1 | لماذا كرهتم أوطانكم أيها السياسيون؟
| فاروق يوسف
| العرب |
لقد صار العربي يرى كارهي أوطانهم سادة في بلدان هم حثالتها. ألا يكفي ذلك سببا لكي ينفض الكثيرون أيديهم من الوطن. في أزمنة الإنشاء المدرسي لم يكن المرء في حاجة إلى أن يجيب على سؤال وردي من نوع “لماذا نحب أوطاننا؟”.
كان الطغاة يومها في الأعالي، غير أن الأوطان كانت مستقرة وإن في مكان سفلي. لم يكن المرء في حاجة إلى أن يتساءل أين يقع وطنه.
فالطغاة لم يحجبوا بشموسهم الساطعة الأوطان. على الأقل كانت فكرة الوطن تركض لاهثة بين سطور خطاباتهم. لا يشكك أحد في وطنية أولئك الطغاة الغابرين، بل قد تكمن واحدة من أعقد مشكلاتهم في شحنة وطنيتهم الزائدة.
لقد وأد مرضهم الوطني في نفوسهم القدرة على رؤية الإنسان حرا، مستقلا وكريما. فهم من خلال وطنيتهم تجاوزوا مفهوم الإنسان الذي ابتكر مفهوم الوطن من أجله.
لذلك كان الوطن ترابا ومياها وهواء وتاريخا من غير أن يكون هناك ذكر للإنسان الذي غُيّب من أجل أن يكون الوطن خالدا. كان شاعر عراقي قد لخص علاقة الحاكم بالوطن ببيت مأثور يقول فيه “إذا قال صدام قال العراق”، وهو ما يعني تماهي الزعيم مع الوطن إلى درجة التطابق.
ولأن أحدا لا يستطيع التشكيك بوطنية صدام حسين، فقد وجد البعض ممَّن قبلوا لأنفسهم أن ينخرطوا في مشاريع تهدف إلى تمييع الشعور الوطني وإذابته أن تلك الوطنية كانت هي السبب في تدمير العراق.
ظاهريا تبدو الفكرة مقنعة، غير أنه في إمكان من يتفحصها من الداخل أن يدرك أن تلك الفكرة تضرب عصفورين بحجر واحد.
فهي من جهة تدمغ الوطنية بختم شرير يجعلها جزءا من نزعة العنف التي سادت في العراق خلال السنوات التي حكم فيها صدام حسين رئيسا، ومن جهة أخرى فإنها تعزو زوال العراق إلى نوع مريض من الوطنية لا إلى مشروع الغزو الأميركي الذي أنتج احتلالا لحقته حكومات لا تؤمن بالعراق وطنا.
ربما علينا أن نخرج موضوع العراق من رأسنا بسبب ما ينطوي عليه من تقاطعات سياسية تاريخية، كان العراق قد وقع ضحية بعد أن غمره الطغاة عبر التاريخ بمياه بطولاتهم.
الوطنية في غير مكان من العالم العربي تتعرض اليوم للنسف من الداخل. ما من شيء يشير إلى أن سياسيي تلك الأماكن يحبون أوطانهم، فإضافة إلى أنهم لا يجيدون كتابة الإنشاء المدرسي، فإن أفعالهم تكشف كم هم بعيدون عن الموقع الذي يجعل الإنسان محبّا لوطنه من غير سؤال.
مَن يحب وطنه لا يسرقه ولا يتآمر عليه، ولا ينشر الفتنة والفساد فيه، ولا يعطّل حيويته ولا يبث روح الكسل في خدمه الساهرين على صحته، ولا يحارب كفاءاته ويعلّي من شأن جهلته، ولا يمس ثوابته ولا يغلب عقيدته عليه، ولا يضعه على موائد الآخرين، ولا يرضى أن يكون الوطن غنيمة لأي أحد.
لذلك فإن الوطن كان هو الخاسر الأول بسبب صعود سياسيين غير معنيين بحبه. فهم لا يؤمنون به. لا يؤمنون بنظافته ونزاهته وكرامته وحريته ومستقبله وعلو شأنه وسعة صدره وأبوته وقدرته على البقاء عبر أجيال، سيكون سؤالها الوحيد “لماذا كرهتم أوطانكم؟”.
ولكن السؤال الأسوأ الذي سيعذب الأجيال المقبلة هو “لماذا بعتم أوطانكم؟” وهو سؤال يعبّر عن حقيقة ما جرى ويجري في العالم العربي. لقد أفسد السياسيون الطالعون من الأزمات كل شيء يمت بصلة إلى علاقة الإنسان بوطنه.
يفضل اليمني والعراقي والسوري والليبي أن يكون لاجئا في الغرب على أن يظل عالقا في الأرض الحرام التي تفصل بين المحاربين. تلك الأرض التي كان اسمها يوما ما وطنا. لقد تحولت الأوطان إلى أماكن للقتل المجاني والعبثي الذي لن ينتهي إذ لا يمكن التكهّن متى ينتهي.
لقد صار العربي يرى كارهي أوطانهم سادة في بلدان هم حثالتها. ألا يكفي ذلك سببا لكي ينفض الكثيرون أيديهم من الوطن. | |||
2 | سوسيولوجيا الكراهيات الطائفية في العراق
| سليم سوزه
| الحياة السعودية |
على عكس الباحث الأميركي المرموق دانييل غولدهاغن في كتابه «القاتلون عن عمد»، الذي رأى أن الكراهية أصيلة في المجتمع الألماني تجاه اليهود، رفض باحث أميركي آخر هو كريستوفر براوننغ، في كتابه «الرجل العادي»، التفسير الأول، مجادلاً بأن ما فعله هتلر باليهود لم يكن بسابق تخطيط، بل سلوك وظيفي بنيوي معقّد، تصاعدت حدّته وشدّته تدريجياً نتيجة جملة من الأسباب السياسية والإقتصادية والثقافية، حتى وصلت إلى لحظتها النهائية باتخاذ قرار الإبادة.
ينفي براوننغ أصالة الكراهية في المجتمع الألماني ويعتبر ذلك المجتمع طبيعياً، كأي مجتمع آخر. وحتى لو صدق غولدهاغن في دعواه بأن أغلبية المجتمع الألماني كانت مع قرار هتلر بالإبادة، فإنما ذلك بسبب الوعي الجمعي الجبان الذي يستسلم لشروط القوة نتيجة عقود من التلقين الإيديولوجي التي خدّر بها النازيون الشعب الألمــاني وأوهموه بأن الخلاص من اليهود خلاص للألمان من مآسيــهم وانحــطاطهم الإقتــصادي/الثقافي/الاجتماعي.
بعبارة أخرى، براوننغ الوظيفي يعتقد بأن الكراهية تشكَّلت عند الألمان ولم تولد معهم.
وما ينطبق على الألـــمان ينطبق على غيرهم، بما في ذلك العراق. ففيه، ارتفع منسوب الكراهــية بصــورة ملــحوظة في السنين العشر الأخيرة. أخص بها تلك التي بين أبناء الطائفتين الرئيسيتين، الشيعة والسنّة، لا كلهم طبعاً.
من الصعب تعميم هذا الاستنتاج من دون وجود إحصاءات ودراسات دقيقة بالتأكيد، لكنْ ليس من الصعب معرفة مزاج أغلبية العراقيين وكيف صارت الكراهية الملمح العام لخطاب أتباع الطائفتين، وكيف انعكست تلك الكراهية في سلوكهم العام، في إعلامهم، في طريقة تفسيرهم للأحداث السياسية، في رؤيتهم لمشكلاتهم الاجتماعية إلى درجة لا يمكن لأحدنا الحديث عن قضية معينة من دون أن يُربَط حديثه ذاك بالطائفة «المكروهة».
هذه الكراهية لم تولد مع العراقي بل تشكَّلت عنده نتيجة أسباب عدة، دينية وسياسية وثقافية. هنا أتحدث فقط عن منتهى تلك الأسباب ومؤداها، حيث تشترك مجتمعةً في صناعة شيء واحد، في النهاية، هو «الخوف من الآخر».
الخوف من الطائفة الأخرى هو ما يدفع الفرد للاحتماء بطائفته والانغماس فيها إلى حد العزلة.
مخطئ مَن يعتقد بأن الطائفة في العراق مذهبٌ ديني، لا أبداً، بل هي منظومة إيديولوجية معقّدة لديها القدرة على احتضان حتى الفاسدين من أتباعها ما داموا يشكلون ربحاً عددياً لها، مهمتها تسويق الأجوبة الجاهزة عن أكثر الأسئلة تشكيكاً بقيمها ومبادئها. وهي قد لا تمتلك سلاحاً، لكنها تملك ما هو أخطر: مصنعاً فعّالاً لإعادة تدوير سرديات الماضي وانتاج قصص جديدة من المظلومية تُبقي وتحافظ على ذلك «الخوف من الآخر» متّقداً ومستمراً في نفوس أتباعها.
مع «الخوف من الآخر»، يسهل للطائفة استغلال مشاعر الجماعة وتوجيهها توجيهاً مقصوداً نحو بناء صرح الكراهيات والاحتماء بسقوفها.
ليس كل شيعي يكره السنة طائفياً متعصباً لمذهبه الديني، وليس كل سنّي يكره الشيعة ملتزماً بتعاليم مذهبه، بل خوف أحدهما من الآخر ما يصنع حدود ومستويات تلك الكراهيات المتبادلة. الكراهيات التي تدفع في أصحابها نزعة الميل نحو الهوية الطائفية بوصفها ملجأ القوة ومكمن الأمان النفسي لمَن يعيش هوس التهديدات الطائفية وأوهامها.
الطائفة هي القوة التي تمنح المرء الأمان النفسي حين ينهار الوطن أمامه، والعيش في حيز تلك القوة ليس مكلفاً أبداً، لا يحتاج سوى إعلان الكراهية للطائفة الأخرى. وحتى لو كان إعلاناً منافقاً هدفه الفوز برضا الجماعة فقط، ستتشكَّل الكراهية عنده يوماً بعد يوم وتصبح جزءاً من شخصيته وتفكيره. كلما زالت سلطة الطائفة وتفكّكت تأثيرات الجـــماعة تفكـــّكت معها الكراهيات المتشكّلة وصار الندم حديث مَن اقترف لسانه أو يده جرماً بحق الآخر. لنا في اعترافات مجرمي الهوتو والتوتسي خير مثال على ذلك.
الكراهيات الطائفية في العراق ليست أصيلة، بل هي تشكّل اجتماعي غير سوي قائم بمجمله على «الخوف من الآخر» ومن أن يفرض أحدهما سلطته على الآخر.
لو تعززت ثقة الاثنين، الشيعي والسنّي، بنظام وعدالة سلطتهما السياسية لاضمحلت الهوية الطائفية عندهما وحلّت الوطنية بديلاً عنها. تزول الطائفة ويبقى المذهب بوصفه اختلافاً فكرياً طبيعياً.
|