاف منفياً في موسكو بعدما سقط نظامه بالكامل.

أما حسن نصرالله الرجل الذي خطط ونفذ وهدد فقد قتل في الحرب الأخيرة ليترك “حزب الله” في حال تراجع غير مسبوقة، يكافح لتحديد خسائره، بينما فلوله في لبنان يبحثون عن مصيرهم وسط الانهيار الحتمي.

بينما كانت إيران القوة الإقليمية الصاعدة بعد عام 2005، والتي تمددت في لبنان والعراق وسوريا واليمن، باتت تواجه اليوم سيناريو الانهيار الشامل. فبعد ضرب أذرعها الإقليمية ومراكز نفوذها، تواجه طهران الآن التهديد الأكبر: ضربة إسرائيلية قاصمة لمفاعلاتها النووية، قد تضع نهاية لطموحاتها الإقليمية.

كان هدف اغتيال الحريري هو فرض السيطرة الإيرانية الكاملة على لبنان والمنطقة، لكن بعد عقدين، انهار المشروع وتحولت الحسابات. وبدلاً من أن يكون لبنان بوابة النفوذ الإيراني إلى الشرق الأوسط، أصبح عبئاً على طهران و”حزب الله”، في وقت تنهار فيه التحالفات التي بُنيت على الدم والاغتيالات.

في النهاية، على رغم كل المحاولات لطمس الحقيقة، فإن العدالة وجدت طريقها، ليس فقط في قاعات المحاكم، بل في سقوط المشروع نفسه، وفي تحول القتلة إلى ضحايا للقدر والتاريخ.

اليوم، وبعد 20 سنة باتت جميع أزرار القوة الإيرانية معطلة، والميليشيات التي كانت تستخدم كأدوات للهيمنة تتفكك تحت الضغط العسكري والاقتصادي. أما لبنان الذي كان ساحة نفوذها الأهم فيتحرر تدريجاً من قبضة “حزب الله”.

ما كان يريده قتلة الحريري قبل 20 سنة لم يتحقق، بل على العكس تماماً، انتهوا إلى الهزيمة والسقوط. الرجل الذي قتلوه ليعيدوا رسم الشرق الأوسط، انتصر من ضريحه، والنظامان السوري والإيراني، ومعهما أدواتهما، يسقطون واحداً تلو الآخر.

هي عدالة السماء، عدالة التاريخ، عدالة المصير المحتوم.