يحتفل مسيحيو العراق، اليوم الأحد، في جميع أنحاء العراق بـ”عيد القيامة” من خلال التوجه إلى الكنائس وإنشاد الترانيم، وقراءة أجزاء من الكتاب المقدس في أجواء روحانية دينية مميزة، سبقها سبت النور رفع الصليب.
ويعد “عيد القيامة” من أقدس الأعياد المسيحية، وتستذكر فيه قيامة المسيح من بين الأموات بعد ثلاثة أيام من صلبه وموته، كما هو مذكور في الكتاب المقدس، وفيه ينتهي الصوم الكبير وينتهي أسبوع الآلام، ويبدأ زمن القيامة المستمر في السنة الطقسية لأربعين يومًا حتى عيد العنصرة.
وفي العيد، يتم ترنيم هذه الكلمات، “المسيح قام من بين الأموات ووطأ الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور”.

طقوس اجتماعية
من الطقوس والعادات الاجتماعية المميزة المرتبطة بهذا العيد، تلوين البيض المسلوق، الذي يعد تقليدًا رمزيًا يمثل القيامة والحياة الجديدة، إذ يزين البيض بألوان زاهية احتفالًا بعودة المسيح إلى الحياة بعد الصلب، والطريف أن الأطفال يتسابقون بكسر البيض، فمن كانت البيضة خاصته أقوى يكسر بيضات الآخرين ويأخذها منهم.
أما أهم الأكلات التي تزين المائدة في العيد، فهي حلويات (الكليجة) و(الكادي)، إذ تبدأ النساء بعمل الحلوى منذ عيد “السعانين” الذي يسبق عيد “القيامة” بأسبوع، إلى جانب تزيين المنازل، ووضع أرنب الفصح.
مريم العذراء
قال القس مار توما، راعي كنيسة “مريم العذراء” في بغداد، إن عيد القيامة يحمل في طياته رسائل عميقة من الأمل والمصالحة، وحافزًا جديدًا للرجاء والتغيير الإيجابي في حياتنا الشخصية والجماعية.
وخلال تواجد “الصباح” في مراسيم رفع الصليب وعيد القيامة، دعا القس توما، بأن “ينال شعب العراق نعمة القيامة والفرح والتجدد، وأن تدخل بركة الرب بيوتكم وتبارك أطفالكم وأسركم، وأن يحفظ الرب العراق، قائلاً:”في هذا اليوم المقدس هبنا سلاماً مقدساً”.
سوق خيري
وبمناسبة عيد القيامة المجيد، ووسط أجواء روحية وأسرية مفعمة بالفرح والمحبة، أقامت كنيسة الاتحاد المسيحي في أربيل، سوقًا خيريًا، وتضمّن الاحتفال فقرات مميزة، أبرزها مشاركة الأطفال في أداء تراتيل دينية بثلاث لغات: العربية، والإنكليزية، والكردية، ما أضفى طابعًا متنوعًا وشاملًا جسّد وحدة الكنيسة وروح العيد، وتم عرض مأكولات منزلية وأعمال يدوية، خُصص ريعها لدعم الأنشطة الخدمية والخيرية للكنيسة.
القس ملاذ بيثون، في حديث لـ”الصباح”، قال: “نحن ممتنون لأننا نجتمع كأسرة روحية في هذه المناسبة المباركة، من خلال الخدمة الخاصة التي نرفع فيها صلواتنا من أجل الناس والسلام في العالم، ولأجل تقوية أواصر المحبة في مجتمعنا”.
وأضاف “يسعدنا أن نقيم بازار “عيد القيامة”، وهي فرصة جميلة لتبادل الفرح والدعم بين أبناء الرعية، وإظهار روح التعاون والعطاء التي هي جوهر رسالتنا المسيحية”.
وعبرت الشاعرة فالنتينا يوآرش، عن سعادتها بهذه الأجواء، قائلة: إن “هذه المناسبة تعني للمسيحيين الكثير، فهي ليست فقط احتفالًا دينيًا، بل فرصة لنجتمع كأسرة واحدة ونشارك المحبة والعطاء، وهذا يعكس روح القيامة الحقيقية روح التجدد، والرجاء، والدعم المتبادل”.
من جانبه، أكد جونسن ايليا، أن “هذه المناسبة بمثابة ذكرى تقربهم إلى الله”، مبيناً أن “السيد المسيح جاء لخلاص البشر من قيود الخطيئة والشر، ولنشر المحبة والتسامح والسلام، مستذكراً مقولة المسيح (من أراد أن يكون عظيماً فليكن لكم خادماً)”.
قيمة إنسانية
يقول المرتل في كنيسة (مار يوسف) بمنطقة عينكاوا المسيحية، متي بسمان: “لدينا لكل عيد تراتيل خاصة، وهذا العيد له قداس خاص، يعلن من خلاله عن قيام السيد المسيح مع ايقاد الشموع”.
كما أشارت جانيت يوحنا، إحدى مؤمنات الارثوذكس من سكنة عينكاوا، إلى أنه “تم تخصيص مبادرات إنسانية ومساعدات للمحتاجين”، قائلة: فالعيد قيمة إنسانية للمكون المسيحي، كما تتميز أجواء الاحتفالات بتبادل الزيارات بين الأسر وحتى مشاركة إخواننا المسلمين وبقية المكونات الأخرى في تبادل التهاني بمناسبة العيد والأمنيات بالخير والسلام وروح التعايش والمحبة بين أبناء البلد.
عيد الفصح في الموصل

عادت الحياة إلى كنائس الموصل ببهاء هذا العام، حيث شهدت احتفالات عيد الفصح مشاركة واسعة من مختلف شرائح المجتمع، في مشهد يعكس عودة الروح إلى المدينة التي عانت لسنوات من ويلات التطرف والارهاب. الأب رائد عادل، مسؤول الكنائس في الموصل، أوضح لنا أن “هذا العيد يمثل أكثر من مجرد مناسبة دينية، أنه احتفال بانتصار الحياة على الموت، والوحدة على الفرقة”. وأضاف وهو يشرح طقوس كسر البيضة التقليدية: “كل بيضة نكسرها اليوم هي رمز لكسر قيود الماضي التي حاولت تقسيمنا، وإعلان لبداية جديدة”.
في كنيسة الطاهرة، وقفت مريم آرام، إحدى النازحات العائدات، وهي تمسك بشمعة الأمل بين يديها، وقالت بصوت خالجته مشاعر الحنين: “بعد ثماني سنوات قضيتها في المنفى، ها أنا أخيراً أعيش اللحظة التي حلمت بها طوال تلك السنوات”. وأضافت وهي تلتفت حولها في الكنيسة التي امتلأت بالمصلين: “رائحة البخور اليوم مختلفة، إنها رائحة الوطن الحقيقية، رائحة الموصل التي عرفتها وأحببتها”.
لم تقتصر المشاركة على المسيحيين فقط، فقد حضر الشيخ محمد إحسان، إمام جامع النور، كأحد أبرز المشاركين، مؤكداً أن “هذه المشاركة تمثل واجباً دينياً وإنسانياً”. وأضاف في حديث لـ”الصباح”: “ما جمعنا اليوم هو إيماننا المشترك بقيم المحبة والتعايش التي تشكل جوهر كل الأديان السماوية”.
أما عماد جرجيس، الشاب الموصلي الذي قاد فريقاً تطوعياً لتنظيم الاحتفال، فأشار إلى أن “70% من المشاركين هذا العام كانوا من الشباب، وهي نسبة غير مسبوقة في تاريخ الاحتفالات”. وأضاف بحماس: “الشباب هنا يريدون إرسال رسالة واضحة للعالم بأن الموصل باقية، وأنها ستظل نموذجاً حياً للتعايش السلمي بين جميع المكونات”.
من جانبه، لفت بشار حكمة، الباحث في الشؤون الاجتماعية، إلى أن “الاحتفال هذا العام شهد مشاركة قياسية تجاوزت 3000 شخص في الكنائس الرئيسة فقط، وفقاً لإحصائيات البطريركية الكلدانية”. وأضاف: “هذه الأرقام تعكس ثقة متجددة في مستقبل المدينة، وإرادة صلبة لدى أبنائها للمضي قدماً نحو التعافي الكامل”.
أسهمت الحكومة بشكل فاعل في إنجاح المناسبة، حيث منحت عطلة رسمية للموظفين المسيحيين، كما أكد مصدر مسؤول في محافظة نينوى، مشيراً إلى أن “هذه الخطوة تأتي في إطار خطة شاملة لدعم عودة النازحين وإعادة إعمار المناطق المتضررة، والتي تشمل ترميم الكنائس والمساجد على حد سواء”.
في شوارع المدينة القديمة، امتزجت أصوات التراتيل الدينية بضحكات الأطفال وهم يلعبون بالبيض الملون، بينما تبادل الجيران التهاني بلغات ولهجات مختلفة، في مشهد يعيد إلى الأذهان صورة الموصل التاريخية كمدينة التنوع والتسامح. هذا المشهد الحيوي لم يقتصر على الكنائس فقط، بل امتد إلى المنازل حيث أعدت الأسر أطباقها التقليدية، وفتحت أبوابها للجيران من مختلف الخلفيات الدينية والمذهبية.
الاحتفال هذا العام لم يكن مجرد مناسبة دينية عابرة، بل تحول إلى رسالة قوية للمجتمع الدولي مفادها أن الموصل، رغم كل ما عانته، قادرة على النهوض من جديد، وأن نسيجها الاجتماعي المتنوع ما زال صامداً أمام كل محاولات التقسيم. هذه الرسالة تجسدت في كل تفاصيل الاحتفال، من مشاركة رجال الدين المسلمين، إلى الحضور الكثيف للشباب، مروراً بالأسر العائدة التي أعادت إحياء تقاليدها الموروثة.
في نهاية اليوم، بينما كانت آخر التراتيل تتردد في أرجاء الكنائس، وأصوات الأجراس تختلط بأذان المغرب القادم من المآذن القريبة، بدا واضحاً للجميع أن الموصل استعادت جزءاً مهماً من روحها، وأن الطريق نحو التعافي الكامل، رغم أنه قد يكون طويلاً، إلا أنه أصبح ممكناً بفضل إرادة أبنائها وتضحياتهم.
