1 الموصل.. الظالمية الحاضرة والمظلوميات الماضية
أمين بن مسعود
العرب
الاستمرار في الطائفية المدعومة من إيران، قد يفضي إلى تحرير بعض المناطق واستعادتها من قبضة الدواعش وإخوانهم ولكنه لا يبني دولة المواطنة ولا يؤصل لفكرة المواطنة العابرة لكافة الطوائف.
سؤال ما بعد التحرير العسكري من براثن تنظيم الدولة داعش الإرهابي أو الجماعات التكفيرية الأخرى، هو في الحقيقة سؤال المواطنة المفقودة والدولة الغائبة. هي منغصات التفكير العميق التي تحول دون الانخراط في جوقات التطبيل وسكر الفرح من حدث عسكري مهم في الموصل العراقية، ولكنّه يبقى بلا أثر وازن في ظلّ استحكام الطائفية السياسية وسياسة الطوائف المقوضة لفكرة الدولة والمواطنة.
سؤال ما بعد تحرير الموصل، أكثر أهمية من سؤال التحرير، لا فقط لأنّ الموصل وجزءا من القطاع الغربي العراقي يعيشان حالة من التهميش المؤسس بفرط عقاب جماعي مستدر من سرديات طائفية مقيتة، ولكن وهو الأهم لأنّ الدولة العراقية تعاملت مع معضلة الإرهاب من زاوية عسكرية وأمنية، ولم تقدّم بديلا اقتصاديا وسياسيا وثقافيا حقيقيا للموصل ولكافة أبناء العراق.
الاستمرار في الطائفية السياسية والمحاصصة الدستورية المدعومة من إيران، قد يفضي إلى تحرير بعض المناطق واستعادتها من قبضة الدواعش وإخوانهم ولكنه بالتأكيد لا يبني دولة المواطنة ولا يؤصل لفكرة المواطنة العابرة لكافة الطوائف.
صحيح أنّ الطائفية تمثّل طاعون العيش المشترك، ولكن هناك فرقا كبيرا بين الطائفية المتوازنة والمتوازية في السلطات والصلاحيات الموجودة في النموذج اللبناني حيث يفرض ذرّ منظومة الحكم على المذاهب والأعراق نوعا من توازن الطوائف وبالتالي يحتّم تعايشا بأمر الواقع بين اللبنانيين، وبين الطائفية الغالبة في النموذج العراقي، حيث تستحكم طائفة من الشعب العراقي على مقدرات البلاد والعباد وتجعل من الآخرين مجرّد أقليات في العدد أو السلطة أو النفوذ.
هنا نفهم الأسباب التي تجعل الكثير من العراقيين من طوائف أخرى غير الطائفة الشيعية يدعون إلى حظوظ أوفر في ظلّ النظام الطائفي، وهي ذات الأسباب التي تجعل الأكراد مثلا يجتهدون ويصرون على الانفصال والاستقلال من العراق.
وطالما أنّ النظام العراقي الجديد معلول في طائفيته ويعاني وباء المظلومية التاريخية والظالمية الراهنة، فإن اللحمة الاجتماعية والانصهار المواطني بعيدٌ زمنيا وسياسيا.
بنفس المعنى أيضا بالإمكان أن نفهم أسباب نكوص بعض الأحزاب السياسية المحسوبة على الشيعة عن المطلبية المواطنية والتي تتأسس على مراجعة شاملة وكاملة لميكانيزمات العمل السياسي العراقي يستبدل الطائفية السياسية بالمواطنة العراقيّة.
ذلك أن معظم الأحزاب الشيعية بمن فيها تلك التي تتدثر بعناوين العلمانية ولكنها سرعان ما تطلب البركة من المرجعيات الكبرى، تثبت علوية مصلحة الطائفة على حساب الوطن، وترضى باستدرار مظلومية طائفية جديدة لن تكون شظاياها أقلّ من استقلال جغرافي في الشمال وانفصال وجداني وهوياتي في معظم الجغرافيا العراقيّة.
الواجب يفرض استجلاء مقومات البناء ومقدرات الإعمار الوطني والإنساني في الموصل، وهي أسئلة لا يبدو أنّ الفاعل الرسمي العراقي قد طرحها سواء لتسوية المسائل القائمة أو لحلّ الاستحقاقات القادمة.
دعوة بعض الأحزاب العراقية الشيعية إلى مؤتمر للمصالحة الوطنية بعد تحرير الموصل، يحمل في طياته الإقرار بالخطأ السياسي حيـال باقي المكونات، والاعتراف بأنّ الموصل خرجت من الجغرافيا العراقية بفرط السياسات الطائفية الرسمية قبل أن تدخل رسميا في جغرافيا الدواعش. إلا أنّ مداواة الطائفية الغالبة والظالمة بسياقها الحـالي، بطائفية معدلة وفق النموذج اللبناني ولو كانت بصيغة مرحليّة، قد ترضي بعض المذاهب ولكنها بالتأكيد لن ترضي العراق.
3 شروط أساسية قد تشكل ترياق العراق وكينونة إعادة الإعمار الوطني والمواطنيّ؛ الحوار الشامل في قضايا الإنسان والأديان وإعادة تشكيل العلاقات مع الجوار، فصل الطائفية عن مؤسسات الدولة، والتعويض المادي والمعنوي لكافة ضحايا الظالميات الحاضرة بمقولة المظلوميات التاريخية.
2 إعادة إعمار العراق
د. شملان يوسف العيسى
الاتحاد الاماراتية
نشرت جريدة «الشاهد» الكويتية في صفحتها الأولى يوم الخميس 13 يوليو الجاري خبر إعلان سمو أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح عن استعداد الكويت لاستضافة مؤتمر دولي لإعادة إعمار المناطق المحررة في العراق قبل نهاية عام 2017. هذه الخطوة الإنسانية الكبيرة من سمو أمير الكويت، تأتي لتؤكد وقوف بلده مع الشعب العراقي المنكوب الذي داهمته الحروب الأهلية والإرهاب مما ألحق به دماراً وخراباً واسعين.
وهناك عدة تساؤلات علينا طرحها قبل بدء مؤتمر المبادرة الكريمة، وأول هذه التساؤلات: هل سيعقد المؤتمر بعد أن يسود الاستقرار ربوعَ العراق ككل، أم بعد تحرير الموصل فقط؟
ما نتمناه ونطالب به اليوم، بعد مرور أكثر من 14 عاماً على تحرير العراق من نظام الطاغية عام 2003 من قبل القوات الأميركية، هو تنفيذ ما طالبت به دول مجلس التعاون الخليجي، أي الدعوة إلى وحدة العراق وإبعاد النفوذ الإيراني الذي أصبح يتحكم في سياسات العراق الداخلية والخارجية، لذلك يأتي التحرك الكويتي بعد غياب التحرك العربي وغياب الرؤية العربية المشتركة حول كيفية إنقاذ العراق الشقيق من محنته بعد تحرير الموصل والقضاء على الإرهاب.
والسؤال الآن هو: كيف يمكن جمع الأموال لإعادة إعمار العراق، والكل يعرف (بما في ذلك الدول العظمى والأمم المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي والدول العربية) أن العراق بلد غني بثروته النفطية وثرواته البشرية والطبيعية الأخرى؟ نعم، إنه غني بالفعل، لكن ما ينقصه اليوم هو توفر قيادة سياسية وطنية تؤمن بوحدة الشعب العراقي وأراضيه.
لقد ابتلي العراق منذ عام 2003 بقيادات طائفية تؤمن بالانتقام من الفئة التي كانت تحكم البلاد سابقاً، وقد بدأت تخلق الانقسامات الطائفية المقيتة على أيدي أحزاب طائفية شيعية ومليشيات درّبتها إيران لتحقيق مصالحها في المنطقة. لقد بدأت الخلافات منذ عام 2003 بين السنة والشيعة، وذلك بسبب إصرار القيادات الجديدة على إقصاء كل طرف أو طائفة لا تنتمي حزبياً وطائفياً وأيديولوجياً لتيارها «السياسي»، مما مهّد الطريق لبروز حركات تزعم رفعها لواء الدفاع عن السنة، مثل «القاعدة» ثم «داعش»، واليوم توسع الخلاف ليشمل القيادات السنية السنية، والشيعية الشيعية، فكلها تتنازع على السلطة والقوة والمال، مما يدل دلالة قاطعة على أن طبيعة الصراع ذات بعد سياسي أكثر منه طائفياً.
وحتى تتحقق مبادرة إعادة الإعمار وتأتي بنتائجها المطلوبة، يجب عدم تسليم المساعدات والأموال للحكومة العراقية أو للساسة العراقيين (بمن في ذلك البرلمانيون)، فمعظم هؤلاء حولهم شبهات فساد وطائفية، كما أنهم لم يبذلوا أي جهد لإعادة إعمار العراق، لذلك لا توجد اليوم كهرباء ولا ماء ولا مدارس ولا مستشفيات ولا طرق.. ولا شيء سوى الدمار والفوضى، في معظم أنحاء البلاد.
يمكن للكويت ودول مجلس التعاون الخليجي والدول الأوروبية والولايات المتحدة، أي الدول المانحة للأموال، تشكيل فريق دولي متخصص في إعادة الإعمار لكل مناطق العراق، يتعاون مع حكومة وطنية تستقطب كل مكونات المجتمع العراقي دون إقصاء أحد، بل على قاعدة المساواة والمواطنة ورفض استغلال الهوية الدينية والعرقية وتوظيفها في الصراع على السلطة والنفوذ.
3 الموصل وعرسال والعفالقة المطلوبون
حازم صاغية الحياة السعودية
احتُفل، في لبنان، بسقوط الموصل كما لو أنّ أمتاراً قليلة تفصلنا عن شمال العراق. الأمين العام لـ «حزب الله» كرّم ذاك الحدث بحدث آخر هو خطابه. إذاً نحن أمام حدثين في واحد. لقد هبّت العاصفة مرّتين.
من دون شكّ، وبفتوى السيستاني أو من دونها، يستحقّ سقوط «داعش» في الموصل أن يُحتفل به. لكنّ ما جرى ويجري يوحي أنّ المحتفلين احتفلوا بسقوط المدينة نفسها وبدمارها المهول. هناك خلطة من تحرير واحتلال انقسمت حولهما العواطف.
والفارق بين الاحتفال بسقوط «داعش» والاحتفال بسقوط الموصل بسيط: واحد يريد أن يسقط «داعش» في الموصل، والآخر يريد أن تسقط الموصل في «داعش». قانون جديد لـ «اجتثاث داعش»، على غرار قانون «اجتثاث البعث»، سيكون كفيلاً بفرض الانتصار النهائيّ والحاسم لوجهة النظر الثانية. ذاك أنّ دمار عاصمة الشمال العراقيّ وإذلال أهلها أقصر الطرق إلى ازدهار التنظيم الإرهابيّ، إلى سقوط الموصل في «داعش». وازدهار هذا التنظيم مطلوب ومرغوب:
فهو، أوّلاً، يبرّر الاستمرار في مشروع طائفيّ راديكاليّ مقابل، مشروعٍ يجد في تنظيم البغدادي ذريعته وعلّة وجوده.
وهو، ثانياً، يبرّر المضيّ في إلحاق المنطقة بإيران، لأنّ خطراً كخطر «داعش» يستدعي الاستعانة بقاسم سليماني وحواشيه. هذا الميل يعزّزه أنّ التوافق الأميركيّ – الروسيّ في الجنوب السوريّ «قد» (؟) يحرم الإيرانيّين جسراً بارزاً من جسورهم إلى المشرق.
وهو، ثالثاً، يبرّر الدفاع عن الأسد ونظامه المتوحّش، إذ إنّ هذا النظام، وفقاً لروايته، لا يقاتل إلاّ الإرهاب التكفيريّ. التتمّة المنطقيّة التي يتلقّفها الأتباع في بيروت هي: ضرورة التطبيع مع النظام المذكور و «التنسيق» لأجل «عودة اللاجئين». في هذه الغضون يتمّ إخضاع اللاجئين إيّاهم لرقابة بوليسيّة ولإذلال أرعن يشارك فيهما السكّان. إنّ «الأخوّة»، مثلها مثل «الطريق إلى القدس»، تعمل بأشكال كثيرة ومتفاوتة!
وهو، رابعاً، يبرّر مضيّ «حزب الله» في الإمساك بلبنان ودولته وجيشه إلى ما لا نهاية، بل تشديد هذا الإمساك وتمتينه. والموضة الآن، ما بين بغداد وبيروت، أن يُحتفى بالجيش احتفاءً يشبه تسمين الطريدة، وأن يُمنح القرار لميليشيا كـ «الحشد الشعبيّ» أو «حزب الله». ذاك أنّ الجيوش ضعيفة أمام «داعش»، مثلما كانت ضعيفة أمام إسرائيل. إنّها ضعيفة أمام أيٍّ كان. الميليشيات وحدها هي الأهل لذلك، ولهذا ينبغي أن يبقى سلاحها بيدها إلى ما شاء الله.
تبعاً للأهداف أعلاه تبدو بلدة عرسال اللبنانيّة مُلحقاً بمدينة الموصل العراقيّة. الإلحاق هذا قد يتأخّر يومين أو ثلاثة، أسبوعين أو ثلاثة، إلاّ أنّه ماثل بقوّة في الأفق. فبالحجر العرساليّ يصاب لبنان وتصاب سوريّة معاً، وبه نتواصل مع الموصل فيما يتأكّد، مرّة أخرى، أنّ سلاح الميليشيا ضرورة قاهرة. ولأجل أهداف كتلك تسهر قيادةٌ سياسيّة وميدانيّة لا نكون تآمريّين إن وصفناها بالغرفة التي تسري أوامرها على مدى عريض عابر للحدود. إنّها، وبطريقتها الطقسيّة، تصف نفسها بذلك: قاسم سليماني يقبّل يد حسن نصر الله الذي قبّل يد علي الخامنئي.
لقد سبق أن عرفنا، في هذه المنطقة، «قيادة قوميّة» تحرّك «العمل الثوريّ من المحيط إلى الخليج». على رأس تلك القيادة وقف رجل بائس تبيّن لاحقاً أنّه زوج مخدوع في حزبه. إنّه ميشيل عفلق الذي دعا إلى «انقلاب في الحياة العربيّة» ففهم أتباعه العسكريّون أنّ المطلوب انقلاب عسكريّ في كلّ بلد عربيّ. وحين حاول أن يعترض، تمرّدت «القيادات القطريّة» على قيادته «القوميّة»، وتمرّد عليه حزبه وعسكره ليكتشف متأخّراً أنّ «هذا الحزب ليس حزبي وهذا العسكر ليس عسكري». ويبدو أنّ القوى والأحزاب التي من هذا النوع بحاجة دائمة إلى عفلقها، أو إلى اختراع عفلق ما، أو إلى استضافة غريب طارئ كي يكون عفلقها العابر. والعفلق هذا قد يكون جيشاً وطنيّاً، عراقيّاً أو لبنانيّاً، وقد يكون شخصيّة دينيّة كالسيستاني، أو سياسيّة كحيدر العبادي أو سعد الحريري. أمّا القرار الفعليّ، من الموصل إلى عرسال، فيبقى في تلك الغرفة السوداء التي تجهد لإسقاط المنطقة في «داعش».
4 الموصل بعد حلب: تدمير المآذن وتشويه التاريخ
ناصر الرباط
الحياة السعودية
دفعت الموصل ثمن استعادتها من «داعش» غالياً. قتل ودمار وخراب ستستلزم عقوداً طويلة لنسيانها وموازنات ضخمة لإعادة بنائها. ولا نعلم حقاً إذا كان من الممكن ترميم الدمار الذي لحق النفوس والمشاعر بسبب تجاوزات من يفترض فيهم تحرير المدينة من طائفية «داعش» العنيفة والحدّية، فبدا كما لو أن بعض هؤلاء المحررين أتى فاتحاً وغازياً، لا مستعيداً لمدينة في وطنه. وهذا تماماً ما حصل في سورية، في حلب وحمص وغيرهما، وكما لا بد حاصل في الرقة التي التفتت الأنظار إليها الآن في عملية التطهير الواسعة ضد «داعش» التي تحركها الولايات المتحدة ويلعبها فرقاء محليون لا يبدو أنهم يتذكرون أن الملعب الذي عليه يلعبون لعبتهم الخطرة والقذرة كان يوماً ما وطنهم.
حدث مهم بين أحداث عدة مؤسفة في تحرير الموصل ثارت حوله الخلافات التي تصاعدت حدة الكثير منها، كما دأبنا اليوم في خلافاتنا، للوصول إلى حد الاتهام بالعمالة أو الخيانة أو التطاول على الجيش وقوات «الحشد الشعبي» التي بذلت الكثير في سبيل تحرير المدينة من «داعش» (طبعاً بعد أن كانت قد فقدتها ببلاهة وقصر نظر هائلين قبل ثلاث سنوات)، وهي كلها مواضيع مقدسة لا يجوز المساس بها في خطابنا العربي المأسور ضمن عقلية إقصائية بائسة. هذا الحدث هو تدمير منارة الجامع النوري الحدباء في ٢١ حزيران (يونيو) وتبادل الاتهامات بين الأطراف المتصارعة عن مسؤولية تدميرها التي لم تحسم بعد. هذه المأذنة التي أعطت اسمها للمدينة في صفة محببة، وإن كانت تشير إلى عيب في بنائها، صمدت على مر القرون. فقد أمر ببنائها نور الدين محمود ابن زنكي الأمير التركي الذي وحد سورية الداخلية وأجزاء كبيرة من شمال العراق في مسعاه لاسترداد فلسطين من الصليبيين، ومصر من الفاطميين الإسماعيليين، وعموم سورية من الأمراء المتناحرين عام ١١٧٢. سياسة التوحيد التي اتبعها نور الدين ترافقت مع سياسة تسنين واضحة لدى هذا الأمير المتدين والطموح الذي وعى أن توحيد الجبهة الداخلية عقائدياً وسياسياً ضروري لمقاومة المد الصليبي الذي كان هدفه الأول.
مأذنة الجامع النوري في الموصل كانت كل ما بقي من جامع نور الدين. ولا يبدو لي أن تدميرها جاء نتيجة ضرورة عسكرية أو بسبب ضغط العمليات ضد «داعش»، بل لا بد أنه كان مقصوداً، تماماً كما كان تدمير مأذنة الجامع الأموي الكبير في حلب يوم ٢٣ نيسان (ابريل) ٢٠١٤ فعلاً متعمداً أيضاً. فالمأذنتان ترمزان الى الفترة ذاتها والسعي ذاته والعقلية ذاتها. كلتاهما نتاج العائلة الزنكية التي حكمت في سورية والعراق نحو القرن والتي استطاع أعظم أمرائها نور الدين محمود (وليس زنكي كما يخطئ الكثيرون في كتابة اسمه) استعادة زمام المبادرة في الحروب الصليبية وتمهيد السبيل أمام النصر الهائل الذي حققه صلاح الدين، الذي كان أحد قواده العسكريين، عام ١١٨٧ في معركة حطين واستعادته القدس إثر ذلك.
نور الدين بنى مأذنة الموصل في آخر سنوات حكمه، ومأذنة حلب بنيت على مراحل لكن إتمامها بالروعة التي كانت عليها تم على عهد آقسنقر، جد نور الدين ومؤسس الدولة التي عرفت فيما بعد بالزنكية أو الأتابكية، عام ١٠٩٤. أي أن المأذنتين مرتبطتان بطريقة أو بأخرى بنور الدين وبذكراه، وتدميرهما يحمل في طياته رسائل عابرة للزمن عن أحقاد وثارات لم تمت بعد بل تفاعلت وتطعمت بوقائع العصر الحديث وسياساته وتحالفاته لتكسب بُعداً آنياً. تدميرهما هو في الحقيقة تشويه متعمد للتاريخ.
لكن من دمرهما؟ هل هم الشيعة الذين لم يغفروا لنور الدين سياساته القمعية ضد شيعة سورية، بخاصة في حلب، بعد أكثر من تسعة قرون؟ أم هم «الداعشيون» الذين لم يهضموا أن يكون هناك أمير سني مجاهد من طراز نور الدين ولكنه في الآن نفسه متصوف ومتأله يعتقد بشيوخ الصوفية ويراعي مشاعر مدارس السنّة كلها؟ أم النظامان في العراق وسورية اللذان، كل لأسبابه، يحملان ضغينة عميقة ضد الوجه السني للمدينتين؟ أم القوات المحاربة الحليفة، خصوصاً الأميركية في العراق، التي لا تقيم وزناً للتراث الثقافي للبلاد كما أثبتت غير مرة؟ هم أي من هؤلاء؟ لعلنا نتمكن يوماً من تحديد المجرم الحقيقي في كلتا الحالتين بما أن الأدلة المتوافرة الآن، على الأقل بالنسبة لمراقب بعيد مثلي، غير كافية لتحديد الفاعل. لكنّ المدمرين الحقيقيين بنتيجة الأمر هم نحن كلنا، بثقافاتنا المتعادية وخطاباتنا الطائفية ونوازعنا التي لا ترضى إلا أن تستثمر في التاريخ كما لو أنه أداة عقائدية وسياسية في أيدينا نفعل به ما نشاء، نتشارك فيه مع البعض ونحرمه عن البعض الآخر.
كلنا مسؤول عن التدمير الهائل اللاحق بالبلاد وعن تدمير معالمها التاريخية عمداً كما في حالة المأذنتين، أو عرضاً كما في حالة مبانٍ أخرى لا تحصى، وفي شكل خاص تلك التي تنتمي للفترات ما قبل الإسلامية. فنحن كمواطنين وكثقافة لم نرق يوماً إلى مستوى الإحساس بأن تراث بلادنا كله تراثنا وأن المحافظة عليه واجبنا كلنا، وأن التركيز على معانيه السياسية وتقسيمه بين تراث مقبول وآخر مرفوض يستحق الإزالة، إنما يخالف في الآن نفسه المعنى الحقيقي للانتماء للوطن وللمحافظة على التراث. التراث الوطني كل كامل متكامل يصلنا بماضي الأرض التي عليها نشأنا والحضارات التي تتالت عليها والتي كونت ثقافاتنا شئنا أم أبينا. والمحافظة على هذا التراث بكامله، بغض النظر عن حقبته أو بانيه، واجب وطني وأساس من أسس بناء الوطن في الآن نفسه. كلنا مسؤول عن ذلك، وكلنا مسؤول عن التدمير الذي حاق بتراثنا، ببطء وإهمال قبل الحروب الطائفية، وبحقد وضغينة وتشفّ خلال الحروب التي تعاني منها بلادنا اليوم.
يبقى نور الدين، ذلك الأمير المجاهد والمفترى عليه من كارهيه ومحبيه على السواء. قبره في دمشق انتظر طويلاً قبل أن يحصل على بعض العناية. وذكراه أُهملت في الكتب المدرسية ربما بسبب ألق صلاح الدين الذي استكمل جهاده، وربما لأسباب أخرى عرقية أو طائفية أو حتى من منطلق الجهل المعشش في ذاكرتنا الجمعية. لكن نور الدين، على تسننه ومحاربته للتشيع، كان أميراً عظيماً. فهو الذي وضع أسس التسامح السني بسبب من دعمه للتصوف، الذي كان وما زال أفضل ترياق للمغالاة والتشدد، وبسبب من رعايته للمدارس الفقهية كلها على رغم انتمائه للمدرسة الحنفية، كما كل الحكام الأتراك. وهو الذي وضع أسس استراتيجية الاستعادة التي اتبعها الأيوبيون والمماليك من بعده وحرروا سورية من الصليبيين. وهو إلى ذلك كان زاهداً عادلاً ومحنكاً، وهي صفات لا نجدها في أي من حكامنا الحاليين.
5
استعادة الموصل وعودة العراق غسان شربل
الشرق الاوسط السعودية
لم يكن متوقعاً لدويلة «داعش» أن تعمر طويلاً. لا العراق يستطيع التعايش مع ورم سرطاني من هذا النوع. ولا إقليم كردستان يستطيع القبول بجار بهذه الخطورة. دول المنطقة لا يمكنها التساهل. والعالم لا يمكنه التسامح. أثارت دويلة البغدادي قلق الجميع. وكان لا بد من قرار باستئصالها. وهذا ما حصل.
ومنذ البداية قال الخبراء إن هذه الدويلة موعودة بالسقوط. وإن الإرهاب يرتكب خطأ قاتلاً حين يصبح له عنوان معروف يمكن الانقضاض عليه. وإن قوة الإرهاب أصلاً أن يكون متخفياً ومفاجئاً ولا يملك عنواناً لتدفيعه ثمن ارتكاباته.
ومن حق السلطة العراقية أن تحتفل بالنصر. كان تحصن «داعش» في الموصل تهديداً خطيراً لاستقرارها ووجودها. كان مشروع مذبحة مفتوحة وفتنة دائمة. ولا مبالغة في القول إن الانتصار الذي تحقق محا صورة مؤلمة ظهرت قبل ثلاث سنوات يوم استسلمت قطعات كاملة من الجيش العراقي أمام «داعش» ومكنته من الاستيلاء على ترسانة كاملة من أسلحتها الأميركية الحديثة. قدم الجيش العراقي تضحيات كبيرة لمحو تلك الصورة وإنقاذ المدينة والبلاد. وكانت قوات البيشمركة قدمت بدورها تضحيات كبيرة لإحباط حلم «داعش» التحصن في الإقليم والتمركز عبره على حدود إيران وتركيا وسوريا.
ومن حق حيدر العبادي أن يرفع يده تحية للقوات التي تحتفل بالنصر. إنه رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة. والأكيد أن مصير موقعه وتجربته كان معلقاً على نتائج معركة الموصل. واليوم باستطاعته القول إن الجيش اندحر في عهد سلفه لكنه انتصر في عهده. وإن الموصل سقطت في عهد المالكي واستعيدت في عهد العبادي. وإن انتصار الموصل يضاعف شرعيته داخل حزبه والمكون الذي ينتمي إليه وكذلك على الصعيد الوطني. وهذا ليس قليلاً بالنسبة إلى من يعرف قصة العلاقة الشائكة بين رئيس الوزراء الحالي وسلفه الذي بقي ظله مهيمناً على الحياة السياسية رغم خروجه من مكتبه تحت وطأة كارثة الموصل.
في الحديث عن الانتصار على «داعش» لا بد من الالتفات إلى ما سبق استيلاءه على الموصل. والحقيقة هي أن التنظيم ولد عملياً من مجموعة أخطاء وخطايا وسياسات فئوية وتدخلات إقليمية رافقت التصدع الذي أصاب التركيبة العراقية والعلاقات بين مكوناتها.
ولد «داعش» على مسرح شهد تعاقب قرارات خاطئة وسياسات مستفزة. لا يصح أن ننسى قرار بول بريمر حل الجيش العراقي وبعده قرار اجتثاث «البعث»، وهو ما دفع عسكريين من جيش صدام حسين إلى أحضان المقاومة أولاً، ثم إلى أحضان التنظيمات «الجهادية»، وصولاً إلى تنظيم البغدادي. ولد أيضاً لأن الفريق الذي انتصر وهو شيعي لم يسارع إلى وضع انتصاره في تصرف مشروع دولة تتسع للجميع. قسم من هذا الفريق تعامل مع الانتصار بوصفه بداية لتصفية حساب تاريخي، ما فتح الباب لتأسيس ظلم جديد انطلاقاً من الثأر من ظلم سابق.
لا الفريق الذي انتصر أحسن إدارة انتصاره ولا الفريق الذي خسر أحسن انتهاج سياسة تحد من الخسائر. ثمة واقعة لافتة في هذا السياق. بعد سقوط صدام حسين زار وفد من فاعليات العرب السنة رئيس إقليم كردستان العراقي مسعود بارزاني للبحث في مستقبل الوضع العراقي. خلال اللقاء نصح بارزاني أعضاء الوفد بتشكيل هيئة تنطق باسمهم وتعبر عن هواجسهم ومخاوفهم وتستطيع التحدث إلى ممثلي المكونات الأخرى.
قال بارزاني للوفد إن المهم هو تجنيب العراق صداماً دموياً بين المكونات. واعتبر أن على العرب السنة التفكير في موقعهم في العراق الجديد لأن العودة إلى الماضي مستحيلة. وأشار إلى أن الدستور العراقي يتضمن الحق في قيام أقاليم تبقي العراق موحداً لكنها تقلص أسباب الاحتكاك والتصادم بين المكونات. وأن على العرب السنة التفكير في خياراتهم المستقبلية لأن انقساماتهم ستجعل الحلول تتم على حسابهم. لم يتفق زعماء العرب السنة. قسم استقطبه الوضع الجديد وأغراه بمكاسب، وقسم تعنّت وتمسك بحلم إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. ومع تقلص الحضور الجدي للمكون السُنّي في المؤسسات العسكرية والأمنية ودوائر صناعة القرار، ومع تزايد الدور الإيراني في إدارة العراق، وقع جزء من الرأي العام في المناطق السُنّية تحت جاذبية الخيارات الانتحارية وعثر «داعش» على نافذة للتسلل منها.
لا يرمي هذا الكلام إلى التقليل من حجم الانتصار الذي أثار ارتياحاً عربياً وإسلامياً ودولياً. إنه يهدف إلى القول إن الانتصار على مسلحي «داعش» في الموصل لا يعني نهاية التنظيم الذي قد يعود أكثر خطورة حين يصبح بلا عنوان معروف. وأن الانتصار على المسلح «الداعشي» قد يكون أسهل من الانتصار على فكرة «داعش» نفسها. الانتصار الدائم على الظروف التي سهلت ولادة «داعش» يستلزم إصلاحات وإعادة النظر في سياسات والبدء ببناء دولة المؤسسات في العراق. وهذا يعني اعتماد مبدأ المواطنة والشراكة الوطنية واحترام الدستور وترميم هيبة الدولة وقدرتها على صناعة قراراتها في بغداد.
لمنع عودة «داعش» إلى هذه المدينة أو تلك. ولمنع ولادة ما يشبه «داعش» أو ما هو أخطر منه، لا بد للعبادي من تحويل انتصار الموصل إلى تفويض بالعودة إلى بناء الدولة العراقية على قاعدة المصالحة والمشاركة، وهي قاعدة تتخطى المحاصصة الطائفية والمذهبية.
على حيدر العبادي أن يلتفت إلى ساعته. الصعوبات هائلة والضغوط كثيرة. لكن جعل معركة استعادة الموصل بداية لعودة العراق تستحق المغامرة. عودة العراق دولة طبيعية بعد ترميم العلاقات بين المكونات. وإذا سادت هذه الروح في بغداد سيمكن العثور بالتأكيد على صيغة لإبقاء إقليم كردستان جزءاً من العراق، حتى ولو قال المكون الكردي كلمته في الاستفتاء.
عودة العراق حاجة عراقية ملحة. وحاجة عربية وإقليمية. انكسار الضلع العراقي أطلق شهيات الدول غير العربية في الإقليم. وانكسار الضلع العربي السُنّي في الداخل أطلق عملية التفكك والتشرذم وحوّل العراق مسرحاً لميليشيات الداخل والخارج. الكلام الأخير للمرجعية عن ضرورة تساوي جميع العراقيين من كل المكونات أمام القانون يجب أن يشجع العبادي على الذهاب أبعد في هذه المحاولة.
لا تكفي استعادة الموصل. لا بد من عودة العراق إلى وحدته ومؤسساته وحرية قراره واحترام حدوده. العراق ليس دولة هامشية. لا في الجغرافيا ولا في التاريخ. ووحدها يقظة الروح العراقية بعيداً عن مشاعر الشطب والاستئثار والتعصب تحمي الكيان وتمنع عودة «داعش» وأخواته إلى هذه البلدة أو تلك المدينة.