الحلقه العاشره
وضع جميع العراقيين الأفكار والتصورات والقناعات، التي كانت تسيطر عليهم قبل عدة أيام، وراء ظهورهم، ولم يعد هناك أي مجال للحديث عن مسألة الاحتمالات في وقوع الحرب من عدمه، وبدأت تنهال على العراقيين مرة واحدة أكداس الحرب النفسية، التي التهمها العراقيون طيلة الأشهر، التي سبقت الحرب، خاصة ما يتعلق بأنواع الأسلحة المتطورة جداً، والكم الهائل من التصريحات التي تم تسريبها عبر وسائل الإعلام، التي تتحدث عن حرب خاطفة. لدرجة أن البعض تصور، أن الحرب الأمريكية، قد تستغرق يوماً أو عدة أيام، وهذا ما أوحى به الإعلام الأمريكي، ونستطيع القول، أن العراقيين قد فهموا موضوع (الصدمة والترويع) بصورة غير دقيقة، وأخذوا الصدمة على أساس أنها تمثل حجم الضربة العسكرية الأولى، أو على الأقل في اليوم الأول، ولم يستبعد البعض، أن تستخدم القوات الأمريكية، أسلحة محرمة لتحقيق هدفها في إحداث الصدمة عند العراقيين، وسرت شائعات بين الناس، عن نية الولايات المتحدة استخدام قنابل نووية تكتيكية صغيرة، لقصف مناطق معينة، مثل المواقع الرئاسية ومقرات القيادة والتوجيه، وأماكن انتشار قوات الحرس الجمهوري، وحتى بعض الأحياء السكنية، أن استدعت ذلك اشتراطات تحقيق الانتصار الأمريكي، وحضرت في ذاكرة الكثيرين مدينتا هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، عندما قصفتهما بالقنابل الذرية عام 1945. لهذا لم تكن الأيام الأولى من الحرب سهلة، ولكي نفهم الصعوبات الحقيقية، التي زخرت بها أفكار وتصورات ومشاعر العراقيين، لابد من دراسة تفصيلية، لموضوع (الصدمة والترويع)، التي يجب الاعتراف بأنها حققت الكثير من أهدافها، مرتكزة في نجاحها إلى نقطتين رئيسيتين:
الأولى: الذكاء في اختيار المصطلح والترويج له، قبل فترة مناسبة من شن الحرب، والخروج عن الاصطلاح التقليدي، المستخدم في الحروب المعرفة في العالم بتسمية (الحرب النفسية)، وتوظيف وسائل الإعلام في تحقيق ذلك على نطاق واسع.
الثانية: استغلال التفوق العسكري والتكنولوجيا المتطورة، مع التذكير باستمرار بما شاهده العراقيون من قدرات عسكرية خلال أيام حرب الخليج الثانية عام 1991، والتأكيد على التطورات التقنية في حرب الألفية الجديدة، التي أطلقوا عليها تسمية الحرب الإلكترونية، إضافة إلى (أم القنابل) التي دخلت على خطوط التهيئة لهذا النوع الجديد من الحرب النفسية.

ونعتقد بأن مسالة (الصدمة والترويع) كانت أحد الجوانب المؤثرة في فن إدارة الأزمة، التي اعتمدتها الإدارة الأمريكية، ولكي نصل إلى إجابات وافية ودقيقة لتطور الأحداث، ابتداءً من الضربة الأولى فجر العشرين من مارس، حتى وصول جنود المارينز إلى قلب بغداد، في ساحة الفردوس عصر يوم التاسع من أبريل عام 2003، وما حصل بعد ذلك من أسئلة عديدة تمحورت حول السهولة التي احتلت بها القوات الأمريكية العاصمة العراقية، وهل جاء ذلك نتيجة لخيانة حصلت على مستوى القيادات العليا، من المقربين جداً من الرئيس صدام حسين، ومن قادة الأمن الخاص والحرس الجمهوري، أم أن ثمة أسباباً دفعت الجيش للانسحاب تحت تأثيرات أخرى، ورفض القتال ضد القوات الأمريكية. هذه الأسئلة التي يغلفها الغموض، لا يمكن الإجابة على أهم فقراتها، دون الخوض في تفاصيل الحرب الأمريكية على العراق، ابتداءً من (الصدمة والترويع) وجوانبها الأخرى.
في البداية، لابد من القول، أن مصطلح (الصدمة والترويع) كان العنوان الأبرز والأهم في الحرب الأمريكية على العراق، واستخدمه وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد في مناسبات عده قبل بداية الحرب، ومن هذا المنطلق جاء تحذيره للعراقيين، قبل ساعات من بداية الهجوم الجوي الأمريكي، عندما قال موجهاً كلامه إلى العراقيين (حالما تبدأ العمليات العسكرية ألزموا منازلكم واستمعوا إلى محطات الإذاعة التابعة للتحالف لتلقي التعليمات حول ما تفعلونه للحفاظ على سلامتكم والبقاء خارج خط النار. أيها المدنيون العراقيون، لا تذهبوا إلى العمل، وابتعدوا عن الأهداف العسكرية، وأية مرافق نقل أليها صدام حسين معدات عسكرية).
فرض مصطلح الصدمة والترويع (Shock and awe) هيمنة كبيرة على الأوساط السياسية والبحثية والعسكرية، إضافة إلى عمليات الترويج الواسعة في وسائل الإعلام، وأصدر كتاباً بهذا الصدد (هارلان اولمان Ulman)، وهو استراتيجي أمريكي له علاقات قوية بدونالد رامسلفيد وزير الدفاع وديك تشيني نائب الرئيس جورج دبليو بوش، وجاء كتابه بعنوان (الصدمة والترويع: إنجاز الهيمنة السريعة) وذكر فيه ما نصه..أننا نريدهم أن يتراجعوا ولا يحاربوا خلال دقائق، وليس ايام من خلال ضربة مهولة تشبه قنبلة هيروشيما.
في الواقع، أن هذا المفهوم، هو الذي بُنيت عليه الحرب، استناداً إلى ما قاله مسؤول أمريكي لقناة (CBS) الأمريكية، الذي ناقش الموضوع معه باستفاضة كبيرة مذيعها الشهير دان راذر، الذي سبق وزار العراق والتقى الرئيس العراقي صدام حسين لمدة ثلاث ساعات.
أما الوصف، الذي سبق مرحلة البدء في تطبيق (الصدمة والترويع)، فقد ركز على أن ذلك يعني، إطلاق هجوم كوني مرعب، يتخلله عرض مخيف لعناصر مهولة، مثل الرعد المرعب، والبرق العنيف الخاطف، بهدف ترويع وشل حركة الخصم بأكمله، فتكون النتائج بمثابة خراب لا يمكن تصديقه. وهذا يعني أن حالة من الإرهاب الداخلي الشامل، سيطال الغالبية العظمى من العراقيين، يخترق الدواخل أولاً، ثم يأكل على الروح البشرية، ويؤدي ذلك بالنتيجة إلى تفكيك واسع، لأي نوع من الالتزام، نحو أي واجب أو مسؤولية، سواءً كانت فردية أم جماعية. وإذا ما أصاب هذا النوع من الرعب الترابط الجمعي، فأن التخلخل في المرتكزات، يخرج بسرعة فائقة، من إطار التململ المحدود، إلى التدهور الشامل. وهذا يفضي إلى تفكيك سياسي كامل، ينتج عنه وبسرعة كبيرة خضوع مطلق، يراه الاستراتيجيون الأمريكيون، يصل إلى درجة التوسل بالأمريكان، من أجل أن يبقى المرء حياً، تحت أية شروط تفرضها القوات الأمريكية، لحظة الانهيار الجمعي، الناجم عن تلك الصدمة، وما يتخللها من ترويع وعبر تركيز ودقة في التنفيذ.
أن هذه الاستراتيجية، التي تم تطويرها في جامعة الدفاع الوطني بواشنطن، لا تقف عند حدود العراق وحده، بل إن إدارة الرئيس جورج دبليو بوش أرادت لهذا المفهوم، أن يكون كفيلاً بتأشير نهاية (النظام الدولي القديم)، عندما يقف العالم بأكمله أمام حالة الصدمة والترويع، بعد أن تنفذ واشنطن خطتها في تحطيم العراق مادياً وعاطفياً ونفسياً، عبر إمطاره بمئات الصواريخ، خلال يومين فقط، على أن يكون عدد تلك الصواريخ أكثر من ضعفي الصواريخ، التي تم إطلاقها على العراق خلال (40) يوماً عام 1991، مع استثناء المناطق الشمالية، التي لم تكن ضمن أهداف الحملة الصاروخية الجديدة.
قبل يوم واحد من شن الحرب على العراق، نشرت صحيفة (الواشنطن بوست) تصريحاً لمسؤول في الإدارة الأمريكية، قال فيه بالحرف الواحد (إن حربنا في العراق، لن تستغرق سوى بضعة أيام على أكثر تقدير). ويتوقف الفرنسي جيرالد مونستيراس عند هذه المسألة في مقال نشره بصحيفة (لوموند)، يقول: أن خطة الصدمة والترويع، التي رسمها دونالد رامسفيلد، تبدو الأفضل، لأنها اعتمدت على الوقت، باعتبار إن النصر السريع يحقق أفضل النتائج.
كان الحديث عن السرعة الخاطفة في تنفيذ الهجوم الأمريكي، الذي وصفوه بالصاعق والنهائي، يقترن بأحاديث وأوصاف أخرى لهذه الحرب، وتستند جميع تلك التحليلات والتصورات للحرب على العراق، إلى مفهوم (الصدمة والترويع)، وكثف الخبراء العسكريون الأمريكيون من إعطاء تصوراتهم عبر تقارير إخبارية ومقالات وندوات تلفازية، وكان هدف تلك الصور المستقبلية للحرب على العراق، هو الوصول إلى ثلاث جهات بالتتابع في مسألة التأثير، وفي آن واحد على صعيد التلقي، والجهات الثلاث هي، أولاً وفي المقدمة هو الشارع العراقي، الذي يُعد الهدف المباشر للحملة الأمريكية، التي يجري الإعداد لها، على أعلى المستويات، وثانياً شعوب الدول المرشحة للاحتلال بعد العراق، وفق الاستراتيجية الأمريكية المعلنة، ابتداءً من تصنيف (محور الشر) والأنظمة الشمولية، وغير ذلك من التسميات، وثالثاً بقية دول العالم، التي يجب أن تخضع للإدارة الأمريكية، استناداً إلى تصورها الخاص بقيادة العالم، إما من خلال القوة العسكرية المباشرة، أو ببسط الهيمنة الاقتصادية، وفرض برامجها بعيدة المدى على العالم، ضمن الحدود الواسعة لبرنامج عسكرة الفضاء، وإخضاع العالم للحماية الأمريكية، ضمن مشروع واسع وبعيد المدى، من هنا جاءت الأوصاف، التي أطلقوها على ساعة الصفر، التي تبدأ بها الحرب على العراق، ووصفها وكيل وزارة الدفاع الأمريكي بـ (يوم جهنم)
ولإعطاء الصورة أبعاداً أكثر توضيحاً وباتجاه زرع حالة الرعب، قال نائب قائد الأركان الأمريكية المشتركة بيتر بايس، أن الهجوم، سيبدأ بسقوط آلاف الصواريخ على بغداد، تُطلق من المدمرات البحرية الأمريكية، ومن القاعدة الأمريكية في (دييغو غارسيا) تتبعها (300) طائرة بمعدل ثلاث طلعات للطائرة، وكل طلعة من 7 إلى 10 قنابل ثقيلة، ما يعني آلاف القنابل، التي تتساقط على بغداد لمدة ثلاثة أيام على الأقل.
من خلال مقتطفات من التصريحات، والإشارات، التي تركز على أوصاف الحرب على العراق، التي تتحدث عن أبواب جهنم وليل جهنم، وما شابه ذلك، كما إن المدة القصوى لانتهاء الحرب، تتأرجح بين ساعات أو أيام معدودات، وفي الواقع، أن الصياغات للعبارات والجمل المستخدمة في مجمل هذه التعليقات والإشارات، تعمل على تكثيف صورة الصدمة، ونتائجها من خلال الترويع، خاصة في حرص المتحدثين عنها من عسكريين ومحللين استراتيجيين، على انتقاء مفردات تتساوق وما يطرحه كبار القادة العسكريين، في إشاراتهم لطبيعة الأسلحة وزخم الهجمات، التي ستتعرض أليها بغداد أولاً والمدن العراقية الأخرى، ويشمل سيل التصريحات ذلك، التركيز على الأهداف العسكرية، ومثلما حصلت بغداد على حصة الأسد من التهديدات المكثفة، فأن الحرس الجمهوري قد حصل على حصة الأسد، من بين الخطط الهجومية، التي تحدثوا عنها ضد القطعات العسكرية.
في واقع الأمر، وكما قلنا، فأن الصدمة والترويع الأمريكية هي الحرب النفسية، التي تعارف عليها العالم في الحروب والنزاعات عبر قرون كثيرة. وخلال حروب ضارية مازال التأريخ يتحدث عن تفاصيلها. وحتى لا يأخذنا هذا المصطلح، الذي أرادت أن تتفرد بصياغته وتطبيقه الولايات المتحدة، وتجعله أحد المفردات الجديدة البارزة، في عناقيد استراتيجيتها لمرحلة مابعد الحرب الباردة، لابد من الوقوف عند اصطلاح الحرب النفسية، ومدى قربه في التطبيقات الميدانية، من موضوع (الصدمة والترويع) الأمريكية، التي تبناها دونالد رامسفيلد على نطاق واسع، وكان العراق بمثابة حقل الاختبار لهذه الحرب في تطبيقاتها الجديدة عبر الوسائل المستخدمة، التي تمتلكها الإدارة الأمريكية، وتتفوق في تقنياتها.
هنا نورد ماذكره د.حامد ربيع عن مفهوم الحرب النفسية، يقول: أنها تمثل أدوات السيطرة على إرادة الصديق أو الخصم قبل احتوائه أو تحطيمه. (الحرب النفسية في المنطقة العربية ص21) وفي الواقع، يدرس الأستاذ حامد ربيع مسألة الحرب النفسية، في ضوء ماكان يدور من صراعات دولية إبان الحرب الباردة، التي كانت مشتعلة أوراها، ومازالت في العشرينات من عمرها، إضافة إلى تصاعد الصراع العربي-الإسرائيلي، خاصة بعد حرب حزيران/يونيو عام 1967.
رغم التطورات التي حصلت في أساليب الحرب النفسية، خاصة في أدواتها، التي سجلت قفزات هائلة، خلال العقدين الأخيرين، ونقصد بذلك التطور الكبير في وسائل الاتصال الحديثة، إلا إن جوهر الحرب النفسية، يظل على قالبه، وتبقى أهدافه واضحة، وحتى نفهم بدقة الأساليب الجديدة، في الطريقة الأمريكية في أجواء (الصدمة والترويع) لابد من العودة إلى شواهد من أعماق التأريخ، فهذا الاسكندر الكبير، يعلن بكل وضوح أهمية الخطابة والتأثير بالآخر، بقوله، (أعطني خطيباً وخذ ألف مقاتل شجاع).
أما في تعريفه للحرب النفسية فيقول الباحث بول لاينبرغر، أن الحرب النفسية والدعاية كلاهما بعمر الإنسان، وأن الحرب هي الحرب، تبدأ قبل إعلان الحرب بوقت طويل، وهنا يأتي على نقطة في غاية الأهمية، رغم أنه تحدث عنها قبل أكثر من أربعة عقود، عندما يؤكد أن العدو دائماً يحاول الامتناع من وصف نفسه بأنه يمارس الحرب النفسية. وإن عناصر النجاح أو الهزيمة، لا يمكن قياسها في هذا العلم، فالاستراتيجية النفسية تخطط على حافة الحلم.
رغم اختلاف الظروف، التي عاشها العالم قبل وأثناء نشوب الحرب العالمية الثانية، وبروز دور الدعاية عند حكومة هتلر، وتأثيراتها الواسعة، إلا إن من يدرس بعناية فائقة، الخطط الأمريكية على هذا الصعيد، يلمس بوضوح كبير مدى هيمنة الأفكار والأساليب، وحتى التسميات، التي استخدمها هتلر الزعيم الألماني، على أفكار وعقول مخططي وقادة الحرب الأمريكيين، وليس من الواضح، أن جاء ذلك نتيجة الدراسات المتواصلة للحقبة الهتلرية، أم إن هذا التشابه هو اقتداء بتلك التجربة في الحرب، ويذكر بول لاينبرغر في كتابه (الحرب النفسية) بعض التفاصيل عن هذه المسألة، من بينها، أن الألمان استخدموا دبلوماسية مبنية على (السحق السريع)، وتم إطلاق تسمية (استراتيجية الفزع) و(حرب الأعصاب) على الأساليب الدعائية التي استخدمها هتلر بين عامي 1939-1941، وإذا ماتوقفنا عند هذه التسميات، نجد أنها تبغي تحقيق ذات الأهداف الواردة في الأسس الخاصة ببناء (الصدمة والترويع) الأمريكية، ومن المعروف أن الألمان نجحوا في إرغام الجيكوسلوفاك على التنازل عن السوديت دون إطلاقة واحدة. ويقر الدارسون الغربيون والأمريكيون، أن علماء النفس الألمان قد حققوا نجاحات كبيرة على صعيد الحرب النفسية، وأنهم عندما كانوا يلجأون إلى الحرب يجعلونها مفزعة بحق.
لكن المسألة، التي نجد أنها جديرة بالمناقشة، أن الانتقادات التي تم توجيهها إلى الجانب الألماني، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تركزت حول أسلوب الفزع والمباغتة، الذي اتبعه هتلر في حربه وحربه النفسية، وأجرى العديد من الخبراء والدارسين مقارنات في تلك الفترة، وحتى أثناء الحرب الباردة، بين ذلك الأسلوب، والطريقة التي تدير بها الولايات المتحدة الحرب النفسية، وعدم لجوئها إلى أسلوب الفزع، الذي يستخدمه هتلر، وترى تلك الدراسات، التي رصدت ذلك، أن الرئيس الأمريكي لا يمكنه التصرف على هذا الأساس، ووفق هذه الأساليب، لأن هناك الصحافة والرأي العام، الذي يمكن أن يحاسبه على ذلك، على عكس ماهو في ألمانيا، إذ كان علماء النفس وقادة الرأي والإعلام، يعملون بأوامر مباشرة من هتلر وجهازه، وأجمع غالبية الباحثين في هذا الشأن، على أن السياسة والسلوك الأمريكي لا تسمح باستخدام حرب الأعصاب. وأن ذلك يرتبط بالخُلق والقوانين الأمريكية.
أردنا أن نجري هذه المقارنة البسيطة، بين أسلوب أدولف هتلر، وكيف تعرض للانتقاد الواسع والحاد، لأنه أتجه إلى أسلوب حرب الأعصاب، وبالمقابل ماكان سائداً من أساليب أمريكية في الحرب النفسية، التي ترفض بشدة استخدام ما أتجه أليه هتلر. ثم نجد بعد أكثر من ستة عقود، إن الولايات المتحدة، تدخل في جوهر الأساليب، التي أستخدمها هتلر، عندما تستعير جميع أدواته، قبل أن تشن حربها على العراق، من خلال التلويح بالقوة العسكرية المتفوقة والقدرات الاقتصادية، وسلطة وسائل الإعلام، وهي ذات الأدوات، التي ارتكز أليها هتلر في حربه النفسية، التي نالت الكثير من الذم والقدح والانتقاد، لاعتمادها استراتيجية الفزع، وأن إجراء مقارنة مع هذا المفهوم، ومن خلال تعليقات وتصريحات كبار قادة البنتاغون خلال الأسابيع والأيام، التي سبقت الحرب على العراق، سنكتشف أن هؤلاء بمثابة قادة أركان الزعيم الألماني ادولف هتلر، وليس ثمة اختلافاً يذكر، إلا في التواريخ والأماكن.
في الواقع، إن الأمريكيين أنفسهم، اتجهوا إلى الحرب النفسية، في وقت مبكر إبان الحرب الأمريكية، التي أدت إلى الثورة ضد بريطانيا، واتجهت تلك الحرب إلى الدعوات العاطفية، التي تتعاطى مع المدنيين، واستخدام المنشورات والصحف. واستمر هذا الأسلوب عند الأمريكيين، إلا إن نقطة التحول الكبرى على صعيد الحرب النفسية، حصل في الحرب الأمريكية على العراق، الذي اتجه إلى استخدام أسلوب الرعب. وهذا الأمر، يحتاج إلى وقفة واسعة، عند دراسة مسألة نشوء الإمبراطوريات والمراحل التقليدية، التي تمر بها، كذلك التوقف عند مسألة أساليب الحرب النفسية، وعلاقتها بمرتكزات القوة، التي تستند أليها في الحروب التقليدية.
من هنا، نكتشف أن أي دراسة تطبيقية على (الصدمة والترويع) خلال الحرب على العراق، بجميع تفاصيلها تضعنا أمام حقيقة الأسلوب الأمريكي الجديد في التعامل مع الحرب النفسية، وعلاقته الوثيقة بأساليب ألمانيا إبان الحرب العالمية الثانية.
أن دراستنا لأيام الحرب الأمريكية على العراق، ترتبط بمفصل الحرب النفسية، أو ما أطلق عليه الأمريكيون (الصدمة والترويع)، لذلك نحتاج إلى القول، أن هذه الحرب، أو هذا الأسلوب في الحرب، هو المرتكز الأساس في تنفيذ مخطط الحرب. وتم استخدامه على نطاق واسع، في غالبية الحروب العظمى، التي شهدتها البشرية عبر تأريخها الطويل. ومن أبرز مايذكره المؤرخون، على هذا الصعيد، مافكر به ونفذه جيدون في الحرب مع أهل المدينة سنة 1245 قبل الميلاد، وليتم زرع الخوف في قلوب الخصم، وأحداث حالة الارتباك، تم اعتماد وسيلة جديدة، فقد كان من المتعارف عليه في الحروب، أن يحمل رجل من القوم فانوساً وآخر يحمل بوقاً، وأن يكون رجلان لكل مائة رجل من المحاربين، أما الخطة فقد كانت أن كل رجل من الثلاثمائة رجل الذين جهزهم، يحمل فانوساً بيد وبوقاً باليد الأخرى، وسط الظلام، وأمر جنوده بإحاطة معسكر العدو، على أن توضع المشاعل داخل صناديق، ويتم فتحها مرة واحدة، وأن ينفخ كل واحد بوقه.
لقد فاجأت أصوات الأبواق جنود العدو، وعندما قفزوا من نومهم، أدركوا أن الذين يحاصرونهم بعشرات الآلاف، استناداً إلى قاعدة حامل الفانوس وحامل البوق لكل مائة مقاتل. وبهذه الطريقة، تمكن من هزيمة الخصم وملاحقة فلولهم.
طريقة أخرى استخدمها جنكيزخان، عندما كان يعتقل الجواسيس، ثم يتركهم بطريقة ما، بعد أن يشاهدوا شراسة وقوة وطباعهم البليدة. ولعب هؤلاء دوراً مهماً في إثارة الخوف والفزع لدى قوات الخصم. إضافة إلى ما يتحدثون عنه من أعدادٍ خرافية من المقاتلين الشرسين، ويُرجع العديد من الباحثين نجاحات المغول في حرب امتدت من الصين إلى الإمبراطورية الرومانية في أوربا، لمسافة تمتد على مايقارب الخمسة آلاف كيلومتراً، إلى الاهتمام البالغ بالجاسوسية والدعاية والأساليب المختلفة في إخافة الخصم، وزرع الرعب في نفوس جنود الأعداء.
لاشك أن أهم أدوات الحرب النفسية، هي وسائل الاتصال، وعندما وجدت الولايات المتحدة، أنها بحاجة ماسة إلى الحرب النفسية في الحرب العالمية الثانية، سارعت إلى تأسيس إذاعة صوت أمريكا، التي انطلقت بعد عدة أشهر من الهجوم الياباني الشهير على بيرل هاربر، وأدت هذه الإذاعة دوراً مهماً خلال الحرب الباردة، وشهدت الكثير من التطوير على صعيد البث ووصوله إلى دول العالم المختلفة والاهتمام بنوعية البرامج الموجهة، واستحداث الاقسام الجديدة بلغات الكثير من الشعوب، التي تستهدفها الدعاية الأمريكية.
من الملاحظ، أن التغيير في السياسة الأمريكية، قد شمل أساليب الدعاية ووسائلها، فبعد ستين عاماً من حضور إذاعة (صوت أمريكا) التي كانت تنافس إذاعة (البي بي سي) البريطانية، فوجئ العالم بالاستغناء عن أسم هذه الإذاعة، وعن أساليبها في التعاطي مع قضايا العالم، وتم تكليف نورمان باتيز بإطلاق إذاعة (سوا) خليفة لتلك الإذاعة.
من الواضح، إن هذه الإذاعة تهدف إلى جذب أكبر عدد ممكن من الشباب، من خلال بث الأغاني الخفيفة والمنوعة، واعتماد صيغة الأخبار القصيرة، دون الدخول في التحليلات المعمقة، وتشير الكثير من الدلائل على عزوف النخب عن الاستماع إلى هذه الإذاعة، وإن الذين يريدون البحث عن الأخبار الساخنة من الشباب الذين يستمعون إلى إذاعة (سوا)، يديرون مؤشر المذياع لسماع نشرات الأخبار من إذاعات رصينة، يثقون بأخبارها وتحليلاتها، دون الاهتمام بمرجعياتها، ولو كانت (صوت أمريكا) باقية لاستمع أليها عدد ليس بالقليل، حتى من الذين لا يتفقون مع السياسة الأمريكية أو يقفون بالضد منها. ومن الواضح، أن تغيير السياسة الإعلامية الأمريكية، جاءت ضمن المنهج الواسع، الذي شهد تغييراً في الاستراتيجية الأمريكية، التي تم رسمها، بما ينسجم والمرحلة الجديدة، في حقبة مابعد الحرب الباردة.
إذا أردنا أن نعرف جوهر التغيير في السياسة الأمريكية، لابد من العودة إلى أهم مرحلة في تأريخ الولايات المتحدة، والتعرف إلى طبيعة التفكير، التي تحكم قادتها في ذلك الوقت، وتحديداً عندما دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية ضد دول المحور، ومقارنة تلك الفترة مع نمط التفكير الأمريكي، الذي عكسته الخطط الجديدة، مع دخول القرن الحادي والعشرين، وتحديداً خلال فترة الإعداد للحرب الأمريكية ضد العراق، فقبل ستين عاماً، تم تأسيس مكتب الاستعلامات الخاص بالحرب، بعد فترة قصيرة من تأسيسه، وتحديداً في العشرين من تموز/يوليو سنة 1942، أصدر Elmer Davis بياناً جاء فيه (أن هذه الحرب، هي حرب شعب، ولكي نكسبها يجب أن نعرف أقصى ما يمكن معرفته عنها، وسيبذل هذا المكتب جهده في أن يقول الصدق، ولا شيء غير الصدق، سواءً في داخل البلاد أو خارجها. أما المعلومات العسكرية، التي قد تساعد العدو فيجب الامتناع عن نشرها، ومع ذلك سنحاول في حدود هذا القيد أن نعطي للشعب صورة كاملة واضحة). هذا ماورد نصه في كتاب (الرأي العام) لمؤلفه د.محمد عبد القادر حاتم ص259.
بعد ستين عاماً، نجد أن العقلية الأمريكية، قد انقلبت تماماً على ماكانت تراه من الثوابت، التي لا يمكن الحياد عنها، وخلال الاستعداد لشن الحرب أو لنقل سلسلة حروب لاحتلال عدد غير محدد من الدول، جاءت خطة البنتاغون، التي تم الإعلان عن مضمونها في شباط/فبراير عام 2002، وفي العشرين من ذلك الشهر قالت صحيفة (نيويورك تايمز) أن مسؤولين في وزارة الدفاع صرحوا بأن البنتاغون يعتزم تزويد وسائل الإعلام الأجنبية بالأنباء، حتى إذا كانت كاذبة، وذلك، ضمن حملة جديدة للتأثير على المشاعر العامة وصناع القرار في الدول الصديقة وغير الصديقة، دون تفريق بينهما في تنفيذ هذه الخطة. وقبل الإعلان عن هذه الخطة، كان (البنتاغون) قد أسس (مكتب التأثير الاستراتيجي)، الذي يعمل على الاضطلاع بدور فعال في منطقة الشرق الأوسط وقارة آسيا حتى أوربا الغربية.
في اليوم التالي (21/2/2002) تحدثت صحيفة (الواشنطن بوست) بوضوح أكبر عن هذا المكتب وقالت أن خطته للحرب الدعائية قد تتضمن أخباراً كاذبة. وكان رتشارد مايرز رئيس هيئة الأركان المشتركة، قد وجه انتقاداً لإداء الجهات المعنية، وقال (أن أحد المجالات، التي أتسم فيها أداؤنا ببطء شديد، هو مجال الحملة المعلوماتية، لذلك فأننا وفي كثير من الأحيان، أضعنا الفرصة لتوصيل الرسالة الصحيحة إلى العالم).
لم تتوقف النقاشات عند جانب واحد، بل أن المسؤولين الأمريكيين، أرادوا الخروج بسياسة جديدة، بعد تجربة الحرب على افغانستان، تتناسب وحجم الهيمنة الأمريكية، لذلك فقد وجه بعض العسكريين انتقادات لاذعة لوسائل الإعلام، لأنها تركز على الخسائر بين المدنيين أثناء القصف. ويطالب العسكريون بالعمل في الأجواء المناسبة، لاستخدام القصف وفق مايرونه مناسباً، للوصول إلى قيادات القاعدة في أفغانستان، وتركزت شكاواهم على التأثير السلبي لتغطيات وسائل الإعلام، التي تقف أحياناً عقبة أمام عمليات القصف. ذلك يعني بوضوح، إن متطلبات المرحلة الجديدة، تتطلب أن يكون إداء القوات المسلحة بعيداً عن وسائل الإعلام، لكي لا تتردد القيادات العسكرية في ضرب الأهداف، حتى إذا كان على أساس الشبهة. ودون مراعاة سقوط أعداد كبيرة بين المدنيين، في سبيل الوصول إلى الهدف العسكري المطلوب.
الغريب في الأمر، إن الاعتراضات، التي حصلت في غالبيتها، لم تأبه لبقية الدول، وخطورة دس الأخبار الكاذبة لشعوبها، من خلال وكالات الأنباء العالمية، بل أن مخاوف المعترضين، ركزت على احتمال وصول تلك الأكاذيب إلى الشعب الأمريكي، وتقول (نيويورك تايمز 20/2/2002) بهذا الصدد (يقول معارضو إنشاء مكتب التأثير الاستراتيجي، أن عملية دس الأخبار المظللة وسط وكالات أنباء مثل (رويترز) و(وكالة الصحافة الفرنسية)، ربما يؤدي إلى نشر أو بث هذه الأنباء (الأكاذيب) في نهاية الأمر بواسطة وسائل الإعلام الأمريكية). وحذر آخرون في حينها، من اعتراض محتمل للدول الصديقة والحليفة للولايات المتحدة، من محاولات التأثير على وسائل الإعلام داخل حدودها.
ثم نجد بعد فترة أن الحديث عن هذا المكتب قد تلاشى، وبرز الحديث عن الصدمة والترويع، التي تمثل تطبيقاتها الأداء العلمي لذلك المكتب، وإن تمحيص ما حصل على العراق، يكشف هذه الجوانب، ويؤكد على فاعلية القادة العسكريين، وتأثيرهم الواسع والعميق على ميدان الصحافة والإعلام، على أن يرتبط ذلك بمسالتين حساستين هما:
1- العمل على توظيف الإعلام لإبراز القوة الأمريكية، وإظهارها على أفضل وجه، وعلى أوسع ما يكون أمام الخصم الآني، ومن ثم أمام الآخرين، من المرشحين لخوض الحروب القريبة والبعيدة، والذين قد يتعرضون لحروب اقتصادية، تحت تأثير الهيمنة الأمريكية.
2- ارتداء لباس الديمقراطية، واحترام رأي وموقف وسائل الإعلام، طالما أن الولايات المتحدة تمسك بالعصا الغليظة من الطرف الذي يخدمها، وعدم التردد في تهديد وسائل الإعلام بصورة مباشرة، أو غير مباشرة، إذا ما تعثرت العصا الأمريكية، ويمكن دراسة ذلك بالأمثلة والتفاصيل، وبصورة واضحة، بعد دخول الولايات المتحدة في اتون المأزق العراقي، وكيف أتجه وزير الدفاع رامسفيلد والخارجية كولن باول، لتوجيه الانتقادات اللاذعة لبعض وسائل الإعلام، لكشفها حقائق دقيقة، عن واقع يعيشه الجيش الأمريكي في العراق.
أن مايهمنا هو، ليس تقييم أداء وسائل الإعلام، وحجم الرقابة، التي فرضت عليها، بقدر ما يهمنا التأكيد على مسألتين أساسيتين، تتعلق الأولى، بالتغيير الهائل، الذي حصل في التفكير الأمريكي، والذي انعكس على سلوك القادة من العسكريين والمدنيين، إذا ما قارنا ذلك، بما حصل بداية الحرب العالمية الثانية، والمسألة الثانية، تؤكد انتهاج الولايات المتحدة الأسلوب، الذي يحقق أهدافها، وأنها مستعدة لركوب الموجة، التي تصل بها إلى الضفة الأخرى، دون أن تدقق بماهية وحقيقة، تلك الموجة، وإن كانت تتحرك على مياه أو دماء، وهذا يقودنا إلى قراءة قدمها انيشتاين لسلوكيات دولية من هذا النوع، عندما قال (طالما هناك دولة ذات سيادة، تمتلك قوة كبيرة، فالحرب لا مفر منها).
من هنا، تبدأ خطورة الانجرار وراء وهم القوة المطلقة، التي يقر العقلاء والفلاسفة، على أنها البوابة المرعبة للمفسدة المطلقة، وأن اقتران ذلك بسياسة دولة جديدة، في زمن القطبية الواحدة، ومن منطلق تنفيذ استراتيجية خاصة، تهدف إلى فرض الهيمنة الأمريكية فأن دراسة التجربة العراقية، والتطبيقات الخاصة بالصدمة والترويع، عبر أيام الحرب، التي سنأتي عليها، في ضوء الأسلوب الأمريكي الجديد، في التعامل مع المعلومات، وفي اعتماد سياسة، تختلف عن تلك، التي كانت متبعة في أمريكا، والتي اعتمدتها أساساً في تسويق أفكارها وثقافاتها إلى الكثير من دول العالم، خلال فترة الحرب الباردة.
الحلقة 9 : جدار بغداد .. يوميات شاهد على غزو العراق ” للصحفي العراقي وليد الزبيدي”
