مساء الثلاثاء الماضي بتوقيت واشنطن، تابع عشرات الملايين من الأميركيّين، وغالبًا أضعافهم من الأمم المختلفة، نائبة الرئيس كامالا هاريس وهي تقترب من الرئيس السابق دونالد ترمب وتصافحه.
كان هذا هو أول اجتماع بينهما على الإطلاق، إذ لم يسبق أن التقيا من قبلُ، قبل أن يتصارعا على المسرح لمدة تسعين دقيقة حول العديد من القضايا الجوهريّة.
كان من الواضح أن المناظرة غير عادلة بالفعل، ذلك أن الرئيس السابق، المرشّح الجمهوري الحالي دونالد ترمب يواجه ثلاثة منافسين، هاريس والمحاورَيْن اللذَيْن تعمّدَا تصحيح بعضٍ من بياناته، فيما أغفلا العمل بالمثل مع أخطاء هاريس المتعمَّدة، وهو أمر كان متوقعًا من محطة الـ ABC.
أظهر الجدل الذي استمرّ نحو تسعين دقيقة، أن الصراع الداخلي يسيطر على تفكير المرشحين، وأن انتخابات الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، إنما تجري برسم الصدام الذي يكاد يكون عنيفًا ومسلَّحًا، لا بشروط حيثيّات المنافسة السياسيّة الراقية والخلّاقة.
تشارع وتصارع ترمب وهاريس على قضايا الحدود والهجرة، على البرامج الصحية والاقتصادية، على الماضي وإشكالياته بأكثر من المستقبل ومآلاته.
والثابت أنه وسط هذا الضجيج والدوِيّ الداخلي، والاتهامات التي كالتها لترمب، من جرّاء إشكالية السادس من يناير/ كانون الثاني 2021، خَفَتَ جدًّا صوت الاهتمام بالقضايا الخارجية، الأمر الذي عَبَّر عنه “رافي أجروال” رئيس تحرير مجلة السياسة الخارجية الأميركية “فورين بوليسي”، في مقال له بعنوان “المناظرة بين هاريس وترمب لم تعلمنا إلا القليل عن خطط الولايات المتّحدة للعالم”.
يمكن للقارئ أن يدرك صحة هذا القول حال انسحابه على المرشَّح الجمهوري ترمب، غير أنه من المثير أن يكون الأمر على النحو نفسه بالنسبة لهاريس .. ماذا نعني بذلك؟
باختصار غير مُخِلّ، تبدو فكرة الاهتمام بالداخل، فكرة ترمبِيَّة بامتياز، من منطلق أنَّ جَعْل أميركا عظيمة مرة أخرى، يعني بشكل أو بآخر تفضيل الإحجام على الإقدام على صعيد الشؤون العالمية، أي اتّباع ضرب من ضروب السياسات الانعزالية.
كان من الواضح للغاية أنه خلال سنوات ترمب الأربعة قد فضَّل التركيز على معالجة قضايا الداخل الأميركي، بأكثر من تركيز الاهتمام على مشاكل العالم الخارجي القلق والمضطرب، وقد رفع عنوانًا مفاده أن أميركا ليست شرطيَّ العالم ولا دَرَكَهُ، وبالتالي هي ليست مسؤولة عن شروره وكوارثه.
هل كانت أفكار ترمب هذه تمثِّل استجابةً لمشاعر قوميّة أميركية داخلية؟
ذلك كذلك قولاً وفعلاً، فقد شهد القرن الحادي والعشرون عودة تقاليد السياسة الخارجية الأميركية التي كانت تعتبر في السابق من بقايا الماضي العتيق إلى الصدارة.
ولعل الناظر للمشهد الأميركي يقطع بعودة الشعبويّة القوميّة الجاكسونية، التي كانت تعتبر في السابق مجرد مشاعر غير ناضجة تركتها أمّةٌ مستنيرة وراءها، بقوة أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
ومع غزو إدارة بوش الابن للعراق عام 2003، عادت الانعزاليّة الجيفرسونيّة – الاعتقاد بأن التدخل الأميركي في الخارج، لا يؤدي إلا إلى حرب لا نهاية لها، وإثراء النخب التجارية، وتآكل الديمقراطية الأميركية – الظهور كقوة فعالة على كل من اليمين واليسار.
لكن ما هو مثير هذه المرة، أن تعلو أصوات من على جانب الديمقراطيين تطالب بأن يكون لهم بدورهم أجندة “أميركا أولاً” الخاصة بهم.. كيف هذا ولماذا؟
ينصح البروفيسور “تشارلز كوبشان”، أستاذ الشؤون الدوليّة في جامعة جورج تاون، عبر مجلة “الشؤون الخارجية” ذائعة الصيت، القائمين على الحزب الديمقراطيّ بأن أفضل طريق لسحب البساط من تحت أقدام ترمب، ليس الارتداد عن حركة “أميركا أولاً” التي يؤمن بها تيار”ماغا” المتنامي بقوة في الوقت الراهن، والتي يتبنّاها المرشَّح الجمهوري ترمب، أو النظر إليها باعتبارها مجرد عمل شمشونيّ على صعيد العلاقات الخارجية. بل إن الطريق يتطلب تفكيك هذه الحركة، وفهم جاذبيّتها السياسيّة الكبيرة، والاستيلاء على عناصرها الجديرة بالاهتمام.
ما المطلوب فعله؟ ببساطة أنه إذا كان الديمقراطيّون راغبين في هزيمة ترمب وأجندته الانعزالية الجديدة، فيتعيَّن عليهم أن يتخلصوا من العناصر المركزية لبرنامجه “أميركا أولاً” وأن يتحولوا نحو نوع أكثر تواضعًا وضبطًا وواقعيّةً من الحكمة السياسية الأميركية.
هل يعني ذلك أن على الديمقراطيين المزايدة على ترمب، لا سيما إذا جرت مناظرة ثانية قبل موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة؟
يقول الديمقراطيون الثقات، إنه مطلوب إيجاد أرضية مشتركة بين النزعة الدولية الليبرالية التوسعية التي لم تَعُدْ قابلة للاستمرار في الداخل أو الخارج والتجاوزات الخطيرة التي من المرجَّح أن تصاحب عودة ترمب إن عاد بالفعل إلى الرئاسة ثانيةً.
غير أن فكرة التوازن هذه مشكوكٌ فيها، سيَّما أن الصراعات الخارجيّة في السنوات الأخيرة، لا تترك مجالاً لمثل هذه التوازنات، بل تستدعي إمّا الاندماج الكامل أو الانعزال التامّ.
ولعل خبرة أربع سنوات من إدارة بايدن الديمقراطيّة، تقطع بأنّه لم يكن من الوارد الركون إلى الانعزالية فيما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتجاوز الحدود الأوكرانيّة، وهو ما يبدو أن هذه الإدارة ماضية في إثره حتى نهاية ولاية بايدن، والتي قد يمتدّ حضورها حال فوز كامالا هاريس بالرئاسة القادمة.
يعِنُّ لنا أن نتساءل: “هل يمكن للولايات المتحدة بالفعل أن تستقيم في ظل حالةٍ من الانعزالية الشاملة والكاملة؟”
بالقطع لا يمكن للنظام الدولي بِراهِنِيَّتِه أن يمضي قدُمًا بدون الحضور الأميركي، مهما جأر الكثيرون بالشكوى، فالواقع أنه مع أميركا العالم يئنّ، لكنه بدونها سوف يتألّم، إذ لا تزال تمثل الكتلة الوازنة في الشؤون الدولية، ولم تظهر بعدُ قوى دوليّةٌ أخرى، تجعلنا نفكر في طرح “أميركا الأول بين متقدمين”، وإن كانت دورة الحضارات تخبرنا بأنه عند لحظة بعينها سوف يغيب القديم، ويولد الجديد، الأمر الذي تحدث عنه المفكر العضوي الإيطالي الكبير “أنطونيو غرامشي”، ويبدو أننا في الفترة الواقعة بين زوال القديم ومولد الجديد، حيث الكثير من الارتباكات تحدث، والقلاقل تسود.
الأمر الآخر هو أن فكرة الانعزالية الأميركية بشكل مطلق، لا تخدم العديد من المشروعات الأميركية العملاقة التي رسم خطوطها، ونسج خيوطها كبارُ عقليّاتٍ أميركيّة من نوعية روبرت كاغان ووليام كريستول وغيرهم، ضمن سياق مشروع القرن الأميركي للقرن الحادي والعشرين، أي أن يكون قرنًا أميركيًّا بامتياز.
والمثير أن فكر المحافظين الجمهوريّين هذا، مضى على دربه الديمقراطيّون حين وصل باراك أوباما في 2008 إلى البيت الأبيض، وإن وضعت هيلاري كلينتون بصمتها في ذلك الوقت، معدِّلة في الاسم لا المضمون، إذ بلورتْ ما عرف باستراتيجية “الاستدارة نحو آسيا”، ومفادها قطع الطريق على الصين ومنعها من النشوء والارتقاء والتحول الإمبراطوريّ، هذا من جانب، فيما الجانب الآخر فيتعلق بوضع العصا في دواليب الصحوة الروسية عسكريًّا واقتصاديًّا، وتشويه نموذج الصحوة السلافيّ بتوجيه اتّهامات الشموليّة والديكتاتوريّة له.
هل يمكن أن يكون مستقبل أميركا بين ترمب وهاريس هو طريق الانعزالية؟
دعونا ننتظرْ ونَرَ إلى أين تمضي أميركا.