ت | عنوان المقالة او الافتتاحية | اسم الكاتب | مكان النشر |
1 | كيف وحّد بارزاني دولة ممزقة اسمها العراق؟
| هوشنك وزيري
| الحياة السعودية |
تتوالد عواقب استفتاء كردستان العراق على النقيض مما كان يهدف إليه، ومعها يقترب المشهد الكردي العام من اكتماله المأساوي.
تمثل أحد تداعيات الاستفتاء الذي أصر رئيس إقليم كردستان السابق مسعود بارزاني على إجرائه في وقت عارضه العالم أجمع بلغة في غاية الوضوح، ربما باستثناء الرئيس الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، في خطاب تنحي بارزاني ليلة ٢٩ تشرين الأول (أكتوبر) والذي أعلن فيه رفضه تمديد فترة رئاسته.
وكان خطابه خليطاً غريباً من المناحة والتحدي، مستعيراً اللغة التقليدية للضحية إضافة إلى بعض كليشيهات بائسة في محاولاتها إثارة التعاطف من قبيل «الجبل هو الصديق الوحيد للكرد»، فألقى اللوم كله على العالم أجمع إلا نفسه أو حزبه أو العقل السياسي الكردي في شكل عام.
خدم بارزاني رئيساً لإقليم كردستان لولايتين شرعيتين فترة ثماني سنوات انتهت في ٢٠١٣، وبعدها استمر رئيساً أربع سنوات أخرى عبر اتفاقات أبرمت بين حزبه وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الراحل جلال طالباني. والحزبان تقاسما كل شيء في كردستان منذ ١٩٩١.
وخلال فترة بارزاني الرئاسية التي استمرت لأكثر من ١٢ عاماً، لم يكن العراق الذي عانى أهوال محن عديدة، إلا جسداً شبه ميت، دفعت حروبه الأهلية المزمنة، الخفية منها والمعلنة، إلى أن يتقوقع مواطنوه كل في عزلة عن الآخر في جزر مشحونة طائفياً أو إثنياً.
ونادراً ما كان العراق دولة موحدة بعد ٢٠٠٣ إلا في خطابات انتخابية لساسة المنطقة الخضراء، أو في السياق اللغوي لديبلوماسيي الأعراف الدولية، أما على الأرض وبين الجماعات التي تعيش داخل الخارطة العراقية فكان الأمر يبدو مختلفاً قليلاً. فكان جزء العراق الغربي السني الممتد على طول الحدود السورية وصولاً إلى الحدود الأردنية، إضافة إلى أجزاء من الوسط القريب من العاصمة، محتلاً لأكثر من ثلاث سنوات من قبل دولة داعش السنية المتطرفة. وتمتع إقليمه الشمالي بنوع من الاستقلالية لأكثر من ربع قرن، بل كثيراً ما تصرف هذا الإقليم بعد ٢٠٠٣ كدولة مستقلة عن دولة العراق، لها السيادة التامة على ثرواتها النفطية ومنافذها الحدودية ومطاراتها الدولية التي كثيراً ما حط فيها رؤساء وملوك الدول. حتى زائرو الإقليم الأجانب كانوا يدخلونه من دون الحاجة إلى الحصول على تأشيرة دخول من العاصمة بغداد.
استمرت هذه الانقسامات التي كثيراً ما وصلت إلى حد شرذمة جغرافية في الخارطة العراقية، حتى ارتكب بارزاني مأساته الفادحة بإصراره على إجراء استفتاء الاستقلال، متحدياً العالم كله من أجل لحظة مجد شخصي سرعان ما تحول إلى انتحار سياسي.
بعث الاستفتاء الكردي وما نتج منه من عواقب كارثية، الحياة مرة أخرى وبقوة في خطاب الوحدة الوطنية العراقية المطروح بحس نوستالجي بكائي منذ نيسان (أبريل) ٢٠٠٣، جاعلاً رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بطلاً وطنياً بامتياز. فقد منحت عودة كركوك إلى «حضن الوطن»، ولو كان هذا الحضن مجرد كليشيه لغوي، ما لم تستطع عودة مدينة الموصل أو الفلوجة وحروب داعش والانتصارات المتلاحقة منحه له وللعراقيين العرب في شكل عام، ألا وهو خطاب الوحدة الوطنية، والانتقال بالصراع العراقي المزمن من مستواه الطائفي، الشيعي – السني إلى صراع آخر يتخذ من مفهوم السيادة أداة أساسية له وطرحه كشعار سياسي بهدف بناء خطاب وطني بهوية عراقية شمولية.
لكن بعيداً عن مفهوم الهوية العراقية الجامعة التي كثيراً ما ارتبطت بهوية حاكمها، وبعيداً من مفهوم «السيادة الذي فتح الباب مؤخراً لخطابات شعبية عروبية مبتذله لا تحيل إلا إلى لغة البعثيين القدامى وتدعو إلى «استئصال الانفصاليين» في «شمال عراقنا الحبيب»، ما الذي أخطأ فيه بارزاني وجعل المعركة سريعة الحسم لمصلحة خصمه العبادي، أو بالأحرى لمصلحة عراق مواحد؟
ليست هذه المرة الأولى التي يخطئ فيها ساسة أكراد، تحديداً الجناح البارزاني، هذا إذا أردنا أن نكون أكثر دقة وعدلاً، في قراءة سياسة أميركا إزاء العراق والشرق الأوسط عموماً، وليست المرة الأولى التي لا يرى فيها ساسة أكراد أبعد من أرنبة أنفهم، على ما أوحى خطاب بارزاني الذي كان مليئاً بجمل كـ «الشيء الذي لم يكن متوقعاً».
ربما يكمن أول عوامل الخطأ في الانفصام التام الذي يعيشه بارزاني ليس عن العالم بل حتى عن الداخل الكردي، ويجسد وجود مكتبه وإقامته بالقرب من الجبال وبعيداً عن أربيل العاصمة حوالى ثلاثين كيلومتراً رمزية هذا الانفصام.
فشل بارزاني، ومعه مستشاروه المحليون والأجانب، في قراءة الإستراتيجية الأميركية في العراق التي لم تكن مستعدة لقبول تمزيق الخارطة العراقية مرة أخرى بعدما توحدت لتوها مع استعادة ثلث الدولة من داعش. فالقضاء على تنظيم ينخر جسد دول عربية ويغير الخرائط أهم بكثير من التعامل مع ولادة دولة كردية قد تغير خرائط دول أخرى وتربك معادلات المنطقة برمتها.
قضي الأمر، وأضاع الكرد بعد استفتاء الاستقلال دولتهم شبه المستقلة التي نعموا بها طوال أكثر من ربع قرن.
لكن في الجهة المقابلة، إذا كان الغرض الأساس من استعادة كركوك إلى «حضن العراق» يهدف إلى فرض السيادة وإعادة اللحمة الوطنية، فقد تنتج عملية الاستعادة، مثل الاستفتاء الكردي تماماً، نتائج عكسية تماماً، بسبب الطريقة التي جرت بها والخطاب الذي رافقها. فبعد دخول القوات العراقية وفصائل الحشد الشعبي المدعومة إيرانياً، وارتكابها انتهاكات متزايدة بحق الأكراد من تهجير وقتل، ليس آخرها مقتل صحافي كردي، أركان شريف، بأكثر من أربعين طعنة مع ترك السكين في الفم لرمزية ما يعنيه لسان مطعون بالسكين، تشير الأنباء والتقارير الواردة من شوارع أحياء كركوك والمدن والبلدات المجاورة كطوز وداقوق إلى المزيد من التفكك والشروخ المجتمعية، التي يشوبها العداء في أحيان كثيرة، بين أبنائها الكرد والتركمان والعرب.
السؤال الآن هو هل يضيّع العراق كركوكه المستعادة في حرب أهلية تدفع بالمدينة إلى السقوط من حضن الوطن إلى بركة دم لا قعر لها؟ أما الحلم الكردي الذي كان من المفترض أن يحققه الاستفتاء، فوصفه أحد أكراد كركوك بصوت خافت أقرب إلى الانكسار والشعور بالهزيمة بعد دخول القوات العراقية المدينة بيوم واحد: «انتظرنا مئة عام بعد اتفاقية سايكس بيكو، والآن علينا أن ننتظر مئة عام أخرى، لكن الأكراد وحدهم يتحملون مسؤولية الهزيمة هذه المرة». | |||
ت | عنوان المقالة او الافتتاحية | اسم الكاتب | مكان النشر |
2 | لا يحارب الفساد بالفساد.. ولا الإرهاب بالإرهابيين
| صباح علي الشاهر
| راي اليوم بريطانيا |
قضيتان تشغلان المنطقة والعالم، محاربة الفساد ومحاربة الإرهاب، فهل يحارب الفساد فعلاً، وكيف؟، وهل يحارب الإرهاب، وبأي إسلوب؟ وكيلا نضيع في العموميات سنقصر مناقشتنا لمحاربة الفساد والإرهاب في المنطقة، وتحديدا في العراق والسعودية، وهما البلدان الأكثر صخباً الآن في محاربة القضيتين الكونيتين في مبتداهما ومنتهاهما. لا أحد في العراق لا يتحدث عن الفساد، لا يستثنى من ذلك حتى الفاسدين الذين هم أعلى صوتاً، وأكثر ولوغاً في الفساد، أما الفساد في السعودية فلا يشار إليه إلا من خلال بعض الأصوت المعارضة المعزولة في الخارج، وإذا تجرأ قلم عن الحديث عنه ولو بالإشارة الخفيفة إنهالت عليه الأقلام المشتراة والمجندة في صحافة وإعلام السعودية بالتقريع والإتهامات، وليس أقل هذه الإتهامات العمالة لإيران . منذ تنبه حكام السعودية بعد الفورة النفطية لأهمية الإعلام ودوره، وهم ينفقون عليه ما يكفي لبناء بلدان، والقضاء على الفقر كلياً، ولا يختلف فاسدو العراق في هذا، فلكل فاسد منظومته الإعلامية، من صحافة وتلفزيون وأقلام مأجورة، مستعدة لتفصيخ من يتجرأ على المس بولي نعمتهم، ويتساوى في هذا من هم في السلطة ومن يدعون المعارضة لها، وطبيعي أن تكون التهمة جاهزة هنا للقلم المشاكس وهي العمالة للسعودية . تهمة العمالة لإيران، مثلما تهمة العمالة للسعودية سلاح الفاسدين، والأقلام المعتاشة على الفساد، لقد أضحى القلم الحر الشريف كالمصاب بالجذام، ليس له سوى العزل في الأماكن النائية، وأعتقد أن هذه الظاهرة هي إحدى تجليات الفساد ومسبباته . الفساد في العراق بين، ومسبباته بالغة الوضوح، ونتائجه بارزة للعيان . الفساد في العراق نتاج طبيعي لبنية ما يُسمى بالعملية السياسية بكل مفاصلها، بدءاً بالدستور، وقوانين السلطة الإنتقالية البريمرية، وصولاً إلى التقاسم الطائفي والأثني، العملية السياسية بنيت برمتها كي تجعل الفساد شاملاً، ساحقاً، ماحقاً، لا فكاك منه، أي بلد يوضع له نظام كنظام الاحتلال في العراق لن يكون سيداً، ولا قوياً، أو منيعاً، ولا متوحداً، ولا ديمقراطياً، سيكون حتماً بلد الفساد والإفساد، والضعف، والتفكك، وسيجعله فيئا، ينتهبه كل ناهب، صغر أم كبر . في حالة العراق، فإنك لو أزحت فاسداً، مع بقاء الأمور على ما هي عليه، فإنك ستزيح فاسداً موصوفاً، بفاسد على طريق الفساد الحتمي، محاربة الفساد ستكون ناجحة عندما تحارب علة الفساد والإفساد . لو سألت أي مواطن عراقي عن الفاسدين سيقول لك الجميع، ولا يستثني أحداً، كل موظف ومستخدم، وعامل في الدولة، صحيح أن هذا ليس صحيحاً بعمومه، فثمة شرفاء كثر في مفاصل الدولة، لكن ظاهرة الفساد الأعم تغطي على نماذج الشرف والنزاهة، وتجعلها غير مرئية . المطلوب في العراق ليس إبدال الوجوه على أهميته، وإنما إبدال السلوك، وإبدال السلوك لن يتم إلا بإبدال القوانين السيئة، بقوانين عراقية من العراق وللعراق . وضع السعودية قد يبدو مختلفاً عن وضع العراق للوهلة الأولى، لكن نسبة التشابه بينهما كبيرة . لا طوائف، ولا أحزاب تحكم في السعودية، ولكن عائلة واحدة تحتكر البلاد إسماً ومعنى، الأرض بمن فيها وما عليها غنيمة للعائلة، التي لا تحاسب على شيء، وليس من حق أحد أن يحاسبها، فهي واجبة الطاعة بشخص الملك وأتباعه وأشياعة وخدمه ومريديه . فساد العائلة هو فساد الحكم، وفسادها ليس خاف على أحد، لكن لا يجرؤ أحد على الجهر به . ما الذي يجري الآن باسم مكافحة الفساد في السعودية ؟ ما يجري تماماً هو تحويل حكم العائلة إلى حكم الفرد المطلق، وحصر السلطات كلها بيد شخص واحد، هو الملك، السلطات التنفيذية والتشريعية، والرقابية، والإقتصادية، والعسكرية والأمنية، والإعلامية .. لم يعد ثمة شيء لا يسيطر عليه الملك . هل يعد هذا محاربة للفساد، أم تدويرا له، من فساد بين متنافسين، إلى فساد بلا منافس ؟ ما المطلوب كي نقتنع بأن ما يجري في السعودية هو محاربة للفساد، وليس حصر السلطات كلها بيد الحاكم الأوحد، وإزاحة المنافسين ؟ المطلوب، بسيط جداً، هو تحويل نظام الحكم إلى نظام ملكي مقيد، وإقامة برلمان منتخب من الشعب، يختار حكومة تدير البلد يراقب هو عملها، وفسح المجال لحرية الرأي، وحرية تأسيس المنظمات والأحزاب والنقابات، وتقليص صلاحيات الملك لا زيادتها، بمثل هكذا وضع يمكن للسعودية أن تستقبل الثلاثين عاما القادمة بإرتياح، وتفاؤل بغد مشرق لأبناء وبنات المملكة . محاربة الفساد في العراق، وكذا في السعودية عنوان كبير لأفعال صغيرة، هي تماما كلاعب كرة يسدد كراته، لا داخل شباك الخصم، وإنما داخل شباكه، أو خارج الميدان . |