هناك صمت سياسي واعلامي كلي، مطبق، يحيط باستخدام قوات التحالف، بقيادة أمريكا، سلاح الفسفور الابيض القاتل في مدينتي الموصل والرقة. هناك في الوقت نفسه، سيل من تصريحات سياسية واعلام يمتد على مدى ساعات الليل والنهار، يدين ويستنكر ما تستخدمه «الدولة الإسلامية» من أسلحة في ذات المدينتين. الضحية الاولى في كلا الحالتين هو المواطن. واعداد الضحايا من القتلى والمهجرين والنازحين في تزايد مستمر. لم يعد للارقام والاحصائيات معنى في سباق عبثي بين قوتين تحاول احداهما تحقيق « النصر» ضد الاخرى ورفع راية النصر وقوفا على تلال من اجساد المطمورة تحت ركام المباني حينا والمحروقة حينا آخر. في مسابقة الموت هذه يتساوى الطرفان. الطرف الإرهابي الاول: التحالف الانكلو أمريكي الذي غزا، واحتل، وأسس الطائفية والفساد، مستثمرا روح الانتقام لدى الساسة المستوردين. هو المسؤول الاول، مهما حاولت الطبخات الاعلامية، ومؤسسات الدعاية الديمقراطية والتعبئة السايكولوجية ـ العسكرية تزويقه. الطرف الإرهابي الثاني هو من هيأ الاحتلال وجرائمه أرضية نشوئه من منظمات باتت تزداد جنونا وتوحشا بمرور الوقت. انها بإرهابها، الوجه الآخر لإرهاب دول استباحت شعبا وهدمت بلدا، وجعلت من الاعتقال والتعذيب والقتل ممارسة يومية برضى محلي ودولي بذريعة، تشكل اكبر استهانة بالعقل الانساني، وهي «محاربة الإرهاب». تحت مظلة « محاربة الإرهاب» الواسعة، الخاضعة لكل التفسيرات الانتقائية، والتغطية الاعلامية الجاهزة، تتم الاغتيالات بواسطة الطائرات بلا طيار، كما في اليمن، وقصف المدن كما في غزة وسوريا والعراق. في العراق، قصف طيارون أمريكيون سكارى، تترنح طائراتهم يمينا ويسارا، مدينة الموصل، أخيرا، فأصدرت القيادة العسكرية الأمريكية، عند سقوط مئات الضحايا من المدنيين جراء قصف المباني، بأنهم انما كانوا يستهدفون اماكن لداعش بناء على معلومات عسكرية عراقية! وكان رد فعل النظام، بحكومته ونوابه، على التهمة الموجهة ضد القوات ( انتبهوا ليس ضد القصف )، تشبه وصوصة كتكوت حال خروجه من البيضة، تستمر لبضع ساعات ثم تختفي. الجريمة الحالية التي ترتكبها القوات الأمريكية هي قصف مدينتي الموصل والرقة بالفسفور الابيض. واذا كنا قد سمعنا، سابقا، وصوصة من الحكومة والنواب العراقيين، فاننا لم نسمع ولو ثانية منها هذه المرة. لماذا؟ هل لأن الفسفور الابيض مادة « ذكية» تتعرف على الداعشي فتلاحقه وتحرقه لوحده وان كان موجودا ضمن مجموعة من الناس؟ أم انه، لكونه صناعة أمريكية، مباركة من قبل الانظمة العربية، قادر على شد عزيمة المواطنين في قتالهم التنظيمات الإرهابية ؟ أم انه سلاح سريع آخر لتطهير مدن معينة من سكانها ؟ الفسفور الابيض، وهو ذخيرة متعددة الاستخدامات، ليس محظورا كسلاح كيماوي بموجب المواثيق الدولية، لكنه سلاح خطير يشكل ضررا مرعبا وطويل الأمد في المدن المأهولة، بغض النظر عن كيفية استخدامه، اذ يبقى في التربة، مسببا حرق جسم الإنسان بمجرد الملامسة. الا ان أمريكا لا ترى ضررا في استخدامه في حروبها المنتشرة على وجه العالم كما البثور على وجه مراهق. حيث استخدمته في حربها ضد فيتنام، وفي مدينة الفلوجة المقاومة عام 2004. واستخدمه الكيان الصهيوني ضد قطاع غزة المحاصر في 2009. في 2016، استخدم التحالف بقيادة السعودية في اليمن ذخائر الفوسفور الأبيض المدفعية. وكانت صحيفة « التايمز» البريطانية قد نشرت تقريرا بعنوان: «محررو الموصل متهمون باستخدام الفسفور» في أكتوبر 2016، اتهمت فيه « قوات التحالف» بالقاء قنابل الفسفور الابيض على قرية كرملش، قرب الموصل، حسب تقارير وصور وثقتها منظمة العفو الدولية التي ذكرت بانه على الرغم من أن قرية كرملش قد أخليت من سكانها، لكن الفسفور الأبيض يمكن أن يبقى في تربتها مشكلا خطرا على السكان بعد عودتهم إلى منازلهم فيها. لتوضيح صورة التأثير المخيف لاستخدام قنابل الفسفور الابيض، تقول دوناتيلا روفيرا الباحثة في المنظمة إن «الفسفور الأبيض قد يتسبب في جراح مروعة وحروق عميقة في العضلات تصل إلى العظام. واذا بقي بعضه لم يحترق الا جزئيا فانه يمكن أن يشتعل بعد اسابيع من استخدامه». على الرغم من كل التحذيرات التفصيلية عن آثار الفسفور الابيض المرعبة على الانسان ( أو ربما بسببها؟) عاودت القوات الأمريكية القاء القنابل الفسفورية على مدينة الموصل في 3 حزيران/ يونيو 2017، وضرب مدينة الرقة بسوريا في 9 يونيو 2017، مما أدى إلى مقتل 20 شخصا كانوا في أحد مقاهي الانترنت، حسب منظمة « هيومان رايتس ووتش»، الحقوقية الدولية. التحذير الحقوقي الانساني متكرر من استخدامه « كسلاح حارق لمهاجمة أشخاص أو معدات في مناطق مأهولة»، وكون استخدام الفسفور الأبيض «يضيف مادة سمية جديدة في حرب قذرة عادة ما تستخدم المواد الكيماوية أسلحة فيها»، فما هو موقف الحكومات العربية « الوطنية» التي تدعي تمثيل شعوبها وحمايتهم؟ ليس هناك موقف محدد صريح. فالحكومات في معسكر واحد مع مستخدمي هذه الاسلحة ان لم يقوموا باستخدامها ضد شعوبهم بالنيابة. ورطانة الادانة والاستنكار، إذا ما أطلقت، لا تزيد عن كونها مجرد ذلك. ان ازدواجية مواقف الحكومات العربية من شعوبها، المحكومة بمتلازمة القمع والاستبداد، ناهيك عن ازدواجية سياسة الدول العظمى بصدد تطبيق الديمقراطية وحقوق الانسان الانتقائية، تكاد تدفع الشعوب العربية إلى الوقوف على حافة هاوية لا يرى غير قاعها. القاع المبطن باليأس والاحباط ونشوء طبقة جديدة من ساكني الخيام المهمشين على حافة الحياة الانسانية، ونسبة عالية منهم عرضة للتجنيد لأي جهة تمد لها يد المساعدة او السلاح. فما الذي سيحمله المستقبل لنا وللآخرين؟ هذه الطبقة المعرضة للتهديد والقصف اليومي بانواع الاسلحة المبيدة، المنسوج وجودها بالعوز وامتهان الكرامة، باطفالها المحرومين من التعليم والرعاية، هي التي ستصوغ مستقبل البلدان التي تقيم فيها ( حيث لاوجود لمعنى الوطن والمواطنة) ويمتد تأثيرها إلى العالم. |